كنتُ قد نشرت مقالة تحت عنوان “إتقي الله يا أثيل النجيفي بهوية الموصل العراقية”، حذرته فيها من الإنجرار وراء المطامع التركية في الموصل وتوابعها.
لكنه يبدو من أن “آل النجيفي” ماضون في طريقهم الذي سلكوه أجدادهم، لذا وجب علينا أن ننور القارئ الكريم، وأخص منهم أبناء الموصل النُجباء بخلفية الأحداث وربطها (بإستقتال) آل النجيفي للعودة إلى أحضان الإستعمار العثماني الجديد، ونبين أيضاً حقيقة آل النجيفي وأصلهم وفصلهم.
وسأورد أدناه نص “قضية محمد النجيفي”، كما عرضها متصرف (محافظ) لواء الموصل حينذاك عبدالعزيز القصاب في مذكراته التي أعدها وحققها في طبعتها الثانية نجله الدكتور خالد عبدالعزيز القصاب في كتابه “مذكرات عبدالعزيز القصّاب”(1). والتمس العذر من القارئ الكريم من أنني سأعرض النص كاملاً وإن طالت المقالة، فهو لا يقبل التجزئة لأهميته وإن دَأبَ البعض من الكتّاب على الأخذ بالمقتطفات الصغيرة من النص الكامل للقضية مثلما جاءت في المذكرات، عندما تطرقوا إلى نفس الموضوع.لقد عرض المؤرخ والسياسي الجليل عبدالعزيز القصاب “قضية محمد النجيفي”، جد أثيل النجيفي في مذكراته بشكلٍ منفصل عن بقية الأحداث التي عاصرها، وحيثُ نجد نصّها في الصفحتين (232،233) من مذكراته في طبعتها الثانية، وهذا نصّها:
“كان لمحمد النجفي قرى كثيرة في ناحية (قرة قوش)، ومنها قرية كان يملك ثلاث أرباعها وربعها الباقي للفلاحين. وقدم النجفي شكوى على مدير الناحية يتهمه بعدم الاهتمام بإخراج الفلاحين المفسدين (كما يزعم) من قريته. سألت مردان أفندي، مدير الناحية، فأجابني: بأن المستمسكات تثبت حق الفلاحين في أرضهم، وأن ادعاء النجفي هو باطل، وأن النجفي كان يهدده ويتوعده عن طريق وكلائه ويطالب بنقله والتخلص منه. وأجبته مشجعاً بلزوم حفظ حقوق الفلاحين والتمسك بالحق والعدل، وأن لا يهتم بالتهديد والوعيد. وزاد كلامي هذا من معنويات مدير الناحية فشكرني واستمر بموقفه السليم. ثم جاءني النجفي، وهو يحمل أوراقاً للطابو، وقال: إنها تثبت أن له في ناحية (قرة قوش) تسعاً وعشرين قرية ملك (طابو). وقال: (إني سأسجل ربع هذه القرى باسمك باختياري ورغبتي، ولا أطلب مقابل ذلك سوى العدل والحق). استغربت من كلامه هذا وسألته إن كان هناك تجاوز عليه أو ضرر أصابه من الإداريين في الناحية أو في مركز اللواء، فأجاب بالنفي، وقال: ( إني أطالب نقل مدير الناحية وترحل قسم من الفلاحين من قريتي). أجبته : (إن الفلاحين يملكون الأرض مثلك ويشاركونك فيها ولا مجال للاستجابة لمطالبك. وعليك مراجعة المحاكم لإثبات حقك). ثم طلبت منه جمع أوراقه والمغادرة لأني لست بحاجة إلى تسجيل قرى باسمي.
وبعد يومين سمعت من المفتش (لويد) أن محمد النجفي قد غادر إلى بغداد آخذاً معه ثلاثة رؤوس خيل ممتازة. ثم ورد لي كتاب من وزارة الداخلية بعد مدة قصيرة يتضمن سؤالاً عن قصة النجفي وأسبابها، فجمعت الأوراق الخاصة بها وقدمتها بكتاب خاص إلى وزارة الداخلية، طالباً أن تنورني عن الطريق القانوني الذي يجب اتباعه لحلها، ولم يردني جواب.وعندما تسلمت وزارة الداخلية من وكيلها رئيس الوزراء، عبد المحسن السعدون، بعد أربعة أشهر، جاءني السعدون بملف وضعه على مكتبي وقال ضاحكاً ما معناه: (ستلاقي الكثير من المشاق مع هذه الأوراق) وانصرف. قلبت الملف وإذا به كل ما يخص قضية النجفي، وهو خال من أي شرح عليه مدة بقائه في الوزارة وفي عهد وزيرين سابقين.زرت الملك فيصل زيارة اعتيادية بعد تسلمي منصبي الوزاري بعشرة أيام، وقال لي ضاحكاً : (يا عبدالعزيز، أرجو أن تخلصني من محمد النجفي وتنهي قضيته المعلقة). قلت له: (إني سأكلف متصرف الموصل الجديد، ناجي شوكت، بحسمها بالطريقة التي يقترحها) ووافق الملك على هذا الحل. ومرت أربعة أشهر حتى وردني كتاب من ناجي شوكت يقول فيه إنه درس الأوراق وحقق فيها، وكشف موقعياً على الأملاك بشكل جيد ولا يجد مجالاً لنقض القرار المتخذ من قبلي وهو المطابق للحق والقانون. عرضت هذا الكتاب على جلالته وانتهت القضية.” ـ ـ إنتهى الإقتباس عن قضية محمد النجفي (النجيفي) كما ذكرها بالنص مؤرخها المرحوم عبدالعزيز القصاب.ولنقرأ الآن كيف حصل “آل النجيفي” على تلك القُرى، هل حصلوا عليها بجهدهم وعرقهم ومالهم أم من خدمتهم المشكوك بنزاهتها للمستعمر العثماني؟!!.
يقول أحد المؤرخين الموصليين المحاديين والمعنيين بالتراث الموصلّي (حجبتُ إسم المؤرخ الآن حفاظاً على سلامته، والمعذرة له لحجب حقه وجهده في الإعلان عن إسمه في توثيقه لهذه الحقائق، فللضرورة أحكام وسأعمل على نشره لاحقاً بعد زوال الظرف) في معرض توثيقه لسيرة “آل النجيفي” ما يلي: “أما تسمية أسرة (النجيفي) بهذا الاسم فقد أشتقّ من تسمية قرى (النجيفات) في الشام التي قدمت منها الأسرة صحبة جمع من قبيلة بني خالد المخزومية سنة 1638م مع السلطان مراد الرابع في حملته العسكرية لتحرير بغداد من الاحتلال الفارسي. وصحّفت لفظة (النجيفي) إلى (النجفي) لكثرة تداولها وصعوبة لفظ الأولى.
