الجزء الأول- الاشتراكية والعدالة الاجتماعية
حاول المفكرون السياسيون والاقتصاديون من شتى الميول الفكرية على مدى عقود من السنين اقتراح الاجراءات والبرامج الاقتصادية لمعالجة ظاهرة الفقر في المجتمع والمعاناة الاجتماعية والصحية الناتجة عنها على أمل تحقيق ما اصطلح عليه بالعدالة الاجتماعية. لقد اتبعت لهذا الغرض سياسات ضريبية استهدفت بالاساس ذوي الدخول العالية في المجتمع وتحويل عوائدها نحو العاطلين عن العمل وذوي المداخيل المتدنية على شكل اعانات مالية مضمونة أو خدمات اجتماعية مباشرة لحين حصول العاطل عن العمل على عمل. لكن تلك المعونات لم تنه الفقر ولم تقض على ظاهرة انقسام المجتمع الى أغنياء وفقراء ، فئة اجتماعية بالغة الثراء وطبقة واسعة من الناس معدمة محرومة من اشباع الكثير من حاجاتها الضرورية ما يعزز حقيقة انعدام العدالة الاجتماعية في المجتمع سواء كان ذلك في ظل النظام شبه الاقطاعي المندثر أوالراسمالي السائد بدرجة واسعة في عالم اليوم.مفهوم العدالة الاجتماعية الذي يعني التوزيع شبه المتساوي للدخل والثروة بين المواطنين غير ممكن أبدا في ظل وجود الملكية الخاصة غير المحدودة لوسائل الانتاج. فما دام حق الملكية وحرية النشاط الاقتصادي مضمونان وفق دستور الدولة ( أي دولة ) غير محدد بسقف يبقى مصدرا لتعظيم دخل البعض من مالكي تلك الوسائل بنفس الوقت الذي تبقى فيه طبقة واسعة من المجتمع نفسه لا تملك شيئا غير قوة عملها.
لهذا فان الحديث عن توزيع شبه متساوي للدخل والثروة يبقى بدون معنى وغير قابل للتحقيق اذا لم يستأصل أصل الظاهرة المتمثل في حق الأفراد في ملكية وسائل الانتاج. واذا ما نظرنا الى العدالة الاجتماعية من هذه الزاوية فهي ظاهرة طبقية مرتبطة عضويا بالرأسمالية ونظامها الذي يجيز لطبقة ملاكي وسائل الانتاج السعي لتحقيق الارباح من خلال استحواذهم على فائض قيمة قوة العمل التي تتحول في مجرى عملية الانتاج الى رأسمال. أرباب العمل الذين يشترون قوة عمل العمال الذين يعملون لديهم يحاولون خفض سعرها الى أدنى مستوى ممكن ليستحوذوا على اعلى حصة من فائض القيمة مصدر ارباحهم. لقد ابتكرت الدول الرأسمالية نظام التكافل الاجتماعي ( الممول من الاستقطاعات الضريبية على رجال الاعمال وبقية العاملين ومن موارد النشاطات الاقتصادية الحكومية) ليضمن لغير العاملين دخلا شهريا يكفل لهم حياة كريمة.
ليس قبل ظهور النظرية الاشتراكية يكتشف العمال وأحزابهم مصدر ثراء أرباب العمل وأسباب فقرهم وجوعهم ، لقد اكتشفوا ان أجر العمل الذي يستلمونه مقابل يوم عملهم المضني الطويل ليس الا جزءا من قيمة قوة عملهم التي بيعت لرب العمل أما الجزء الآخر غير المدفوع من قيمة قوة عملهم فقد استبقاه أرباب العمل لمراكمة رؤوس أموالهم فيصبحون من كبار الرأسماليين. فالعمال ينتجون في جزء من وقت العمل قيما سلعية يستخدمونها لاشباع حاجاتهم التي تبقيهم وعائلاتهم على قيد الحياة ( معبر عنها بالأجر اليومي الذي يستلمونه) أما ماقام به العمال في الجزء الآخر من يوم العمل فهو عمل غير مدفوع الأجر ( معبر عنه بالسلع المنتجة ) يحتفظ بقيمته رب العمل ملكية خاصة له بعد دفعه تكاليف انتاج السلع التي انتجها في معمله أو ورشته.
ان ذلك الجزء من قيمة العمل غير المدفوع هو ما يطلق عليه كارل ماركس بفائض القيمة أو العمل المتراكم وهو الهدف الذي يسعى اليه ارباب العمل وباعادة استثماره يضاعف الرأسماليون رؤوس أموالهم فينتقلون من فئة اجتماعية الى أخرى أكثر غنى وهكذا ينقسم المجتمع الرأسمالي الى عدد من الطبقات تتدرج على شكل هرم تكون الطبقة العاملة قاعدته السفلى وهي الأدنى في سلم الدخول وحيازة الثروة بينما تتربع في القمة طبقة الأثرياء وهذه هي الاخرى تنقسم بدورها الى فئات تتربع فئة أصحاب البلايين قمتها العليا . فلو تعذر على أرباب العمل تحقيق فائض القيمة التي تكمن فيها أرباحهم لما استثمروا رؤوس أموالهم في النشاطات الاقتصادية هذه ولسرحوا جميع العمال من أعمالهم.
