29 ديسمبر، 2024 8:54 م

ذلك هو الشعر … نوال الغانم نموذجا

ذلك هو الشعر … نوال الغانم نموذجا

قالوا :
وضع الشاعر رأسهُ بيد الوهم
وقال لهُ:
خذهُ.
لذلكَ أصبح الفضاء ضيقاً على جسده.
 
قلتُ لهمْ:
كل ليلةٍ،
أمسكُ تفاصيل الضوء من يدها
وأدلها على الطريق.
ذلكَ هو الشعر،
 
على ركبتيَّ أُجلسُ الهواء
وأمشط شعرهُ الطويلْ.
ذلكَ هو الشعر،

أحفرُ في جدار الظلام امرأة
تحملُ نهراً فوق رأسها
وأتركُ الألوان تخضبُ جدائلها.
ذلكَ هو الشعر،

تحذرنا الناهية القرانية ( الشعراء يتبِعُهُم الغاوُون ،……. يقولون ما لا يفعلُون ) من آفاق الإنزياحات الشعرية بين قول يخالف فعل ، لإعادة اعتبار الروح لنصاب الجسد حسب المفاهيم الربانية ، لم يمنع ذلك الشعراء وتلك خصوبتهم من رسم ملامح  أحلامهم التي استهانت بمنجز الوعي وهامت تتبع بصيص أمل لخلق معادلها النوعي.

ونوال الغانم في قصيدتها :  ( ذلك هو الشعر )  إنما ارادت أن تقول قولتها في محل الدفاع عن معتقدها  كونها أنثى القصيدة ، موقفها إزاء حضورها كعنصر مطعون يحاكي الطبيعة  الأنثوية الخصبة .
أبتدائية اللعبة لم تقل هذا هو الشعر فتدجُنه بين يديها وحياً خاملاً لا يلبي استعدادات تفاعلها ،  بل ارخت المسافة على مقلتين ، لتراه محلقا بالقرب من نياط شغفها ، يومئ لها ،   ولكي لا يحدها المعنى الضيق بنرجسيته فيُصيرّها ذو ملامح سهلة الانقياد ، لم تجالسه وجها لوجه فالقريب ملامحه ملساء لا يُثير الشعور فيها ،   تبنيها له  فيه من الشفافية ما يجعله ملاكا يطير بجناحين ، حطَّ اليوم هنا لكن مرتعه عند شجرة الإخضرار… هناك  ، ذلك هو الشعر…
قالوا :
وضع الشاعر رأسهُ بيد الوهم
وقال لهُ:
خذهُ.
لذلكَ أصبح الفضاء ضيقاً على جسده.