ويقول الحاج عبدالعزيز النجفي عميد الأسرة الحالي أنّ جدّ الأسرة (حسن بك) سكن في محلة السوق الصغير بعد أن منحه والي الموصل لقب (بك) وقرى عدة في ولاية الموصل، حتى كانت سنة 1913م عندما قرر والي الموصل سليمان نظيف باشا فتح شارع جديد يربط شارع نينوى وشارع المحاكم (العدالة حالياً). ويضيف أنّ الوالي أصرّ متعمداً وخلافاً لرغبة البلدية أن يمرّ الشارع في وسط بيت آل النجفي على الرغم من انحرافه عن مساره المستقيم الذي رسمته البلدية. وفي رأيي أنّ بلدية الموصل بتأييد من الوالي اضطرّت لكي يكون مدخل الشارع الشمالي يقابل ويوازي مدخل سوق الشعارين أن تحرف مسار الشارع الجديد عن جامع العباس لكي تتجنب هدم الجامع بأكمله فيما لو رسم بصورة مستقيمة. ولو كان الوالي يعلم أن تصرّفه اللئيم هذا سيفتح في المستقبل كنزاً لأسرة النجفي لما فعل ذلك، إذ بنت الأسرة عدداً كبيراً من المحلات على جانبي الشارع فيما بعد عادت عليهم بأرباح كبيرة.في سنة 1959م هدمت أسرة النجفي بيتها القديم والمحلاّت الكائنة على جانبي الشارع وشيّدت على انقاضها عمارتين متقابلتين. وكذلك فعلت أسرة عبدالباقي الشبخون الواقع دارهم جنوبي دار النجفي، إذ شيّدوا عمارة الشبخون سنة 1984م. وتعرّض جامع العباس الكائن في المنطقة بين البيتين المذكوريين إلى اقتطاع جزء من مشهده ضمن الشارع، ويقول الأستاذ سعيد الديوه جي عن هذا الجامع أنه بني سنة 405هـ/1013م من قبل شخص اسمه الحاج كاظم وكتب على رخامة فيه (هذا قبر العباس بن علي)، وهدمه سنة 1346هـ/1927م الحاج عبدالباقي الشبخون وجدد عمارته” ـ ـ إنتهى الإقتباس.
وأنني (أي كاتب هذه المقالة) ربما أختلف مع رأي مؤرخنا الجليل في إصرار الوالي سليمان نظيف على مرور الشارع الجديد في وسط بيت آل النجفي وبالإتفاق مع آل النجفي أنفسهم وليس بالضد من رغباتهم، كونهم أولاً من أتباعه المخلصين ولمعرفتهم بأنه سيفتح لهم هذا الإجراء كنزاً تجارياً وإقتصادياً ثميناً، وثانياً لطريقة آل النجيفي بتقديم الهدايا للمسئولين لتمشية مصالحهم مثلما حاولوا مع الملك فيصل الأول ومتصرف الموصل حينها عبدالعزيز القصاب كما ذكر في مذكراته، على الرغم مما هو معروف عن سيرة الوالي “سليمان نظيف” الجيدة، لكن الهدايا والعلاقات الشخصية حينذاك وخاصة في زمن الإمبراطورية العثمانية كانت عادية جداً ومستشرية، وحيثُ أن السبب الذي عرضه المؤرخ وحسب رأيه لأصرار الوالي في مرور الشارع من وسط بيت النجفي تجنباً لهدم الجامع االتاريخي يبدو ضعيفاً وحيثُ أهمل بعد وقت قصير، وإنما أُتخذ كذريعة لتمرير إصرار الوالي على مرور الشارع الجديد في وسط بيت آل النجيفي، إذ أن الجامع قد تمّ هَدمه بالفعل بعد (14) عاماً فقط من قرار الوالي دون مراعاة لأهميته الدينية والتاريخية !!!.
ولهذا ومن حقنا أن نستنتج مما ورد ذكره أعلاه من توثيق الأحداث بأقلام المؤرخين المحايدين كيف يفكر آل النجيفي؟، لنصل إلى فرضية محاولتهم إرجاع أملاكهم التي وهبها اليهم السلاطين العثمانيين، وحيثُ “وهب السلطان ما لا يملك”، بعد أن انتزعوها من سكانها الأصليين أبناء الموصل وتوابعها، ومن حقنا أن نسأل ماذا فعل جد أسرة النجيفي الأسبق (حسن بك) من عمل جليل وخارق للعراق أو للإمبراطورية العثمانية ليمنحه والي الموصل حينها لقب (بك) وقرى وصلت بمجموعها الى (29) قرية بأرضها وسمائها ومياهها وناسها مجاناً وبدون مقابل، وكأنه كان يهبه (كوشر من الرقي أو البطيخ)؟؟؟!!!!، وهل لصاحب أملاك حصل عليها بماله وبجهده أو جهد أجداده أن يهب ربعها أي بحدود سبع قرى مجاناً وبدون مقابل (كرشوى رفضها المتصرف النزيه) لمجرد انه يطالب بإحقاق الحق، فلو كانت تلك القرى بتعبه وحقه فلماذا يفرّط بربعها كهدية؟!!!.وعليه فلربما يوجد إتفاق أو وعد من الحكومة التركية الحالية بقيادة أردوغان المصاهر لأثيل النجيفي عائلياً، في حال عودة الإحتلال العثماني (التركي) للموصل لا قدّر الله أن يعيدوا اليهم القرى التي طالب بها جدّهم محمد النجفي وخسر الدعوة القضائية في المحاكم العراقية، وسيكون المرسوم العثماني (الفرمان) الصادر اليهم من الدولة العثمانية (السلطان العثماني) نافداً بأثر رجعي ولا يعتبر ساقطاً أو ملغياً على إعتبار أنه صادر من الإمبراطورية العثمانية السابقة، وحيثُ يُعتبر الحُكم القضائي من القضاء العراقي بشأن أحقية أهالي قرة قوش وقراها ملغياً بشكل طوعي (أوتوماتيكي) على إعتبار أنه صادر من المحاكم العراقية، فيعودوا آل النجيفي للإستحواذ على القرى، وعندها سيستعبدون الأرض والعباد الساكنين عليها ويعتبرونهم مجرد فلاحين (عمالة زراعية) يعملون لديهم.
وللتذكير أيضاً، وبالعودة إلى الماضي القريب في حسابات التاريخ وبحدود (90) عاماً إلى الوراء، عندما أجرت اللجنة الأممية المكلفة من عصبة الأمم بتقرير مصير الموصل إستفتائها، وقف جد أسرة النجيفي “محمد النجفي” بالضد من رغبة (95%) من أهل الموصل وتوابعها لإنضمام الموصل إلى العراق وإعتبارها مدينة عراقية.
