في إطارها التفاعلي مع مجتمعها تقود النخب الواعية ما يشبه المعركة , للتحرر من قيود الجهل فتنثني مرة لألتقاط نفس الحياة ليتسنى لها التقدم في مشروع محاط بالغام الطيش , معركة يموت فيها العقل عند الجماهير فيحاول الواعون صعقه بجرعات متتالية من ثقافة بناءة و متطلعة نحو الامام , ثقافة تبيح السؤال و تحرم السكوت , تستنجد بالعقل و الخبرة ولا تركن الى غير العلمي , فتجعل هدفها العقل في خدمة العقل .
دائماً ما تتقدم الامم بعقول عباقرتها و مفكريها و ليس بصيحات جماهيرها او بيافطات يرفعها العوام دون الاكتراث بما مكتوب بتلك اليافطة.
المهمة صعبة اذا ما قورنت بين تغيير يتمحور حول المجتمع و اخر حول الدين واخر حول ذات المغير الواعي ( المثقف)
فبالتالي كل هذه الفروع الثلاثة متغيرة و مغيرة وغير مطلقة في الايمان العقائدي الذي تؤمن به , هذا ما يشعرنا ان كل الاشياء المتغيرة عبر هذا الكون تحتاج الى مراجعة ثم الى تشذيب و تغيير فيما هي عليه , هذا التغيير ياتي عادةً من اقطاب المجتمع الفاعلين و المشتغلين بالحقل العلمي المعرفي , فتؤسس آجرة البناء نحو النهضة و التغيير بتلك العقول ..
مجتمع كالمجتمع العربي يصعب فيه الدوران و البحث حول الايمانات المطلقة التي تعود عليها الجمهور , فأنت يجب ان تؤمن بالحقيقة المطلقة, اي النتيجة التي ورثتها من أهلك بدون جهد او عناء.
المشكلة التي تزعجني حقاً ان المجتمع العربي يعج بالواعين و الذين يحملون افكاراً متقدمة جداً , لكنهم ما ان يسنح لهم طقس ديني او اجتماعي او سياسي, حتى تجد ان اكثر هؤلاء الواعين قد انخرطوا مع الجماهير غير الواعية .
تماهي العقل الواعي مع الجماهير و ممارسته لطقوس يبتدعها العقل الغرائزي المتخم بالخرافة و الجهل , يقلب أحقية ذلك العقل بالتميز و التقدم و النضج و يحيله الى رقم ينضم الى صفوف ملتهبة وغير واعية .
في كتابه سايكلوجية الجماهير , يقول كوستوف لوبون:
( الخصائص الاساسية للفرد المنخرط في الجمهور هي : تلاشي الشخصية الواعية , هيمنة الشخصية اللاواعية , توجه الجميع ضمن نفس الخط بواسطة التحريض والعدوى للعواطف و الافكار , الميل لتحويل الافكار المحرض عليها الى فعل و ممارسة مباشرة , و هكذا لا يعود الفرد هو نفسه و انما يصبح انسان آلي ما عادت ارادته قادرة على ان تقوده
مجرد ان ينطوي الفرد داخل صفوف الجماهير فانه ينزل درجات عديدة في سلم الحضارة )
عندما يلتصق الواعي بالجماهير محال ان يغير بتلك الجماهير شيئاً , لكنه من الممكن ان يأخذ دوره الفعلي عندما يتقدمها كمرشد ناضج .
إنخراط بعض المثقفين و الواعين في ممارسات بيئية طقوسية غير عقلية , لا ينهض بتلك الممارسات لأن تأخذ دوراً ريادياً متصدراً في المشهد الفكري الثقافي او الديني التعبدي , بل سيرتد نكوصاً على الظاهرة الطقوسية و على المثقف في نفس الوقت .
يتوهم بعض الاشخاص ان الطبيب و المهندس و غيرهما من حملة الشهادات العليا , متفوقون بالفكر و الثقافة كما هم متفوقون في اختصاصهم العلمي ! وهذه معادلة غير منطقية تؤمن بها المجتمعات القاحلة معرفياً و تروج لها كثيراً .
يقول لوبون ( يمكن أن توجد هوة سحيقة بين عالم رياضيات شهير وصانع أحذيته على المستوى الفكري، ولكن من وجهة نظر المزاج والعقائد الإيمانية فإن الاختلاف معدوم غالبا، أو قل إنه ضعيف جداً)
هذه الفقرة بالتحديد تستدعي منا التوقف عندها متمهلين , لكي نكشف بعض ما آلت اليه المنظومة المعرفية المتمثلة بالواعين , عندما انخرطوا إنخراطاً متهالكاً يريدون إشباع نهم العوام و تطمين بعض السذج من انهم (الواعين) لازالوا يفكرون في نفس الدائرة التي يفكر منها الأمي و الجاهل . تفكير عزز من قوة الشارع العام في ممارساته المستفحلة نحو منطقة اللامنطق و شرعنة اللامشرعن, فتمادى ذلك الشارع بعدما تهاون المسؤول و تماهى المثقف.
ما معنى ان ينساق المثقفون خلف طوابير أسسها جهلاء القوم وعديمي المعرفة للتقرب الى الله او السلطان ؟ ما تحليل إنهماك بعض الواعيين لحضور ولائم لا يكون فيها العقل حاضراً و غير مبالين او معترضين على منجز يقدم الهذيان و الصياح باسم الله او الثقافة ؟!
في متاهات هذا المنزلق غير المنضبط و مع تهاون و نكوص النخبة الواعية تتراجع المجتمعات و يموت فيها العقل الذي يدرك الاشياء فينظمها و يرتبها . كما يقول ابن رشد .
مشكلتنا محيرة حقاً فعندنا القدر الكافي من المثقفين و الناضجين , لكن ليس عندنا القدرة على التقدم نحو مشروع علمي فكري . الرعب المسطور في اذهان بعض النخبة , اتى بنتيجتين غير مرضيتين وهما :
انغلاق المثقف على ذاته و انطواءه على معلوماته دون ان يفصح او يشرك احداً بها .أمام هذا التماهي من قبل المثقف يتمادى المجتمع بطروحاته غير العقلية و يسحب كله بكله الى دائرة الفعل أمام اللاتفكير .
مهمة الواعين الان ليس الردح مع الجماهير غير الواعية , بل الاشارة لتلك الجماهير على الاستدلالات العقلية و الدينية و تثقيف المجتمع بجرعات فيها وعي مغاير ناهض لا يحتمل المحاباة و المجاملة , مالم تكن رغبتنا بالتغيير حقيقية سنلبث مصفدين أمام ولائم موت العقل الجماعي و سنشيع ارواحنا بايدينا و برغبات خارجة عن قدراتنا لإيقافها.