شهقة واحدة، في عرف الزمن ليست أكثر من ثوان، في صراع أزلي يتكرّر منذ خَبَرَ الإنسان الموت، عند أول جريمة ارتكبها قابيل بحق أخيه هابيل، وحار كيف يسكنه دار الموات، وجاء الجواب على يد غراب يواري ندّه في التراب، سؤال دار وما زال يدور في ذهني :”من مات قبل الآخر الإنسان أم الحيوان ؟ هل مات الغراب قتلاً أم ماذا؟ كيف عرف الإنسان القتل ؟ ولماذا لم يدرك حتى الآن مقدار بشاعته ؟ وإن كان ندم على فعله فلماذا استمر في إتيانه ؟
و هل مازالت الغربان تدفن موتاها؟!”
يتبعه في كل تنقلاته، وكأنه ظلّه، بعد أن ربطه القدر به، طفل يخطو به العمر بقلق باتجاه الثامنة، يلحق برجل في أواخر الثلاثين، يمشي بعرج واضح بقدمه اليمنى، كم قميصه الأيمن يتدلّى، تلعب به ريح الخريف، كمّ لا يستر ذراعاً ولا تخرج منه يد …!ونظارة سوداء تأكل معظم ملامح وجهه، لو دقق أي واحد النّظر فيه لخاف مما يراه فيه، الندوب الكبيرة تعلمك أن ما تعرّض له كان شيئاً ليس بالقليل…
أما الطفل فآية من آيات الله…! لكن الجروح الغائرة في أطرافه، وأخرى في رأسه وجبينه، تحكي قصة كبيرة …!
في بلد الحروب، كل الأماكن مستهدفة، الأمان نسبي، وبنسب قليلة، قد تأتي القذيفة إلى السرير لتنام مع شاغله …!
لكنها كانت جائعة في ذلك اليوم من سنتين خلتا، جاءت إلى سوق الخضار بصخب الموت، وصافرة إسرافيل، فرقد الجميع فوق أديم الأرض بين ميت وجريح، أحياناً لا يمنحنا الموت فرصة للنطق بالشهادة، أو لوداع من نحب، هكذا غادر وحيدي أحمد الحياة…!أصرّ على الذهاب مع والده إلى سوق الخضار، لم أفلح بإغرائه بالبقاء بالبيت، سحب والده من يده مستعجلاً إياه، يريد الهرب من إلحاحي على بقائه، كان على موعد مع الموت …!هناك رقد بسكون إلى جانب والده، الذي استفاق من غيبوبة، ليجد نفسه غارقاً في بركة حمراء، تغذّيها نوافير تتدفق من رأس أحمد وبطنه، توقّفت الحياة على وجه أحمد بابتسامة، أما أمجد (زوجي ) فقد آطلق صرخته التي ظنّ أنها قد تبعث الأموات.. لكنها عجزت عن بعث أحمد …!تحرّك عند سماعها طفل على بعد مترين منه، يئن متألّماً، وإلى جانبه رجل لفظ أنفاسه الأخيرة .. كان والده…! قبّل أمجد ابننا أحمد، حاول جرَّه باتجاه الطفل الآخر، عندها اكتشف أنه لا يملك إلّا ذراعاً واحدة …!
ذراعه الأيمن كانت حصة الموت منه، رآها ملقاة على بعد أمتار قليلة..مازالت ساعته تزين معصمها، طريقة اعتادها، أن يلبس الساعة بالرسغه الأيمن لتذكيره بشيء ينوي فعله …!
فإذاً، ذراع واحدة لا تكفي لجرّ ميت وإنقاذ حي في وقت واحد.. لكنها تكفي لإخراج (علي) من ساحة الموت تلك … الغريب أن الخضراوات في سوق الخضار لم تتضرّر، فقط تبعثرت …! وكأنّ القذيفة تنتقي طعامها، جوعها لا يشبعه الخضار، وإنما يشبعه لحوماً بشرية، ودماء تشربها وتكاد لا ترويها…
المسافة بين أمجد وعلي لا تزيد عن مترين، يقول أمجد أنها كانت بحساباته آلاف الكيلومترات …ما إن وصل إليه حتى أحاط جسدَه النازف بذراعه اليسرى، ومضى به زاحفاً على إسفلت الساحة التي تضمّخت بالدماء، وسحجت بدنَيهما، هذه المسيرة استهلكت كل طاقته، وغاب عن وعيه..استفاق ليجد نفسه في دائرة ضوء شديد، لم يستطع أن يتحمّل شدّته فأغمض عينيه، ليسمع لغطاً وصراخاً، وهمهمات سريعة، فهم منها أن المشفى يغصّ بالضحايا والجرحى، وأنهم يحاولون إيقاف نزوفه، تمتم :”ابني، ابني” . رددّ عليه أحدهم :” اطمئن، هو بخير، لقد نجا بأعجوبة”!
عندما حضرتُ إلى المشفى، أخبروني أن أمجد بخير، لكنه ما يزال في غيبوبة المخدّر، وسيصحو بعد دقائق، وأن ابننا بخير، ضمّدوا جروحه، وأيضاً ما يزال غائباً عن الوعي…
دخلت الغرفة.. واتجهت مباشرة إلى طفلي، صرخت ملتاعة: ” هذا ليس أحمد، أين أحمد ؟”هرعت إلى أمجد، أمسكت بيده الباقية، ضغط على كفّي، همهم:”اسكتي الآن، سأخبرك القصة لاحقاً، هذا الطفل هو ابننا إلى أن يأتي أحد من أهله”.
مرّت الأيام بالمشفى ثقيلة إلى أن تعافى أمجد وعلي، قال لي أن اسمه علي وأنه قدم من قرية بعيدة، أتى به والده إلى هنا بعد أن ماتت أمه في مرضها العضال، ضاقت الدنيا بوالده، كما ضاقت ذاتُ يده، ولم يجد معيناً، فنزل بابنه إلى المدينة يبحث عن عمل، و لاقاه القدر في سوق الخضار.
الآن.. علي ينام بسرير أحمد، ويلعب بألعابه، يدرس بمدرسته، يرافق أمجد في معظم مشاويره، ويذهب معي إلى المقبرة، ويأتيني بالريحان، نزيّن به قبراً، ونقرأ الفاتحة على روح أحمد.. ووالد علي.