ويذكر المؤرخ السياسي الوطني عبدالعزيز القصاب في مذكراته/الطبعة الثانية/على الصفحتين (222،223) ما يلي: “وفي 8 شباط (1925م)، غادر فتاح بك وبدري بك (وهما من اللجنة التركية التي تسعى لضم الموصل الى تركيا)، رفاق جواد باشا (المفتش العام للجيش التركي في منطقة الجزيرة)، القصر بسيارة مغلقة إلى محل حسو إخوان ومن هناك زاروا دار محمد النجفي، وعند خروجهم منها أهانهم أشخاص وطنيون كانوا واقفين خارج الدار، وتجمهر الناس حولهم فاضطر الأتراك إلى الرجوع إلى القصر.
وفي مساء ذلك اليوم، نشب نزاع أمام دار النجفي بينه وبين إبراهيم كمال (إبراهيم كمال: وطني عراقي من أهل الموصل كان ضابطاً في الجيش التركي، لكنه التحق بالثورة العربية في الحجاز، ثم تقلّد عدّة مناصب في الدولة العراقية) بحضور جمع غفير من الناس، وأصيب إبراهيم بجرح بسيط بكتفه، وألقت الشرطة القبض على كليهما، ثم أطلق سراحهما بتوسط أعيان من البلد. شاهَدَ (أي.أف.فرسن) و (الكونت تلكي) هذا النزاع والسب والشتم، والذي كان سببه دفاع إبراهيم كمال عن عروبة الموصل وتحمس محمد النجفي لتتريكها) ـ ـ إنتهى الإقتباس.
وأعتقد بأنه لا داعي لأي تعليق على ما أوردهُ المؤرخ في مذكراته، فالأمر واضح تماماً!!.
لقد حاول أثيل الجيفي إستمالة بعض المكوّنات الموصلّية بطرق مختلفة لكسب أصواتهم للوقوف مع رأيه في حصول الموصل وتوابعها على حكم ذاتي إقليمي مشابه للمناطق الكردية تمهيداً لضمها إلى تركيا، لكن في يقيني من أنه سيفشل كما فشل جدّه محمد النجفي في ذلك.ويعرض المؤرخ عبدالعزيز القصاب في مذكراته المكاتيب (المكاتبات) السرية التي عثرت عليها الحكومة العراقية والمُرسلة من تركيا لتحرض سكان لواء الموصل ضد العراق، والتي أحبطها الموصليون لِما عرف عنهم بإخلاصهم لوطنهم وعن وطنيتهم، ولا تتسع مساحة هذه المقالة لنشرها.هنالك قصة كنتُ قد قرأتها ولا أعلم مدى صحتها، ومختصرها: إن أحد الدبلوماسيين البريطانيين في الهند أبان الإحتلال البريطاني رأى أحد الشباب المثقفين من الهنود وهو يركل بقرة في وسط أحد الشوارع في نيودلهي، فما كان منه إلا أن ترجّل من عربته ودفع الشاب ونهره، فتجمع الهنود حول الشاب بعد أن شاهدوا موقف البريطاني وهجموا على الشاب وأشبعوه ضرباً، وشاهدوا الدبلوماسي البريطاني وهو يمسح البقرة ويؤدي فرائض الطاعة لها، بعد عودته إلى عربته سأله جليسه مستغرباً عمّا فعله؟ وهل هو مؤمن بعبادة الأبقار؟!!، أجابه الدبلوماسي قائلاً: “ركلة الشاب للبقرة هي صحوة وركلة للعقيدة التي نريدها ولو سمحنا للهنود بركل العقائد، لتقدمت الهند خمسين عاما إلى الامام وحينها سنخسر وجودنا ومصالحنا الحيوية فواجبنا الوظيفي هنا إبقائهم على ماهم عليه”.
لقد نال العراق ما نال هو وجميع البلدان التي إستعمرها العثمانيون بإسم الدين من تخلّف لاتزال أثاره باقية وراسخة في عقول الكثير من أبناءه، حتى نُعِتنا ما نُعِتنا به من صفات التخلف فإنطبق علينا قول المتنبي :” يا أُمّةً ضَحكَتْ مِن جَهلِها الأُمَمُ”، وعندما خرج العراق من فم الحوت العثماني دخل في فم القرش الإنكليزي الذي إستغل تورط العثمانيون الغبي والغير مدروس بدخولهم إلى جانب المانيا ودول المحور في الحرب العالمية الأولى، فأحتل العراق بعد هزيمة الإمبراطورية العثمانية والمانيا في تلك الحرب.
ولولا دخول الإمبراطورية العثمانية إلى جانب المانيا في الحرب لما وجدوا الإنكليز والفرنسيين الذريعة لإحتلال العراق والبلدان العربية، أو لربما كانوا بحاجة إلى خطط أكثر صعوبة ودهاءاً ووقت أطول للسيطرة على المنطقة، لكن لشدة كره العثمانيين للعرب فقد ضحّوا باراضيهم وممتلكاتهم ومواطنيهم، حيث ساقوهم إلى محارق الحروب دون تدريب او تجهيز لأبسط المعدات، ولا زلنا نذكر “طابور ابو شخاطة” السيء الصيت وما جرى قبله وبعده (سمّيَ بهذا الأسم لأن الأهالي في المدن العراقية ومنها بغداد والموصل هبوّا الى محطات التسفير مع غياب الشمس للبحث عن فلذات أكبادهم بإستخدام أعواد “الشخاط” أي الكبريت للتعرف على أبنائهم في وسط الظلام، وكان بحثهم ممزوجاً بأصوات البكاء والنحيب، وحيثُ إختطف الجيش العثماني من كان عمره بين 15-45 سنة من الشوارع والأزقة ومواقع عملهم بحجة النفير العام لسوقهم إلى الحرب، ولهذا إشتهر ذلك اليوم بإسم السفر بر أو السفر برلك، وكان هذا الأسم مرعباً حتى لأبناء المدينة المنورة في السعودية حين هجّرهم العثمانيون، لا بل أنه كان مرعباً لكل البلدان التي كانت خاضعة تحت الإحتلال العثماني). ولربما علينا أن نذكّر بعض المؤرخين من أن معظم مَنْ ذهبوا في تلك الحروب لم يعودوا إلى دورهم وفُقِدَت عنهم المعلومات وأصبحوا في حكم الذكريات الأليمة في عقول عوائلهم وأقربائهم، ولو سألنا أي عائلة عراقية عن أجدادهم لرأينا من أن كل عائلة كان لها نصيب في فقدان عزيز أو أكثر في زمن العثمانيين. وعجبي على البعض من المؤرخين الذين يدّعون الحيادية والمنطقية في التوثيق وهم حين يمسكون بأقلامهم ينسون أو يتناسون الكوارث التي حلّت بشعوبهم من جرّاء الإستعمار العثماني وماتركه من تخلف في تلك الأمم، وحيثُ يتناسون محاولات التتريك لشعوبهم، وحيثُ لم يُعرف عن سلاطينه غير الغزوات النسائية وهواية جمع الجواري والغلمان. وإني إذ أسأل هؤلاء المؤرخين: هل يوازي الثمن الذي وعدهم به المستعمرون الأتراك الجدد ثمن نكرانهم لعراقيتهم وموصلّهم!!!!، وهل يعتقدون بأنهم سيمررون تزييفهم للحقائق على أبناء الموصل النُجباء.وليذكر لي أحدهم وبشجاعة المشاريع التي بناها العثمانيون والتي عادت للشعب بالفائدة والباقي أثرها ليومنا هذا؟!!، هل هي وسائط النقل التي لم تتطور منذ سنة 1450م (منذ سيطرة قبائل الخروف الأسود ومن ثمّ الخروف الأبيض على العراق)، فالبغال بقيت نفس البغال والطرق الغير معبّدة بين مدن العراق التي كانت مليئة بقطاعي الطرق لم تتغير حتى جلاء المستعمر العثماني، وسأورد أدناه إصلاحات مدحت باشا الذي حكم فيها كوالي لبغداد قرابة ثلاث سنوات ونصف والتي طبّل لها المطبلون وأثنوا على أهميتها، وبكل تأكيد نشكره عليها لأنها أفضل من اللاشيء.
