24 ديسمبر، 2024 12:50 ص

القصيدة في طريقها إلى فم بوذا…….!

القصيدة في طريقها إلى فم بوذا…….!

ليس للشعر وطن رغم أنه أكثر بقعة في الكون تحتوي على خرائط لتضاريس لا تحصى وبالرغم من هذا تشعر أن كائنا كالشعر ربما آتى في لحظة بدء كوني من كوكب أخر ليسكن الأرض ويرينا شجن أن يرتقي المرء بوجوده إلى مكان آخر غير هذا المكان المحصور بين قطبين، قطب في الجنوب وقطب في الشمال .
يأتي الشعر عندما نصاب باستباق ما لحقيقة أن نكون تحت تأثير خد مشفرة الرغبة للتلاوة وليس القول، وتراهم ( أي الشعراء ) ينساقون لنمط معين من شعور لا يتجانس مع الرابط الحياتي ، أي إنهم يهيمون بفضاء تتحرر فيها أحساسات الواقع لتبدو شيئا آخر فيه من الهلوسة والارتقاء بالمكان والكلمة الشيء الكثير ، إنهم يتلون الموسيقى من الأفئدة فيما يتلو الموسيقيون الموسيقى من آلات متعددة ولهذا كانت روح الشعر تبدو مثل هيجان الجسد حين تتحرر من ذاكرة اللحظة لتنصب كلمات وبحور على الورق ومتى تنتهي مودة التواصل بين الرغبة البعيدة واللحظة الأرضية تنتهي القصيدة إلى خاتمة قد يدخل عليها فيما بعد تصحيح وتعديل وحذف وإضافة لكن لحظة التوهج والخلق الحقيقي مرت ولن تعود ..
أفكر ببوذا ..وبوذا يفكر بي . وما بيني وبينه كالذي بين صفاء النبع والمشاعر الغامضة . أنه يفكر بكونية الشعر وأنا أفكر بكونية الرغيف والرصاصة وما بيننا يبدأ بسؤال أجابته تبدأ (كن معه وتعلم من حركة أجفانه).
وما بعد ذلك فلكل مسار محطة يتكئ عليها بعد رحلة التعب ، ورحلتي مشتغلة بهيام اللحظة ومستعيرة شغاف فم الأنثى وساعية لتكوين إمضاءات الوصل على جسد الجملة ، فما يقوله الصامت يردده ألف لسان . تلك رؤية بوذا للعالم مستنارة بالإشارة ومستندة إلى أزل من ميتافيزيقيا الميكانيكا : (ما يدور يتحول في الآخر إلى موج بحور)..
أقف عند تلك الرؤية ، أتخيل فيها ما يمكن أن يحل بنا لو أن الأرض لم تحو الفلاسفة والقديسين والأنبياء . سنكون يبابا ، يشتبك فينا هوس المنجنيق وفوهات المدافع فيما لا يدخل الشعر موائد الصفاء ولحظة السكر أو انطلاق ما في الذات من الشجن اللوعة إلى رمش يغازل مكرا مع حزمة ضوء تحت شفتي امرأة جميلة. ومودة شعر لا تمل حتى بإنجاب الأنبياء مادام القول الكريم يقول ( أن من البيان لسحرا ) ..