لقد ابتكر الرأسماليون سبلا كثيرة لمضاعفة ثرواتهم مثل استخدامهم لاساليب تقنية جديدة أو تشغيل العمال ساعات أطول أو تشغيل الأطفال بأجور ادنى أو استخدام الروبوت في بعض النشاطات الاقتصادية بدلا من العمل الحي وغير ذلك وفي هذه الحالة فأن الرأسماليين يحققون مردودا يحقق لهم ليس فقط فائض القيمة الاعتيادي بل فائض قيمة مطلق يرتفع فيه هامش الأرباح. فكلما تحسنت اساليب استخدام الموارد الاقتصادية كلما ارتفعت انتاجية الفرد العامل التي تؤدي بدورها الى زيادة الانتاج وتحسين نوعيته فزيادة فائض القيمة. لكن زيادة الانتاج لا تؤدي بالضرورة الى تحسين مستويات الأجور فالهدف بالاساس هو زيادة الارباح وفقط اذا قام العمال بنشاط جماعي للمطالبة بتحسين مستوى اجورهم عند ذاك قد ينجحوا بتحقيق مطاليبهم بزيادة الأجور.
الاقتصاد الرأسمالي يتعرض بشكل متكرر لحالات الركود والانتعاش لأسباب كثيرة أهمها اختلاف قرارات أصحاب العمل في ظل سيادة مبدأ الحرية الاقتصادية وانعدام امكانية التنسيق بينهم. المبدأ السائد في الاقتصاد الرأسمالي هي حرية نشاط المشروع الخاص بنفس الوقت الذي تمتنع الدولة عن التدخل في قرارات أرباب العمل ما دامت هذه لا تخالف القوانين والقرارات المنظمة للحياة الاقتصادية وتختلف مبررات التدخل من دولة لأخرى ومن ظرف لآخر. وقد اختلف دور الدولة في الحياة الاقتصادية عبر الزمن ، ففي بداية الثورة الصناعية تزايد دور الدولة بحيث كان لها قطاعها العام الصناعي والخدمي والمصرفي لكن هذا الدور يبدأ في التقلص تدريجيا مع التقدم التكنولوجي وتطور المشروع الاقتصادي الخاص واتساع قاعدته وتكامل عملياته الانتاجية.
وقد اختلفت النظريات الاقتصادية في نظرتها أو تفسيرها لمبدأ تدخل الدولة فبعضها يجيز للدولة التدخل لانقاذ المشروع الاقتصادي الخاص عند تعرضه للمصاعب المالية والتجارية في حين تجيز أخرى للدولة قيامها بنشاطات اقتصادية لتشغيل القوى العاملة العاطلة وبتشجيع المشروعات الخاصة الصغيرة ودعمها ماليا بتخفيف الاعباء الضريبية عنها. كما ذهب بعض الاقتصاديين الى مدى أبعد فاجاز للدولة القيام بالنشاط الانتاجي صناعيا كان أو زراعيا في المجالات التي لا ينجذب لها المشروع الخاص اما لضخامة التكاليف الثابته ( البنية التحتية والمتطلبات التكنولوجية والالات الانتاجية ) أو لانخفاض هامش الربح فيها.
نظام الاشتراكية هو واحد من أهم النماذج الاقتصادية التي نظر الى دولته دولة العمال وحلفائهم بكونها الوحيدة التي يمكن أن تستأصل عدم المساواة في حيازة الدخل والثروة من خلال قيام مؤسساتها الاقتصادية بالاستثمار مباشرة في الموارد الاقتصادية والبشرية المتاحة فتقضي بذلك على البطالة والفقر في المجتمع بصورة شبه كاملة آخذين في الاعتبار ان بعض فئات العمل تتنقل من مهنة الى أخرى فتتعرض لبطالة مؤقتة. لقد نجحت الحكومات الاشتراكية في دول المعسكر الاشتراكي السابقة من معالجة ظاهرة البطالة التي كانت سائدة في الفترة الأولى من التطبيقات الاشتراكية فتمكنت بنسبة عالية من النجاح من استئصال أسباب الفقر وقضت على عدم المساواة في حيازة الدخل والثروة وحققت العدالة الاجتماعية. لكن هذا لا يعني تساوي أجور العمل ، فلكل مهنة متطلباتها الفنية والعلمية وعند حساب الكفاءة والخبرة السابقة ومخاطر العمل التي يتعرض لها العمال في ظروف الأخطار البيئية فان مستوى أجورهم يكون أعلى بالضرورة.