وما دمنا ننبذ الإستعمار بأشكاله ودوله، فلنا أن نتوقف هنيهة من الزمن عند حسناته لنعطيه الجزء اليسير من حقه علينا!!، ونراجع سنوات إحتلاله (بمحاسنها)!!.
فبالنسبة للإستعمار العثماني البغيض الذي إستمر جاثماً على صدورنا ما يزيد على الأربعة قرون (بإستثناء فترة سبع عشرة سنة 1621-1638م تمكن فيها الصفويون القادمين من ايران من السيطرة على بغداد) لم نرى منه غير الحلب المستمر لضروع ثرواتنا القومية بمختلف مصادرها، حتى أزكمت أتاواته وضرائبه الإنوف، وأفرغت الجيوب، وأفقرت أغنى طبقات الشعب، لتزداد كروش سلاطينه وولاته إتساعاً، وتكثر جواريهم وغلمانهم، وتتوسع وتعلو قصورهم، وتعمّر مناطق الأتراك حصراً في الإستانة (إسطنبول) وغيرها من المدن التركية على حساب باقي مناطق وبلدان الإمبراطورية من غير الأتراك، ولا داعي للكلام عن بذخ السلاطين العثمانيين وولاتهم فقد أصبح مضرباً للأمثال.
ناهيكم عن المصادرات للممتلكات والأموال أثناء حروب الإمبراطورية العثمانية التي كان لها أول وليس لها آخر، حتى لفظت تلك الإمبراطورية أنفاسها الأخيرة في نهاية الحرب العالمية الأولى، وحيثُ كانت تلك المصادرات تتم تحت يافطة التبرعات التي غالباً ما كانت قسرية وليس طوعية، ويحدثنا في هذا الصدد الدكتور علي الوردي في كتابه “لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث”/الجزء الرابع/الطبعة الثانية/الصفحة (2) ذاكراً ما يلي(2): ” وصارت دوائر الاعاشة العسكرية تضع يدها على حيوانات النقل والكثير من المواد التي اعتبرتها لازمة للجيش بإسم (التكاليف الحربية)، وكانت هذه الدوائر تعطي لمن تأخذ منه شيئاً ورقة تتعهد الحكومة فيها بأنها سوف تسدد الثمن بعد انتهاء الحرب. وهذا معناه ان الحكومة تصادر أموال الناس من غير مقابل لأن الناس لم يكونوا يثقون بالحكومة وأوراقها وكانوا على يقين بأن ما تأخذه الحكومة لن يعود”!!، إنتهى كلام د. علي الوردي.
ومما يُذكر في هذا الصدد بأنهم كانوا يصادرون حتى الملابس النسائية من أصحاب محلات بيعها بحجة حاجتهم اليها للجيش !!، هذا ما جاء في الصفحة التالية لنفس المصدر.
وبالمقابل كثرت في العراق الصرائف (الصريفة:الكوخ الذي يصنع من قضيب النخيل اليابس) والزرائب (الزريبة:حضيرة الماشية التي تصنع من القصب أو الطين، وفي كثير من الأحيان تبنى من بِراز الأبقار بعد تجفيفه على شكل أقراص ويسمى بالمطّال ومفردها مطّالة وهي كلمة عامية وتختلف بالمعنى عن مثيلتها في العربية الفصحى وتعني صانع الحديد) التي لا تصلح حتى لسكن الماشية، وأمتلئت بغداد بها بعد أن كانت قبلة المسلمين لا بل قبلة العالم ومنارته.
ولنقف عند إصلاحات مدحت باشا طيب الله ثراه وبشكل مختصر لبيان الحقائق.فقد بدأ الوالي إصلاحاته بعد تعيينه على ولاية بغداد في شباط عام 1869م بتكوين دائرة للطابو (العقاري) ودائرة للنفوس وأخرى للأشغال العامة ودوائر للبلدية ومجلس للمعارف ودائرة للإدارة النهرية، وأسس سكة حديد لعربات نقل تجرّها الخيول بين بغداد المركز والكاظمية التي كان يُطلق عليها (الترام)، ومصنع للنسيج لخدمة الجيش العثماني، وجلب مطبعة وأصدر مجلّة الزوراء العراقية وهي أول صحيفة عراقية، هذا ما جاء في مقالة كتبها الكاتب فلاح يازار اوغلو في 30-07-2015م على موقع “توركمن شانى”، كذلك أكمل مدحت باشا بناية القشلة التي بدأ ببنائها الوالي نامق باشا وهي المبنى الخاص للحكومة والجيش العثماني.ونلاحظ من تلك الإصلاحات مدى تأخر الإستعمار العثماني في مواكبة الثورة الصناعية في اوربا ونشرها في مستعمراته على الرغم مما كان يجنيه منها من موارد مالية ضخمة من خلال الضرائب المفروضة على كاهل المواطن المحلّي، كما إنّ الكثير من تلك الأعمال الإصلاحية كانت لتسهيل مهمة الحكومة والجيش العثماني وليس لخدمة رعايا الدولة الإسلامية، كما اطلق عليها البعض.فأول قاطرة بخارية تم تسييرها على قضبان حديدية في العالم تمت سنة 1814م في بريطانيا والتي تمخضت عنها إفتتاح أول سكة حديد عام 1825م بواسطة الإنكليزي جورج ستيفنسون، في حين بقي العراق خالياً من تلك الوسائط المهمة حتى الربع الأول من القرن العشرين، أي بفارق زمني مقداره المئة عام فيما لو إستبعدنا سكة الحديد المحدودة المسافة بين مركز بغداد والكاظمية والتي سميت بالترام، التي كانت تجر عرباتها الخيول، والتي ينطبق عليها المثل “تمخض الجبل فولد فأراً”.
