19 ديسمبر، 2024 12:11 ص

إيقاع اللغة الشعرية ومقاربات النص قراءة في ديوان (جنوب المراثي) للشاعر مسلم الطعان

إيقاع اللغة الشعرية ومقاربات النص قراءة في ديوان (جنوب المراثي) للشاعر مسلم الطعان

لغة  الشعر هي لغة تختلط فيها الألوان والأصوات والأطياف لتوصيل الولادة الحقيقية للإنسان  والعالم بكل بساطته وتلقائيته وربما تفاهته، بعيدا عن ما يغلف هذه الولادة من أغطية سميكة فرضتها اللغة الشفاهية أو القواميس اللغوية، فهل تفترق لغة الشعر عن اللغة العادية المتداولة شفاهياً أو كتابياً، على اعتبار إن اللغة هي أداة توصيل وتواصل وتفاهم، أو هي ( ملكية مشتركة وللكلمات والتراكيب معنى لا يمت إلى الفردي بصلة) بتعبير تودروف، وفي غياب هذا الاشتراك ينعدم  التواصل وتتحطم اللغة وتصبح مجرد كلمات جوفاء خالية من أي معنى، ولكن هل إن لغة الشعر هي لغة مشتركة ؟ فكيف إذا تتحقق تلك الفرادة التي يمتاز بها الشعر، إن كانت لغته مشتركة ومشاعة، إنها قد تبدوا مشتركة ببنائها  الخارجي أو كما حددها تدوروف بـ(الكلمات والتراكيب) ، فالفرادة تتحقق من خلال تلك الأطياف التي تسبح مخترقة الفضاء الممتد بين العمودين الرئيسين في أي عملية تواصلية – المرسل والمتلقي –  بامتداداتهما التاريخية القارة والمتغيرة، وهذه الأطياف هي التي ربما تعطي صبغة إبداعية مفارقة للنص الشعري، حيث ممكن لنا أن نخرج الشعر من دائرة النظرة التقليدية للشعر والمتأثرة بالطروحات الشعرية القديمة، التي تقرن عظمة النص بعظمة الموضوعة التي يطرحها.
 قد يخضع الشاعر (لفاشية اللغة) كما يصفها رولان بارت، بيد انه يطوعها من خلال استنفاذ كل طاقتها الإيحائية، وارتباطاتها الأخرى المندغمة داخلها، كأيحائات تشكيلية أو لونية أو حتى موسيقية، حيث إن الأطياف الشعرية تتحرك من خلال ذلك العزف المنفرد الذي يستدعي كل مخزون الإنسان المتلقي من مشاعر وأحاسيس وذاكرة، إن كانت صورية أو سمعية أو شمية، ويدخلها في فضاء الشعر لتحقيق الموازنة الشعرية..
ولنأخذ ديوان (جنوب المراثي)* للشاعر مسلم الطعان أنموذجا، ولو نظرنا داخل نصوصه ستتكشف لنا تلك اللغة الشعرية، وذلك البناء الذي حاول عصيان التلازم القاموسي لما تعودت عليه الأجناس الأدبية ومنها الشعرية من ألفاظ، واجترحت وسائل عدة لتفتح الدوال على قراءات متعددة، لتكتسب لها عمقين عمقها التاريخي والعمق القرائي الذي ولده النص، بعيدا عن تداولها الأول وسطحيته، بيد إننا سنقتطع أربع نصوص من نصوص المجموعة، لنحاول محاورتها واكتشاف الدور الذي تلعبه اللغة، ولنبتدئ بنص (قد تمضي) الذي ينبني على لازمة تتكرر على طول النص بدءاً بالعنوان، وتقسمه إلى أربع مقاطع، فالمقطع الأول:

قد تمضي لديار لم تألفها
يأخذك الموجُ غريقاً
في بحر الوجع المضني
من يعطيك دعاء امرأةٍ
كانت توغلُ في قتلك عشقاً؟!

أما المقطع الثاني:
قد تمضي للغربة وجهاً
لم تعرفه الطُرقاتُ الكسلى
تنثر عطراً في زمن
العفن الطاعن بالسن
خطواتك مازالت تلفظها الطرقات الكسلى.