بين قالوا و قلتُ لهم ، بين من / أصبح الفضاء ضيقا على جسده / وبين من يُثري الفضاء بحضوره ، فجسده فيض الفضاء ، / تلك مبتدأ الحكاية وخاتمتها.
إذن ، الهدف الاساسي من تنزيلها هو محاججة المنظومات وتحذيراتها ، من جهة رد الاعتبار لجسد الشاعر وقد ضيقته بعض المدارس الأدبية والشعرية خاصة ، على طريقة الآية القرانية ( وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ )
ومن جهة أخرى ، التهمة الموجهة للشعر بكونه  فضاءا خصبا لمرتعب الإبليسية كما فصلت بذلك النصوص المقدسة ، من هنا  جاز لنا  أن نتخيل حجم الصراع الذي يمر به المفترق الشعري المنتج وهو يعاني مأزقا بين نزاعين ، تَخلفه عن خلق عوامل التواصل مع الحياة ، باعتباره لونا من ألوان الغاوُون كما يصرح بذلك أصحاب الميولات الفقهية والأصولية .
الالتفاتة عند الغانم من خلال قصيدتها ،   أنها عرجت بنا على واحدة من أهم معضلات الحركة الشعرية ، السؤال الأهم : هل مهمة الشعر بذر بذور الجمال أم أنه مجرد عن ذلك ؟  ، فالتوجيه ببوصلة بمكان ما يجعل من المشاعر مكبلة ، لذلك ليس من مهمته أن يكون أخلاقيا ، توجيهيا أو حتى جماليا ، بل هو إنعكاسا طبيعيا لما تمر به الطبيعة البشرية ، كالمرآة تعكس الوجوه المختلفة ، تلك حجة النظرة المعاكسة.
من هنا إشارة الشاعرة وهي تناقش شعر وفكراً / قالو : وضع الشاعر رأسه بيد الوهم ، وقال له : خذه ، لذلك أصبح الفضاء ضيقا على جسده / ، هذا التحجيم من قبل فصيل شعري يتسم بالذكورية برأيها كما نرى، حاول أن يرسم ممرا واحدا لا غير ، حصار الشاعر وعدميته وهو مطارد بين وهمين أحلاهما مر ، كالأبوية حين تصادرعالم الطفولة بدواعي الوصاية ، وبمحاولة ذكية أستطاعت الغانم التحكم بدوافع قلقها  لتخلق حالتها الشعرية المتطامنة مع وهمها المنتج ، فما جاء على لسان ردود أفعالها يتسم بالخلق والبناء ، وكأنها الروح المتدفقة في بعث حقيقية الأشياء ،  ( تأخذ / تخلق / تحفر / …وتطلق ) ، حتى تستعيد اللحمّة بينها وبين شغفها غير المرئي ، لتنقية وجودها المُخترَّق ، ذلك هو الشعر :

أحفرُ في جدار الظلام امرأة
تحملُ نهراً فوق رأسها
وأتركُ الألوان تخضبُ جدائلها.
ذلكَ هو الشعر،

آخذُ السحابة من يدها
وأدلها على أجراس الحقول العاطلةِ،
ذلكَ هو الشعر،

أطلقُ الغبشَ طيراً يتمزز برمانة قلبي.
ذلكَ هو الشعر.
لمَ التعجب؟
الفضاء
لا يسعُ قبضة يدي
الممسكة بتلابيب الخرابْ.

 موارد اللغة الشعرية  / 

حرصت الشاعرة نوال الغانم في إعادة تشكيل دفاعاتها  اعتماداعلى تناغمية اتسمت بالشفافية والجمال ، ما جعل من مفردتها البسيطة الواثقة أن تأخذ مدياتها دون تكلف أو استعجال ، كما جاءت جملتها الشعرية منفتحة على الحكمة ، أقرب إلى المتنفس التفاؤلي ،تتسلسل كماء عارف طريق الإرواء ، لذلك كان حضورها غالبا ما يخلق الأجوبة النوعية لأسئلة وجودية غير مرضيّة  تشتغل في جوانياتها /  فالشعر متهم حتى يُثبت براءته على طريقتها / ،   كما  أنها استعانت ببعض مصادر الطاقة لتنويرها / الضوء ، الهواء ، الماء … / متنفسا لتفعيل وجدانها لكسر القيود ، ناهيك عن اقتصادها ، اختصار جملها الشعرية على ذات النسق الوجداني مرهف الإحساس ،   حيث تبدأ جملها الشعرية بأفعال المبادرة والخلق / أمسك ، أمشط ، احفر ، آخذ  ، أطلق…/ ، ثم تتهجد عملية بعث تنزيلها الشعري ، ما يشبه اطلاق عنان المكبلات لتأخذ مدياتها ، فكانت بمثابة المدافع الحقيقي عن وجدان مشاعرها التواقة  ، التي اتخذت من اللغة إزميلا تنحت منها سقوفا لطيور أصابعها …
وما التأكيد المستمر على جوابية ، قلتُ لهم …  ، سوى محاولات متكرر لتنشيط عزيمتها من خلال اشباع ذهنية المتلقي بفرضية جُبلت طينتها عليها فغذتها حتى نمت وترعرعت قاب قوسين من  متنفسها الوحيد الذي ينشط رئتها الحيوية… غير مخادع هو ، غير أن الأموات بمنأى عن اللحاق به ، لا يصدقونه ، ذلك هو الشعر :
 
قالوا:
ينحتُ الشاعر من اللغة سقفاً لطيور أصابعه،
لذلكَ تضيقُ جيوبهُ بالحقول.
قلت لهم:
الشعر لا يخدع أَحد،
غير أن الموتى لا يصدقونه.
 