وأما سكة الحديد الحديثة بالقاطرات البخارية فلم يكتمل بنائها في زمن الإستعمار العثماني، والتي تبرع بإنشائها الألمان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بعد أن غلب (حمارهم) في إقناع السلاطين العثمانيين بأهميتها، حتى جاء المستعمر البريطاني فأكمل الشبكة بالطرق الحديثة ولمصلحته أيضاً، لكنها عادت بالفائدة على العراق.
وقد ذكر الكاتب محمد إبراهيم محمد في مقالته المعنونة “من تاريخ السكك الحديد في العراق” التي نُشرت على موقع ملاحق جريدة المدى في يوم الأحد 01-02-2015م، وكما نُشرت سابقاً في جريدة التآخي في يوم الأربعاء المصادف 06-06-2012 ما يلي: ” ومما تجدر اليه الاشارة ان الاستاذ محمد فهمي درويش والدكتورين مصطفى جواد واحمد سوسة قد ذكروا في دليل الجمهورية العراقية لسنة 1960 ان معظم السكك الحديدية في العراق قد تم انشاؤها على يد الجيش البريطاني عند احتلاله للعراق خلال الحرب العالمية الاولى فقد اتضح للجيش المذكور ان تأسيس سكة حديد لضمان مواصلاتهم امر حيوي وضروري وهو مايسهل مهمتهم في الغلبة على الجيش العثماني واحتلال العراق فجلب الجيش البريطاني المذكور جميع المواد اللازمة والقاطرات والعربات والشاحنات من الهند وشرعوا في مد الخط الحديدي” – – إنتهى الإقتباس.وللذي يرغب من القرّاء الكرام في قراءة المقالة كاملة، فهي موجودة على الرابط أدناه: http://www.almadasupplements.net/news.php?action=view&id=11940#sthash.SjcK3XOx.dpbsكذلك فإنّ الطباعة والمطابع بدأت بالإنتشار السريع في أوربا ودول العالم الأخرى مع إختراع الألماني يوحنا غوتنبرغ للطباعة سنة 1436م، لكننا وبسبب الإستعمار العثماني لم نحصل عليها إلا بعد سنة 1869م بزمن الوالي مدحت باشا، أي بفارق زمني لأكثر من (433) سنة في حسابات التطور الصناعي الإنساني!!!!.
ولم تكن أعمال مدحت باشا كلها إصلاحية لوجه الله تعالى وإكراماً للعراقيين، فلا ننسى قيام الإنتفاضة الشعبية بعد وقت قليل من حكم الوالي مدحت باشا ضده إعتراضاً على فرضه لقانون التجنيد الإجباري لتغذية حروب الإمبراطورية لمحاولة بسط نفوذها وتوسعها بجميع الإتجاهات وليكون سكان مستعمراتها وقوداً لتلك الحروب.
كما لا ننسى قيام الوالي مدحت باشا بخطأ كبير حين هدم ما تبقى من سور بغداد لإنشاء متنزه يتم الدخول اليه مقابل مبلغ معين من المال، والذي أُهمل وإختفى بعد فترة قصيرة، حيثُ خسرت بغداد أهم معلم من معالمها العربية والإسلامية.
يقول الدكتور علي الوردي في كتابه الآنف الذكر وفي الجزء الثاني/الطبعة الثانية/الصفحة (276) ما يلي: “كانت بغداد عند مجيء مدحت باشا اليها محاطة بسور قديم يرجع تاريخه إلى العصر العباسي، فارتأى مدحت باشا أن يهدم هذا السور ويجعل مكانه حدائق ومتنزهات عامة. والظاهر انه لم ينجح في انشاء تلك المنتزهات اذ صار موضع السور مجموعة من الخرائب” ـ ـ إنتهى كلام الدكتور الوردي.
ويكمل د.علي الوردي بقوله من ان الوالي مدحت باشا بنى بطابوق السور عدد من الأبنية وحيثُ جمع الأموال اللازمة لبنائها من تبرعات الأهالي (وكما ذكرنا سابقاً من ان تلك التبرعات كانت في اغلبها قسرية وليس طوعية).
وإني إذ أتسائل مرة أخرى كيف لنا ان نسمي هذا الوالي بالمصلح وقد هدم أهم معلم من معالم بغداد المدوّرة !!، ليبني بطابوقه أبنية أخرى؟!!، الم يكن يستطيع تسخير العمالة التي هدمت السور في تصنيع الطابوق من الطين الذي كان يغطي بغداد جرّاء الفيضانات المستمرة لإستخدامه في بناء تلك الأبنية؟!!، خاصة وإن الأموال المخصصة لهذا الغرض قد تم جمعها من الأهالي!!، واين هي حصة العراق المدفوعة من الضرائب في خزينة الدولة العثمانية؟!!، الم يخصص الوالي جزءاً يسيراً منها لإنفاقه على العراق؟، أم ان الأموال التي كانت تذهب الى الإستانة لا يعود منها حتى “مجيدي” واحد لفائدة دافعي تلك الضرائب !!.
ونفس الشيء حصل لسور الموصل حين أهمله الولاة العثمانيين، وحيثُ لم يبقى منه غير أطلال بسيطة، في حين ان دول العالم أجمع تحاول إستغلال صخرة أثرية لتسويقها سياحياً للإستفادة منها في جلب المردودات المالية وإستقطاب السوّاح !!.
ويبدو من ان الإستعمار العثماني الجديد بدأ يلعب بنفس الأوراق القديمة بإستغلال الدين كوسيلة لعودته، وقد لعب بعواطف بعض الباحثين والمؤرخين ممن نكن لهم التقدير والثقة بكتاباتهم التي إنحرفت عن الحيادية في توثيق الحقائق، فخرج علينا أحدهم تارة للدفاع عن الإستعمار العثماني بنعته له بالخلافة الإسلامية، وتارة اخرى حاول التشكيك بحقيقة الإغتصاب الذي تعرض له ووثقه الجاسوس البريطاني “لورنس” من قبل والي درعا العثماني هاشم محي الدين بك، فكيف لشخص مثل لورنس أن يتهم نفسه هذا الإتهام لغرض بسيط وهو الطعن بسلوكية الوالي العثماني الذي كان أساساً معروفاً بشبقه الجنسي والمصاب بالسيلان، مقارنة بالجرم والتهمة التي إرتضاها على نفسه لورنس؟!!،. وقد حاول المؤرخ التشكيك بتعرّف الوالي على “لورنس” من خلال شهادة إبن الوالي!!.