وعلى أديم الكلمة المشعة كيراعة تتحرك رغبة القول في إنسانيتنا ونحاول أن نجد مدركا لما نقوله فنلوذ بالصفاء الذي يمتلكه الآخر ومنهم العزيز بوذا . والبوذية أحد غنوصيات وصوفيات العالم القائمة على تجريد الذات من كل محفزات وأشكال دنيويتها ، إنها التعالي والذهاب إلى عالم لا ذرة تراب فيه تجبرك على مسح العوالق ولا صدى كلمة مشوشة تحتاج إلى تفسير ، إنها روح مدورة وتتحرك في محيط سديم من التأمل وقراءة لأفكار أخرى . وما هي الأفكار الأخرى : أنها (خليط من لذة نصنعها بإيعاز من غيب لا نراه ولكننا نحسه يتحرك بين أصابعنا وفي خفقان قلوبنا ، وفي نومنا نراه مثل فلاح البستان قادم إلينا بسلة الثمر). لهذا فأنه قائم على لحظة التأمل بقدرة حسه ولا أثر للجسد أو القوة ، ما تمنحه لنا طاقته الروحية هو ما تمنحه السماء البعيدة لمن يختار هذا المنهج ، ذلك أنك حين تود تنشئة الذائقة على سياحة الذهن ورقته عليك أن تنزع جسدا وتلبس آخر وهو ما تسعى إليه الصوفية تماما وما يفكر فيه الراقد تحت ظل نخلة المنى ينتظر تدفق موسيقى الزمن الذي أمامه وفي رجاء أسطوري يتمنى أن تسكت كل البلابل ويبقى الذي يتمناه وحده مغردا في سياحة العاطفة وصناعة الكلمة وتأويل الحلم إلى افتراض وجوده هائما وسابحا في ذاكرة الشعر التي نلبسها بياض الثوب وبياض النية وبياض التصور .
وعلى هاجس الزمن تنتظم هواجسنا ويقول الشعر أشياءه بهدوء حتى كأنه يتمالك شجن التواصل بين ماتريد وما لا يصل أليك من جمل تمانع أن تولد في خاطرتك كما تمانع الغيمة منح الحقل الظمآن المطر ولهذا يفكر البوذي في كل أزمنة هذا الخلق أن يستقر مع نفسه بعيدا حتى يفعل شيئا ، أنه يلوذ بالحكمة لكي لا ينشغل بقسوة الوقت وجروح الدقائق وعليه أن يهزم كل رغبته لامتلاك ما يقربه من شهوة الحاجة ، لذا هو يلوذ بالمطلق المتعالي ولا حاجة له في الماديات ويرينا هذا المقطع النثري الرائع الذي كتبه طاغور صورة من صور هذا التعالي والنأي عن المادة وعدم الانشغال فيها :
( كان الكاهن الكبير يسير مع تلميذه بمحاذاة النهر، وكان يملك سوارين من الجوهر عندما سقط أحدهما في النهر ، فذعر التلميذ وأراد أن يستخرج السوار وسأل معلمه : في أي مكان من النهر سقط السوار. فما كان من الكاهن الكبير إلا أن رمى السوار الآخر في النهر وقال : حيث سقط هذا).
كذا خلق في نفي الهاجس المادي إلى ماوراء حياتنا يدعونا إلى الاعتقاد بأن صناعة الشعر بمستويات عالية ممكنة في ظل طقوس من التسامي الصافي ويرينا أيضا إن صناعة الحكمة تلقي في حتمية الحركة الزمنية مع صناعة الشعر وهذا توفر في الصفاء البوذي الذي يقاد برغبة الدائم على المدام ، أي أن اللقيا تتحقق من التقاء المرادفات وليس من تناقضاتها وفي هذا شكل مستعاد للصورة الفارابية القائلة:
( ما تعطيه الموسيقى لن يخالف تحت أي ظرف ما يعطيه الشعر . )
من هكذا وعي بقيت فيما ملكت من وعي في مرحلة عمرية متقدمة أتصور إن الخيال لن ينطق إلا عندما يتكئ على فلسفة وقربت بتصوري رغبتي بأن اكتشف لحظة التوهج من خلال عزلة واغماضة جفن فلم احصل على المنى فتساءلت وكيف يحصل البوذي عليها ، فكان الرد : إن مجرد قراءة مدونة لتعاليم بوذا مثلاً لا تفعل شيئا ، عليك أن ترتدي الثوب وتذهب إلى الغابة بنفسك وتعيش ثلث عمرك تمضغ ورق الشاي الأخضر وتنتبه إلى خرير ماء النبع القريب منك وفي الليل تتأمل ما في السماء من موجودات وتتعلم مصافحة النجوم .
