كتلة قذارة آدمية تتنقل في شوارع المدينة التي كانت إلى ما قبل سنوات قليلة قمة في النظافة والرقي.-” سبحان مغيّر الأحوال، هل عرفته؟ ” نطقها أحد المارة ضارباً كفاً بكف منبهاً مرافقه، مشيراً باتجاه الرجل، كهل انحنى، تكوّم هيكله في بذّة فاضت عليه، وتقطّعت في مواضع كثيرة، لترسم خارطة عالم البؤس والشقاء، إن أمعن أحدهم النظر فيها قد تدلّه بقعة صغيرة جداً أنها من القماش الفاخر المصنوع للنخبة، سوادها خالطته كل ألوان القذارة، فغدا لوناً بلا انتماء…الحذاء ، أو بقايا الحذاء لا أحد يستطيع أن يميز هل الرجل هو من ينتعله أم أن الحذاء هو من ينتعل الرجل …!صياد بارع ذاك الذي يتمكّن من رؤية وجهه الذي أصبح أفقه عمودياً باتجاه الأرض، وجه تجمدت قسماته، عينان غارتا بمحجرين واسعين كانا يوماً ما مسكناً يضيق على ساكنيه، جبين مغضّن، وجد الغبار والتراب في أخاديده مرتعاً خصباً فأقام، أنف استطال ، وشفتان غادرتهما الحدود فأطبقتا على بعضهما حدّ الالتحام، وجنتان كساهما الشعر كحقول الشعير، وشعلة باهتة شعثة كللت رأساً انحنى …! عندما نقلت جوارحي هذه الصورة إلى تلافيف عقلي حيث عمليات التحليل والتفسير والمحاكمة ، اختصم ضميري و قلبي، القلب أشفق :
-” لماذا تجور الدنيا على ناسها ؟ ولماذا تكون أحكامها قاسية؟ لماذا لا ترحمهم بالموت بعد أن قضت عليهم بالجنون ؟ ألا تكتفي بعقاب الآخرة ؟ وخصوصاً إن كان خطأ الإنسان بحق نفسه ؟ يعني ليس بحق غيره ؟”. نهرني ضميري :-” اسكت ، وكيف للإنسان أن ينتهك أمانة الله ؟ أليست النفس وديعة الله عنده؟ هل من حقه أن يعتدي عليها ؟ هل من حقه أن يلوثّ جوارحه التي ستشهد عليه يوم الحساب ؟ ألا يمكن أن يكون عقاب الدنيا تخفيفاً له من عقاب الآخرة ؟ و فرصة للاستغفار والتوبة ؟ هناك ذنوب تستوجب عقوبات دنيوية، تكون مرحمة مدّخرة للآخرة ، وعبرة لمن يشهد في الدنيا “.
عندما ينفث التنين نيران حقده، يحيل المكان القابع فيه إلى جمر و نار ، الغريب أنه هو نفسه لا يحترق! بل يتجدد، يكبر وينمو، تؤازره الريح التي أبرم معها صفقة سرية، تحمل أنفاسه النتنة إلى الأماكن البعيدة التي لا يصلها لهيبه، فتحيلها قاعاً صفصفاً، وفي أحسن الأحوال رماداً وخراباً، يعسكر فيها أباليس الأنس بالترافق مع الشياطين، وكان نصيب هذه المدينة أنها أصبحت مسكناً لهؤلاء، مع قلة من المساكين الذين حُكِم عليهم بأن يكونوا تحت سطوة أولئك …..
أهل المدينة قد لا يعرفون بعضهم جميعاً، لكن المؤكد أن الجميع يعرفون وجهاءها…
كان أحد أبرز الشخصيات في تلك المدينة، قوامه الفارع، وسامته اللافتة ، أناقته المتميزة، رائحة عطره النفّاذ، مقتنياته الشخصية الباهظة، كلها مظاهر تشكّل نتاجاً واضحاً لعلاقة مميزة بينه وبين الدنيا، الدنيا التي صادقته وأمعنت بتدليله و إغراقه بمتاعها ومتعها، أحبّها وأخلص لها إخلاصاً عجيباً، جعله ينغمس في شهواتها، متلذّذاً بكل ما فيها، واستغرقته الغفلة، ثراء فاحش، سطوة وسلطة، سهر وعربدة و ليل ماجن، ومرابع نساء وخمر وميسر، وطفلة وحيدة ظنّها إحدى العطايا وسيتبعها باقي الذرّيّة ، فهو لا يعرف إلّا الكثرة، ولديه الكثير من كل شيء، لكنه لا يجيد الإحصاء، ولا الحسابات، أمطرته الحياة بهطلها، فتشابهت عليه النساء والقصور و المزارع، خاف عليه المخلصون، لكنه لم يلتفت لصوت ناصح ولا نذير.الدنيا تاجرة ماهرة، تعطي بالبداية لتكسب الزبون وتجرّ رجله، ثم تبدأ لعبتها الشهيرة، الكسب والقبض حتى يعلن الشريك إفلاسه، مقدماً لها كلّ ما ملّكته، حتى شرفه وعرضه…!
على ذات الطاولة الخضراء التي تكدست عليها انتصاراته وربحه، دارت نفس الآلة بنفس الدولاب، وخسر مجمل ثروته، وبات يستجدي من زبانية الفساد أن يمهلوه الوقت ليقضي دينه، وهو من لم يرحمهم يوماً، باع معظم ما بقي لديه من أملاك، ولكن لم يكفِه ذلك، الخسران أكبر مما ملك …!عندها أعلن إفلاسه، متنصّلاً من الكثير من الديون، تكتيك تعلّمه ممن سبقه، ولكن الدنيا لديها الكثير من خطط الهجوم، وتقنيات التحصيل، ولا بد لمن تاجر معها أن يدفع المستحقات كاملة، وفوقها ضريبة…!
رياح الحرب التي هبّت على البلاد، صحيح أنها لم تطل مدينته بالدمار والخراب، ولكنها طالتها بالفوضى وانعدام الأمن وغياب الأنظمة الرادعة ، فعاث فيها المفسدون، عصابات سرقة وخطف وسلب، زينة الحياة الوحيدة التي بقيت له، اختطفتها إحدى تلك العصابات، و لم تقتنع أن الخزينة فارغة، فبيت السبع دائماً عامر ولو ببقايا العظام، الفدية كبيرة، عجز عن دفعها، وانفضّ عنه من كانوا يوماً ندماءه وسمّاره، بل وأصبحوا أعداءه، كونه غدر بهم ولم يوفِّهم دَينَهم، انقضت المهلة الممنوحة وبعدها أخرى، جُنّ جنونه لكن في النهاية أُسقِط في يده، عجز عن شراء طفلته…!
في وقت أسود وصلته رسالة من المختطفين مفادها أن طفلته (تبرّعت) بأعضائها وهم قد قبضوا الثمن الذي فاق مقدار الفدية بكثير ..!كتلة القذارة الآدمية الآن تجوب الشوارع ، تبحث في قماماتها عن كيس أسود، ضمّ أشلاء طفلة .