وللتعقيب على ذلك أتسائل: أيعقل أن يؤيد الإبن شذوذ والده ويؤكد التهمة عليه!!، ثمّ أنّ لورنس وكما هو معروف عنه كان يتخفى دائماً باللباس العربي التقليدي أي الغترة والعقال والصاية أو الزبون، وأن الوالي العثماني عندما أرسل جنوده لإصطياد أحد الضحايا من الشارع للإعتداء عليه كان قصده جلب أي عربي (حسن الأوصاف) ليكون ضحيته!!، فوجد الجنود ضالتهم بلورنس ولسوء حظه لذلك اليوم، خاصة وإن لورنس كان يجيد اللغة العربية المحلية وبطلاقة، لذا أقول للبعض من المؤرخين ممن يكتبون بعاطفتهم وليس بعلمهم وعقلهم “حدّثوا العاقل بما يُعقل” ولا تهينوا قرّائكم بإستغبائهم، فهم من العلم والمعرفة إن لم تكن بأقل منكم بقليل فلربما بمثلكم.ولأذكّر كل الأقلام التي تحاول الإلتفاف على الحقيقة “لغاية في نفس يعقوب”، فلعل تنفع الذكرى، بأن العثمانيون لم يحتلوا العراق لهدف سامٍ في ارجاع الخلافة الإسلامية، وإنما كان إحتلالاً مع سبق الإصرار والترصد لقيام الخلافة العثمانية، فالفرق واضح بين الخلافة الإسلامية والخلافة العثمانية!!.
وبالعودة إلى كتاب الدكتور علي الوردي “لمحات تاريخية/الجزء الأول/الطبعة الثانية/الصفحة (14)” فسنجد الحقيقة الساطعة للإحتلال العثماني للعراق، حيثُ يذكر موثقاً: “كانت الدولة العثمانية قد ظهرت في تركيا منذ القرن السابع الهجري، غير أنها اتجهت في توسعها أولاً نحو الغرب باتجاه أوربا، وهي لم تتجه نحو الشرق أي باتجاه العراق وغيره من البلاد العربية إلاّ بعد ظهور الدولة الصفوية في ايران. ومنذ ذلك الحين صار العراق موضع نزاع عنيف بين الدولتين الايرانية والعثمانية واستمر كذلك ما يزيد على الثلاثة قرون، ومن هنا نشأ المثل المشهور في العراق: (بين العجم والروم بلوى ابتلينا)”، ـ ـ إنتهى كلام د. علي الوردي الذي يوضح في حاشية نفس الصفحة ان العرب كانوا يطلقون على الأتراك اسم “الروم” !!.
وهنا يجب التدقيق فيما ذهب اليه الدكتور علي الوردي في طرحه لهذا المثل، ولإعطاء كلّ ذي حقٍ حقه، فلو كان المثل قديماً جداً، فبالتاكيد لم يكن المقصود “بالروم” في المثل الذي أورده على أنهم الأتراك كما ذكر هو، وإنما يُقصد به الروم أنفسهم، حيثُ كانت هنالك حروب كثيرة بين الفرس والروم البزنطينيين، وكان العراق وسوريا، اي عرب المناذرة والغساسنة بين نارين للوقوف مع هذا الطرف أو ذاك، اما اذا اطلق المثل خلال الصراع الصفوي– العثماني، فهذا شأن آخر.
ثمّ يضيف الدكتور الوردي مؤرِخاً في الصفحة التالية ما يلي : “والواقع أن الدولتين العثمانية والايرانية كانتا متماثلتين من حيث بعدهما عمّا كان يدعو اليه أصحاب النبي وأهل بيته معاً، إذ كانت كلتاهما من الدول الاستبدادية القديمة التي لم يكن لها أي شبه كثير أو قليل بالدولة الاسلامية التي شهدناها في عهد النبي وخلفائه الراشدين”، – – إنتهى الإقتباس.
ولنبقى في هذا المضمار لنبين للقارئ الكريم الحقائق المدعومة بالأمثلة التي لا تقبل الجدل في إدحاض من يقول عن الإحتلال العثماني للعراق على أنه كان خلافة إسلامية!!، ونذكر بعضاً مما أصاب العراقيون من مجاعات وأوبئة فتّاكة (الطاعون، الكوليرا وغيرهما) حصدت مئات الآلاف في أيام وأشهر معدودة دون أن تهتز شعرة من لحى السلاطين والولاة العثمانيين، وعلى مدار جميع فترات ومراحل الحكم العثماني وإلى نهاية عهدهم أبان الحرب العالمية الأولى.
يذكر الدكتور الوردي بصدد الأوبئة في كتابه ذات الأجزاء الستة، وفي جزئه الثاني/الطبعة الثانية/ الصفحة (156) ما يلي: “لم يكد ينقضي على هذا الوباء الذي ذكرناه (في سنة 1846م) سوى أشهر معدودة حتى ظهرت بوادر وباء جديد من الكوليرا، وكانت بداية ظهوره في البصرة وأخذ يسري نحو الشمال تدريجياً. وحين بلغ الحلّة أخذ يفتك بمعدل يتراوح بين ثمانية وعشرة يومياً. ثمّ وصل إلى بغداد فكان معدل اصاباته اليومية ثلاثين يموت نصفهم تقريباً. وكان للحكومة (يقصد العثمانية) طبيب فرنسي يدعى الدكتور دروز، وقد حذر هذا الطبيب الحكومة من الوباء قبل مجيئه، وطلب مبالغ من المال لاعداد بعض الأدوية اللازمة له، غير أن الحكومة لم تهتم بطلبه ولم تتخذ أي اجراء للوقاية من الوباء”!!، – – إنتهى الإقتباس. ولا أرغب ككاتب لهذه المقالة في عرض ما جاء في كل هذه المصادر التي أستشهد بها أو غيرها من المصادر عن المجاعات وصورها المقززة وعلى لسان الشهود حينها، والتي أرغمت الناس على أكل جثث الكلاب والحيوانات الأخرى الميتة. فلو كان الولاة العثمانيين يؤمنون حقاً بأنهم كانوا يحكمون تحت وصاية “الخلافة الإسلامية” لآمنوا بجوهر تلك الخلافة المبني على أساس “التكافل الإجتماعي” و “العدل المجتمعي” بين أبناء جميع الولايات دون تمييز، ولأسعفوا أهل الموصل وبغداد والبصرة وغيرها من الولايات التي كانت تُضرب بين الآونة والأخرى أما بالمجاعات أو الأوبئة، ولأرسلوا اليهم المعونات من الإستانة (إسطنبول) لإنقاذهم، أو على الأقل لرد جزء يسير من الغلال والأموال التي كانوا يحصلون عليها من جبي الضرائب سنوياً ويرسلونها إلى سلاطينهم في الإستانة. وبدل من ان يحاول الولاة مخاطبة الإستانة لمد يد المساعدة، كانوا يطلقون النار على المتظاهرين الجائعين، وهذا ما ذكره الدكتور علي الوردي في كتابه الآنف الذكر/الصفحة (178) من الجزء الأول عندما حدثت المجاعة سنة 1786م في بغداد.