ضحكت فلقد كانت أصوات الحافلات وصفارات القطارات وزعيق إناث الجيران وأخبار الحروب وانقطاع الدروب تملأ مكاني ، فقلت : ما لبوذا لبوذا ، ومالي حطام كلمات يدعوها النقاد بقصيدة قالت شيئا من العاطفة وتحدثت عن جسامة ما يحدث .
وبهذا أنا لم أصل القصد وما أحتفي به ليس سوى سراب قصيدة ، أما الحقيقي فهو معهم ، وحدهم يمتلكون الحق بإمساك الكرة البلورية التي ترينا مصائرنا التي ذهبت والتي ستأتي بعد حين.
في البوذية يشع معنى الكلام بدلالة تأمل صاحبه .
 إنها ديانة لطقس الاحتفاء برؤية البعيد ، وهي تصنع متعة الوحدة بلحظة تقرير حال متلبسها ، ولهذا بقال عنها أنها واحدة من الطقوس الضوئية التي يغمرنا فيها ضوء عزلة المكان بضوضاء الزمن فنحصل على ما نريد من خلال تشييد رغبة لا نفتعلها بل نتمناها وبعد ذلك نسعى إلى صناعتها وعندما يكتمل نرى الغياب مرسوما تحت أجفان قعدته الحجرية حيث تتحرك موجودات المكان كلها في حين تقف أزمنته في بؤرة من التركيز على شيء لا يراه سواه وبهذا تكون القدرة على الكشف قدرة موجودة ولكنها مصنوعة بمعجزة .
يسعى الصوفي إلى كشف ماهية غاية . الشعر يفعل ذلك أيضا . يحاول صانع المخيلة أن يلف الاثنين ببردة واحدة وعندما يفعل بأتي مخاض  المزج . كرة متوهجة من أفعال وتأملات لا تحصى هي نتاج قدرتنا على إحياء ما نريده ولذلك يصل الجسد والذاكرة إلى حد من حدود الاختراع وهو ما أتقنه المتصوفة أيضا في منازعاتهم بين المادة وهيام الروح فكانوا يقولون : (إدراكه يأتي بالحس . والحس عزلة) .
نص آخر يشتغل بمغايرة الحس وانتشار التنويع وسطوع التفاعل ومزج الأزمنة بآنية التخيل :
( لقد رأيته يدخل في نظرتي ويبكي
ما الذي أفعله وقد ضيع أيامه حين نسي عد أصابعه
ولكني سأقول له أشرق مرة أخرى
بأن تشعل بضربة حصاتي جمر الكلمات التي في قلبك
وقتها ستعود جملة المسرة التي ضاعت منك )
يعدوا هذا الشعر ليكون متوافقا مع حاجة الآخر لمخلص بعد خيبة ما صنعها سهو اللحظة وعدم القدرة على الانتباه لفعل اليوم وكأنه يعيد صدى الها يكو الصيني القائل:
( لقد أضاع القمر إشراقه بسبب مزاحه الطويل مع غيمة )
إن هكذا فعل يجعل الكيان الحسي يسبح في متاهة عدم التركيز ، فينسى حتى عد الأصابع ، وعليه فأن المنقذ قد يأتي من ذات العاطفة ومن ذات المشاعر ، آخر فينا يكون كاهنا أو حبيبا أو صديقا وربما بوذا نفسه من تدخل ليعيد للذهن توازنه ويرينا طريق الأصابع التي نسينا أرقامها ، فتعود المسرة والكلمات المشتعلة .