ومع القضاء على نظام الاستغلال الطبقي الذي ارتبط بالمشروع الرأسمالي فان فائض القيمة مصدر ثراء الرأسماليين وتكديس الثروات بايديهم تصبح من حق العمال أنفسهم من خلال قيام السلطة الاشتراكية باعادة انفاقه على شكل زيادات في أجورهم وتحسين الخدمات الصحية والتعليمية والسكنية والبيئية التي تخدم في المحصلة النهائية حياتهم وحياة عائلاتهم. ومع تقدم التطبيقات الاشتراكية في البلاد من خلال التصنيع الواسع والاصلاح الزراعي للارض وتطوير البنية التحتية فان نسبة متزايدة من قوى العمل ستنضم تدريجيا الى القوى العاملة بفضل التخطيط الاقتصادي والتقدم المحرز نتيجته. لن يتم ذلك بين ليلة وضحاها بل يتطلب وقتا وجهودا مثابرة على مختلف الأصعدة كتطوير فروع انتاجية جديدة في مختلف قطاعات النشاط الاقتصادي كتلك التي تنتج السلع البديلة للاستيراد او تلك الفروع التي تنتج سلعا جديدة للتصدير أو للاستهلاك الداخلي وبذلك سيمكن استيعاب أعداد جديدة من قوى العمل وسيمكن تحقيق الاستخدام الكامل للقوى العاملة.
الاشتراكية كتجربة أولى في التاريخ وفي روسيا خاصة واجهت ظروفا بالغة الصعوبة ولو كان ماركس حيا حينها لما نصح باعلانها في تلك الفترة بالذات ، فروسيا لم تكن دولة رأسمالية صناعية كاملة التطور ولا دولة زراعية حديثة بل كانت اقتصادا متخلفا في المجالين وقد انعكس ذلك على العلاقات الاجتماعية وعلى المستويات العلمية والثقافية والتكنولوجية باستثناء الوعي الطبقي والوطني فقد كانا متقدمين بدرجات عما كان سائدا في الكثير من الدول الاوربية الصناعية حينها. ان كل ما استخدمته السلطة الروسية من اجراءات ونظم ادارية ووسائل مالية ونقدية لتطبيق مفهومها للنظرية الاشتراكية كان ابداعا بمعنى أن الطريق الذي سلكته الدولة الجديدة لم يكن مطروقا من قبل حيث شقت طريقها اعتمادا على وعي وادراك قادة الحكومة الاشتراكية الجديدة وبالذات رئيسها فلاديمير لينين.
يعتبر فلاديمير لينين أول مفكر ماركسي يطرح تفسيره لمنظور الماركسيين الأوائل حول الاشتراكية في بلد غير متطور اقتصاديا ويشرع في تطبيقاته لها على واقع الاقتصاد والمجتمع الروسي. وبرغم عمق ثقافة الرجل واطلاعه الواسع وقدراته الفذة في الاقناع والقيادة والحوار والنقد تعرضت خططه لتطبيق الاشتراكية للمصاعب فلم يتردد في التراجع عنها حماية للمشروع الاشتراكي الذي أصر على انجاحه. التجربة الاشتراكية الروسية انتقلت منذ ايامها الأولى من محيطها وواقعها الجغرافي الى العالمية فاصبحت موضع اهتمام أمم كثيرة في القارات الخمسة وبصورة خاصة الكادحين فيها الذين توجهوا نحوها بكونها القوة الروحية التي حركت فيهم الرغبة للسير على طريقها. لقد رتبت تلك القوة الروحية العارمة مسئولية جديدة على الدولة الاشتراكية الأولى في التاريخ فكان عليها أن تثبت عمليا انها قادرة وليس فقط عازمة على تحويل تلك الوعود الى منجزات مادية تجد تعبيرها في ارتفاع المستوى المعيشي المادي والروحي للطبقة العاملة والشعب الروسي وهي المهمات التي وضعتها الاشتراكية موضوع الاهتمام.
واذا اعتبرنا طريق الاشتراكية هو البرنامج الذي ستضطلع به السلطة الجديدة فلم تكن تفاصيله واضحة حتى لقادة الثورة ذاتهم. فلم يستطع حتى لينين الجزم بمدى النجاح الذي ستحققه سلطة البلاشفة على أرض الواقع وفق النظرية الماركسية التي لم يتحدث صاحبها (كارل ماركس) الا القليل عن الخطوات العملية التي ينبغي أن تقوم بها سلطة البروليتاريا عندما تستلم السلطة. فالرجل كتب الكثير عن التراكم الرأسمالي وعن قيمة العمل وقيمة البضاعة والعمل المتبلور فيها وعن فائض القيمة وربح الرأسمالي فيه. كما كتب الكثير عن الصراع الطبقي الذي ستخوضه الطبقة العاملة ضد الرأسماليين أرباب العمل ، لكنه لم يكن على علم بقواه التدميرية والأشكال التي سيتخذها لاستعادة البرجوازية والرجعية لسلطتها ومصالحها المفقودة.