وللأسف نرى اليوم بعض المؤرخين الذين كنّا نعتقد بحياديتهم في التوثيق ووطنيتهم العراقية يسوّقون نتاجاتهم المنحرفة عن الحقيقة والفاقدة للصلاحية للتهيئة لإستعمارٍ عثماني جديد خاصة في الموصل، والذي نحن في غنى عنه لإرجاعنا الف سنة أخرى إلى الوراء. فيكفي العراق والبلدان العربية ما هم به من تخلف وتمسك هرطقي بما يعتقدون من أنّ الدين قد أتى به، والدين وتعاليمه منه براء، وحيثُ جاء به المستعمرون العثمانيين للسيطرة على شعوب المنطقة وتخديرها.
وإن كان هنالك القناعة من البعض على عودة الخلافة الإسلامية فيجب ويجب أن تكون عربية وعاصمتها بغداد الرشيد، وأن تكون مناراً للمعرفة والرقي والفكر النيّر، لا أن تكون كهفاً للضلالة والتخلف الفكري، وعلى من يؤمن بالدين وكتابه السماوي عليه أن لا يسوّق لعودة الخلافة الإسلامية الأجنبية، فقد “أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”، هذا ما قاله الله في كتابه ولم يقل أنزلناه قرآناً عثمانياً أو فارسياً، اليس كذلك ؟!!.
يقول المؤرخ البغدادي الأصيل أمين المميز في الصفحة (39)/الطبعة الأولى لكتابه “بغداد كما عرفتها/شذرات من ذكريات” والحائز (أي المؤلف) على الجائزة الأولى للمجمع العلمي العراقي لعام 1952م مايلي(3): “إن ذكرياتي عن بغداد في تلك الأيام هي ذكريات مرّة، أشد مرارة من الحنظل والعلقم، بعضها باهتة جداً لا أتذكرها بوضوح وبعضها صارخة بقيت آثارها في نفسي حتى اليوم، وبعضها سمعت عنها فانطبعت بذاكرتي. ومن هذه الذكريات كانت الأيام التي تلت المشروطية (اعلان الدستور العثماني سنة 1908 وخلع السلطان عبدالحميد الثاني) عندما وصل من اسطنبول شعار (حريت عدالت مساوات اخوت) فاستبشرت بغداد واستبشر العراقيون خيراً، ولكن بين عشية وضحاها، وبعد تحكم حزب الاتحاد والترقي في رقاب رعايا الامبراطورية العثمانية من كافة القوميات والشعوب، أدرك البغداديون والعراقيون بأنهم لا يملكون حرية ولا عدالة ولا مساواة ولا اخوّة، فأصيبوا بخيبة أمل مريرة”، ثمّ يستأنف المؤلف سرده ذاكراً: “أتذكر بغداد في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى يوم كانت في أوج ظلامها الحالك، وأتذكرها جيداً يوم كان كل شيء فيها بدائياً ومتأخراً وسيئاً، وكأنها تعيش في القرون الخوالي”. ويسترسل المؤلف ذكرياته المؤلمة في زمن الإحتلال العثماني موثقاً: “أتذكرها (يقصد بغداد) يوم كان فيها جسر واحد فقط من (الدُوَب الخشبية العائمة)، وإذا ما انقطع هذا الجسر وهربت الدُوَبْ الى (گرارة)، أو نزلت (حدّار) الى البصرة، انقطع الاتصال بين صوبي الكرخ والرصافة الى ان تعود (الدُوَبْ) من حيث هربت مصحوبة بالمزيقة” ـ ـ إنتهى الإقتباس.
وقد أكد الدكتور الوردي في كتابه المذكور/الجزء الثالث/الطبعة الثانية/الصفحة (68)، ما ذكره المؤرخ المميز حول الجسر الوحيد في بغداد وإنحداره إلى البصرة أثناء الفيضانات، فيعودوا به بالموسيقى الشعبية مضيفاً من ان نامق باشا قد أوعز لصنع جسر جديد بدلاً عن القديم، وقت تمّ بالفعل بنائه وافتتح في (31) آب من عام 1902م، لكن الأتراك أشعلوا النار بالجسر ليلة إنسحابهم سنة 1917م، وبقيت النار مشتعلة فيه طيلة النهار والليلة التالية.
يا للهول ـ ـ يا للهول ـ ـ ويا للهول، بعد أكثر من أربعمئة سنة من الإحتلال العثماني لا نستفيد من الضرائب بملايين الروبيّات التي سرقوها من العراقيين على مدار الأربعة قرون أو ما يزيد إلا بجسرٍ عائم يطفو نزولاً إلى البصرة (فيُلقى القبض عليه) ليعودوا به إلى بغداد بالمزيقة (الموسيقى الشعبية)!!، ونحن نلعن الإستعمار الإنكليزي و(ننعل سلفا سلفاه) لأنه إحتلّنا لبضع سنوات وبنى لنا جيشه الغازي “جسر مود” الحديدي سنة 1918م، وإنْ بناه لمصلحته الخاصة، لكنه عاد الينا بالنفع، أي بعد أقل من سنة لإحتلاله لبغداد!!، والذي تم تطويره سنة 1941م وسميّ بجسر “فيصل الأول” ثمّ أطلق عليه “جسر الأحرار” الذي لا يزال قائماً لحد الآن !!.كما وأؤكد مرّة أخرى على لُئم العثمانيون وخبثهم وعدم تحلّيهم وإيمانهم بجوهر الخلافة الإسلامية، إذ أحرقوا ودمروا الشيء اليسير من إصلاحاتهم قبيل إنسحابهم لحرمان (إخوانهم) في الدين العراقيين من الإستفادة منها. فكل الذي حصل عليه العراق من شفط أمواله على مدار الإحتلال العثماني هو بعض المشافي البائسة (خستة خانة كما كان يسمونها الأتراك) والتي لم تتعدى بأحسن الأحوال عدد أصابع اليد الواحدة، وأعظمها مستشفى “المجيدية” الذي بُني سنة 1895م لخدمة الجيش العثماني وليس للعراقيين، ثمّ طورهُ الإنكليز بعد إحتلالهم لبغداد وبقي تحت إشرافهم حتى سنة 1923م، ثمّ أنيطت إدارته بوزارة الصحة العراقية وأطلق عليه “المستشفى الملكي العراقي”، ثم تغير إسمه إلى “المستشفى الجمهوري”.