ندرك مع الشعر توازنات خليقتنا ، اليوم المعاش، طقس المجامعة ، الشراب في مائدة ، لحظة التدوين ، الدرس والمجادلة ( أفعال شتى نجمعها في كيس اليوم ونطلق عليها اصطلاحا وجودياً يسمى الحياة ) ، ولا يمكن أن نثبت التصور الآتي في هكذا موازنة والقائل ( هل الشعر يصنع الحياة ، أم إن الحياة تصنع الشعر؟). إن معضلة كهذه تصنع في التصور ديمومة للكشف والعيش وتظل الإجابة عالقة كما شأن ولادة البيضة ، وتلك الديمومة باقية منذ الأزل المحفز القوي لكل المنتج الإنساني ، لهذا نصل إلى أن ما ندركه من الشعر هو ذاته الذي ندركه من الحياة لنصل إلى حدود لانفلت فيه الذهن ولا يتشتت التصور وإن الذي يجعلنا قادرين على صناعة الحدس بجلسة منفردة هو ذاته الذي يدفعنا إلى صنع اليوم الحياتي بالطريقة التي نراها مناسبة ولهذا ترى البوذية اليوم على إنه سلوك شعري أفضل تعامل له يأتي بالتأمل والتأمل من هواجس الشعر بل أكثر قدراته التحفيزية بعد عاطفتي الحب والجوع، وبهذا يغيب التساؤل : من صنع من ؟
فنصبح في لجة المعايش والمنتج وتراتيل الصلاة الصامتة تلك التي تغيب في ذاكرة الصانع الذي يهوى بتفرد روحه وسباحة جسده في تخيل الممكن سموا وتعاليا عن المحيط المليء بالكثير من مدنسات المادة ومغرياتها . لهذا تنظر البوذية إلى الشكل على انه زوال الآن فيما الخلود للروح أبداً وكذلك بقية الديانات .
ينتج العقل البوذي زمنا لا ينتهي بحدود الرغبة للوقوف والقناعة ، فالديمومة هي أزمنة تذهب وتأتي بحسابات العقل الباطن ، وما نتخيله ينبغي صنعه ، وما نصنعه ينبغي أن نتلذذ بحسه وآلامه وسعادته ومنتجه وإلا علينا أن نرمي أنفسنا في النهر ونتخلص من عجزنا . أن العقل هو بدء الحركة المقصودة ، وما يريده البوذي يشابه ما يبتغيه المتصوف ( القصد ) . وأجمل المقاصد تلك التي تصنعها القصائد ، لأن الشعر هو بيت لمدرك لايأتي بمال او بأمر سلطوي إنما هو وليد رؤية الرائي إلى مقامه وهو آت من حاجة نجهلها وشعور محشور بفعله الخفي الذي فينا ، لهذا مايأتي يكون ، وما يكون يقدس ، وما يقدس يتسامى ، وما يتسامى يبلغ مرتبة النور .
لحظتها يكون الشعور بخلق القصيدة قد تم وهذا يجعلنا لا نتيه في ضجيج اليوم بل نبقى معزولين في زاوية الراحة وهي نفس الزاوية التي ركن إليها بطل رواية هيرمان هيسه (سدهارتا) .
إن سلطة الروح تتوسع في لحظة وجود الشعر ، وهي لن تحتاج إلى تفعيل حين نحسن الإمساك فيها لأننا من خلالها نستطيع ان نذهب أنى نشاء ومتى تحقق الوصول كانت المتعة شاسعة وكبيرة ولم يعد للألم مكان وعلينا أن لا نخشى حتى السير على الجمر الملتهب لأن امتلاك اللحظة الشعرية وإطلاقها يمحو كل ردود الأفعال ولا يصبح فينا سوى محفز واحد هو ذاته الذي يبصر فينا تعالي اللحظة وترديد الأناشيد لغيبوبة الداخل وهو ما كان يدخل فيه المتصوفة وأصحاب الطرائق وقول رابعة العدوية ( نحن روحان حللنا بدنا ) هو تأكيد هكذا انسجام وإتمام إتحاد غيبوبة اثنين هو ذاته طريق الصوفية.
تبقى المحصلة واحدة في كل الأحوال، وتبقى رغبة الإفصاح غير متاحة إلا عن طريق هكذا طقوس، ويبقى الكشف الشعري جزءاً من حالة صنع الوقيعة في ضجة الوقائع . لكن الثابت في القراءة على مستوى التاريخ والفلسفة والمعاصرة أن الصناعة الشعرية ستبقى والى الأبد هي صناعة روحية وكذا تنظر البوذية إلى الأمر.