والمقطع الثالث:
قد تمضي طفلا أتعبه الجريُ
وراء دمى تهرب من كفيه
تنام على أرصفة الحلم وحيداً
يأخذك النوم فريسة أوجاع تترى
تؤوب إليك طيورُ الليلِ
تنقر حبَّ ضياءٍ من بيدر عينيك

أما المقطع الرابع:
قد تمضي
جلبابك جرحٌ مازال يغني
للجسد المجهدِ في حلكات الصمت
شموع الصوتِ تُضئْ

مما يجعل لازمة (قد تمضي) مرتبطة بعدة تداعيات، حاول الشاعر من خلالها أن يوصل لا يقينيتها، وفي نفس الوقت أحتمالية وقوعها، وتبدو هذه التداعيات المرتبطة باللازمة (قد تمضي) والمتوزعة على المقاطع مرتبطة بتوجه واحد، وان اختلفت تراكيبها والمداخل التي توصل إلى ارتباطاتها الدلالية، حيث تتشكل كدلالة مهيمنة على جميع المقاطع والنص بصورة عامة، جاعلة النص بترديداته وصداها، تصنع توجهاً يحكم المبنى الدلالي ويجعل تلك اللايقينية او الاحتمالية هي محرك الإحالات التي تبني العلاقة بين مفردات النص والنص الشعري المتشكل والمبنية على الضمير (انت)، وسرعان ما تختفي تلك التداعيات وتبقى اللازمة/اللغة تتردد كصدى لصوت النص:
قد تمضي
قد تمضي
قد تمضي..!
تعبيرا عن امتداد ذلك اللايقين، فكانت اللغة ممثلة بهذه اللازمة عزفا منفرداً، يوحي بالامتداد والتشكل والاختلاف بما أضمرته تلك اللازمة بترجيعاتها من دوال.
      وكذلك نص (خيل) إذ تظهر اللغة الشعرية من خلال الربط بينها وبين ذاكرتها المتمثلة بكلمة (خيل) الواردة في النص، كلازمة تتكرر على المقاطع، والتي تتلون تبعا لتغير المقطع ودلالته، بيد إنها تختلف عن اللازمة السابقة بأنها وبالإضافة إلى تأثيرها كلازمة متغيرة، استندت على مبناها الدلالي والعلامي المتغير، والذي ولده الاستخدام المتنوع لها، لأجتراح عدة أبنية دلالية قائمة بين تلك اللازمة وقيمتها داخل المقطع وأيضا داخل النص كاملا:

خيلٌ في مدن مهجورة
أتعبها الليل

أو:
خيلٌ جائعةٌ ومليك الجوع يعد وليمة قتلٍ كُبرى
في ساحاتٍ
سيجها بجماجم أطفال ذات مساء

وأيضا:
خيلٌ جائعة تبكي
أم هذا بعضُ نزيف ينزفه غيم الشعراء..؟!

فلو أردنا أخذها بتوصيفها المعجمي القاموسي لما استقامت دلالة النص وانفتحت دلالاتها على فضاءات أخرى أعطت النص تلك الحيوية، حيث قام النص بتمثلها وحاول أن يعطيها لونا أخر، عندما سلخها من قاموسيتها واستفاد من استخداماتها في ذاكرة الشعر لتعزيز مقولته الشعرية المتوزعة على مقاربات النص.
       أما نص (أوراق في قارعة الخبز المسروق) فينبني على تناص مع قصة النبي يونس –عليه السلام- وكذلك قصة آدم –عليه السلام-، وذلك من خلال الاستخدام المباشر لمفردتي يونس والحوت وكذلك أوراق العفة التي تقودنا إلى الأوراق التي سقطت عن آدم وحواء والتي كانت تغطي سؤتهما عندما أكلا من الشجرة المحرمة، بيد إن المزاوجة بين هذين التناصين داخل النص ستظهر الدلالة التي يبنيها، عندما يتلاعب بشفراتها ويبني متناً جديداً، تلعب فيه اللغة وتداعياتها دوراً مهماً، حيث تأخذ المفردات دوراً في تفعيل النص وتوالده, من خلال الدوران حول مركز التناصين. ففي التناص الاول كانت المفردات تدور حول (يونس، البحر، الحوت) حيث تحاول ان تبني لها توصيفا ايحائيا، بتفعيل العلاقة الدلالية بينهما، كما يظهر بالعلاقة بين حيتان يونس وحيتان الخبز في المقطع التالي:

يا يونس حيتانك أرحم من حيتان الخبز المسروق
فزمانك بحرٌ من قيظٍ والبرد تراتيل صلاة
وزماني لا صحراءٌ من غيض ومجامر حيتان غرقى
تهتك عرض القوم لقاء رغيف

إلى أخره من العلاقات الأخرى على طول النص:

غربلنا يا يونس،
وثقوبُ الغربال الجائع تلفظنا
نحو الحيتان الفاغرة الأفواه

أما نص (نواح على ضفاف الكسر) فربما يوحي لنا بالعلاقة التي انبنت عليها النصوص السابقة وهي اللازمة اللغوية بيد إن هذا النص لا يستند على تشكيل تلك اللازمة كعلامة لغوية يتلاعب في توظيفها وإحالاتها، لخلق توتر بينها كدلالة، وبين ارتباطاتها الوظيفية داخل النص كبنية لغوية، وخاصة في نص (خيل)، وانما يستند على الاحالة المباشرة لمفردة (الكسر) وارتباطاتها بمرجعيتها العلامية كأيقونة، والتي تمثل مركز أستقطاب للذاكرة وتدور في فلكها اللغة بذلك الإيقاع ألذاكراتي بيد إنها توزعها في مدارات تأخذ شكل المتوالية المبنية على جذر واحد وهو (الكسر)، متوالية مبنية على العلاقة بين (نحن، مراثينا، خواطرنا، مأقينا) و (الوطن) و (الكسر):

هذا الوطنُ
وطن مجبولٌ من حزن مراثينا
وطن صحو وجنون
لمسافات تركضُ فينا
وطن يحضنه الكسر
بضلوع أوجعها الكسر
وكسر خواطرنا من يجبرهُ
لو فاضت دمعات مآقينا..؟!

حيث يقوم الشاعر بإدخال تلك المفردة في عدة تداعيات ارتبطت بها ارتباط مباشر ،(الأم: الولادة،  الثكالة) – (الولد: الحياة، الغياب) – (الكسر: الوطن، الموت ) كما في المقطع التالي:

الام الثكلى تطعن خديها
بسيوف أظافرها
وتخاطب شط الكسر:
“أردْ أناشدك يا شطْ
                إبنيّي وين وديته
إوليدي شمعة الديون
                  ويْ صحبانه خليته..؟!”
أو يدخله في فضاء أخر وبرؤية جديدة تعطيها بعدأً أشارياً أخر، وان استندت على الدلالة القاموسية كذاكرة لغوية أو كشفرة تفك ارتباطاته الشعرية وتحيل إلى جذره التاريخي:
بجفني شاعرةٍ عانقها الكسرُ
فأعطت مزماراً لرعاة رقصوا
والإيقاع يطوف شواطئنا
منحت نايا لجنوبٍ يبكي
للطفِّ بنزفٍ عمده الكسر.
ويبقى ديوان (جنوب المراثي) مفتوحا لعدة قراءات، وخاصة تلك التي تحاول أن تؤسس لها القصيدة الأخيرة والتي تحمل عنوان الديوان، حيث يحاول بها الشاعر تجريب نمط شعري جديد، بأن يستقدم جنس أخر بعيد عنه وهو (المسرح) ويوظفه داخل القصيدة بعد أن كان الشعر هو الذي يذهب إلى تلك الأجناس ويتلبس لبوساتها التي قد تقسره على أن يكون مطواعاً إلى آلياتها ومنهجيتها.

* جنوب المراثي (شعر) – مسلم الطعان – دار الكرمل للنشر والتوزيع – عمان 2004