ما أن يعلق الحبر شمعدانه في شرفة الخيال،
حتى تخلع القصيدة خفيّها وتركض فوق الورق.
الشاعر لا يشبه أحد،
بدليل، كلما ألتقيكَ أضع بيدك نهراً،
وكلما أودعكَ،
أرسل وراءكَ الغيمة لتحرسكَ من الشتات،
بامكانكَ أن تراني بوضوحٍ:
كيف أن الحرب لم تترك مكاناً في قميصي
إلا وبللتهُ الشظايا.
 
النزعة الصوفية في لباس الحكمة /

هل يمكننا من خلال ما تقدم، أن نطلق على الشاعرة نوال الغانم  تسيدّها بمنهل أهل  البياض ؟
الجواب : نعم ، فهي قد وجدت نفسها ضمنا في ثلة استثناء الآية القرانية الكريمة ( الشعراء يتبعهم الغاوون ….. إلا الذين أمنوا )
فمن خلال سيرةهذه القصيدة وقصائد أخرى وجدنا تفردها بأنتقاء ( المفردة / الجملة ) المتدفقة بالحياة والعذوبة علاوة على الموسيقى الشفافة البعيدة عن الضجيج والافتعال ، ناهيك  عن كون جلّ المقاطع الشعرية تزخر بألوان القوس قزح  ، متناسقة فيما بينها ، بل بات اللون الرمادي ضمنا سمادا يثري عالم الإخضرار: / شجرا ،غزالته ، ينابيع ، جرس الإخضرار ، عنق المطر ، يولد من نخلة ، حتى ينتهي سلسبيل تقاطر تهجدها بنكهة لفظ الجلالة ليثمر ، ولكن بأي صورة  :
هو:
ترابُ الله،
يحملُ دم النخلة بين يديّهِ، ويصعدُ عالياً
هذه اللغة المتسامية في كهنوت نوال الغانم ، جعل من نشيجها مباركا مُستثنيا في قيم السماء ، شفافا طيعا يُطرِب القلوب ويُنعِس الحواس ، لا يسبب ثلمة ولا يوآخذ عليه ، من هنا يمكن القول أن الشاعرة قد حققت الرأي الذي يقول بأن الشعر لغة جمال وتصالح  مع ( الكون /  الذات )  في أرقى حالاته كما في الأثر الصوفي والعرفاني ، يتسامى إذا ما توافق مع قدرة وقراءة عارفة تنبع من ذات الطبيعة البِكر ،  مُخلية المجال من طرفه الآخر للغة التصادم  مادامت النفوس المأزومة على حالها تبحث عن أسئلة مقنعة لأجوبة ارهقت كاهلها…
مع هذا القلق العصي… ومع ذاك  التوحد المفضي ،  نقول مع نوال الغانم ، صدقت الرؤيا، …إلا الذين آمَنوا :
ذلك هو الشعر…

قالوا :
يسوي الشاعر الرياح شجراً ليسترد غزالته،
لذلك تجلسُ بين يديهِ الينابيع .

 
قلتُ لهم :
ألا ترونَ كيف يعلق جرس الإخضرار في عنق المطر؟
يولد من نخلةٍ،
ويدفنُ تحت جذع نخلةٍ .
وحتى بعد موته،
يطردُ الغبار من شرفة القصيدة .
 
هذا هو الشعر
 
يشيدُ من الهواء بيتاً لعائلةٍ
ألقتها يد الجفاف خارج السرير.
ليس هذياناً
ولا جناح طير مقصوصْ،
ولا حنجرة مثقوبة يتساقط منها الرماد،
هو:
ترابُ الله،
يحملُ دم النخلة بين يديّهِ، ويصعدُ عالياً

شكرا نوال الغانم …