كذلك كان هنالك مشفى بائس آخر بناه العثمانيون للمدنيين أطلقوا عليه “مستشفى الغرباء العثماني”!!، ولا أعلم لماذا اطلقوا عليه هذا الأسم ؟ هل يعتبرون غير الأتراك غرباء عنهم؟!!، وإذا كان كذلك، فأين هي روح الدولة والخلافة الإسلامية التي كانوا يحكمون بواسطتها الشعوب والبلدان الإسلامية، وبماذا يبرره من يزمّر للإستعمار العثماني على أنه كان خلافة إسلامية، فلو إفترضنا جدلاً إيمان المحتلين العثمانيين بالخلافة الإسلامية التي تساوي بين كل رعايا “الدولة الإسلامية”، لَما أعتبروا المدنيين من أهل البلد العراقيين “غرباء” وأطلقوا على المستشفى أو المشفى أو الخستة خانة بالغرباء، فمن المفروض أن يكون المسلمين إخوة وليس غرباء عن بعضهم حسب مفهوم الخلافة الإسلامية ومثلما كان يتصرف على أساسه “الخلفاء الراشدين” حين عدلوا بين الجميع، اليس كذلك؟؟؟!!. وللمزيد من المعلومات عن المشافي البائسة والأمراض الفتاكة التي حصدت العراقيين في زمن الإحتلال العثماني يستطيع القارئ الكريم الإطلاع على مقالة الدكتور سعد الفتال في 2015-09-20 المنشورة على موقع جريدة المدى من خلال الرابط أدناه: http://www.almadasupplements.com/news.php?action=view&id=13788#sthash.QJYOA1Jh.dpbsوتبيّن المقالة المعنونة “من أوراق الاحتلال البريطاني للعراق سنة 1914” على الرابط أدناه للباحث أحمد ناجي المنشورة على موقع “الحوار المتمدن”- العدد:866 في 16/6/2004م مراحل مهمة من الإستعمارين العثماني والإنكليزي، إعتمد فيها أيضاً على الجزء الرابع من كتاب عالم الإجتماع الدكتور علي الوردي “لمحات إجتماعية من تاريخ العراق الحديث”:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=19441ولبيان إستمرار الأتراك في إعتداءاتهم على العراق والمسيحيين منهم على وجه الخصوص، أقتطف سطوراً مما ورد في كلمة الترحيب التي القاها متصرف لواء الموصل حينها عبدالعزيز القصاب خلال زيارة الملك فيصل الأول للموصل في 13 كانون الأول 1924م، وكما وردت في مذكراته : “أما ما كان من الاضطرابات الأخيرة التي حدثت في الحدود الشمالية فقد زالت وله الحمد بهمة القوات الوطنية والمساعدة البريطانية، وإن كان قد لحق بسكان القرى في الحدود من جراء ذلك بعض الأضرار من قبل الاتراك، لا سيما المللة النسطورية التي اضطرت إلى الالتجاء الى داخل البلاد” ـ ـ إنتهى الإقتباس. ويقصد بالمللة “النسطورية” المسيحيين الذين كانت قراهم محاذية للحدود مع تركيا.الرابط أدناه يبين إضطهاد المكون المسيحي من قبل العثمانيين: http://www.syriacwritersunion.com/?p=3934
الخلاصة:
لقد عانت البلدان الإسلامية ذات الأكثرية العربية وبجميع مكوناتها من الإستعمار العثماني البغيض.ولقد دعمتُ مقالتي هذه بالمصادر الموثوقة لخيرة المؤرخين العراقيين المعروفين بنزاهتهم وحياديتهم في نقل المعلومة وتوثيقها، وكنت حريصاً على نقل الحقائق من مصدرها متجرداً من أي إنتماء، عدا إنتمائي الوطني الذي لا أتخلى عنه، والذي دفعني لكتابة هذه المقالة، وقد جهدتُ في تنويع المصادر حتى ممن كانوا يقفون مع العثمانيين في إحتلالهم للعراق، أملنا أن يعي العراقيون بكل أطيافهم ومكوناتهم خطورة الموقف وأن يسقطوا مراهنات وخطط أعداء وحدة العراق، ولنا فيهم أملاً لتحقيق ذلك. إنتباهة:
(1)- عبدالعزيز القصاب : سياسي عراقي ولد في بغداد سنة 1882م ومن عائلة عراقية عريقة إنحدرت من راوة، تبوء عبدالعزيز القصّاب مراكز إدارية وسياسية مهمة أهمها متصرفاً للواء الموصل سنة 1924م ولمدة سنتين ونصف والتي جرى خلالها الإستفتاء الأممي من قبل عصبة الأمم لتقرير وضع الموصل وعائديتها إلى العراق، كما شغل منصب وزير الداخلية في وزارة السعدون الثانية والثالثة ووزارة توفيق السويدي ووزارة جميل المدفعي الثالثة، كما أسندت اليه وزارة الريّ والزراعة في الوزارة السعدونية الرابعة، ووزارة العدل في وزارة ناجي السويدي، كذلك شغل منصب رئيس التفتيش الإداري خلفاً لـ (كورنواليس)، وقد أنتخب خمس مرّات لعضوية مجلس النوّاب ورئيساً له في أربع دورات نيابية ورئيساً لهيئة الوصايا على العرش عام 1947م، توفي سنة 1965م بعد أن خدم العراق بإخلاص في أهم فترات تكوين الدولة العراقية الحديثة، هذا ما جاء في مذكراته التي أعدها وحققها نجله الدكتور خالد عبدالعزيز القصّاب.
(2)- الدكتور علي الوردي: هو علي حسين محسن عبد الجليل الورد (1913-13تموز 1995م)، وهو عالم اجتماع عراقي، أستاذ ومؤرخ وعرف باعتداله وموضوعيته وهو من رواد العلمانية في العراق. لقب عائلته الوردي نسبة إلى أن جده الأكبر كان يعمل في صناعة تقطير ماء الورد. هذا ماجاء من خلال تعريفه في ويكيبيديا.
(3)- أمين المميز: هو محمد أمين بن عبدالجبار حلمي بك إبراهيم حلمي أفندي المميز بن محمد بك (أخ محمد صالح بك الكبير، وهما ابنا إسماعيل بك الكبير بن الوزير عبدالرحمن باشا والي كركوك)، هذا ما جاء في تعريفه لنسبه، ويقول: “أنا بغدادي أصيل (جرّ كراع ودگك الگاع)، ولدتُ سنة المشروطية (إعلان الدستور العثماني سنة 1908) في محلة كانت تُعرف في غابر الأزمان بالدنگچية، وكانت من كبريات محلات جانب الرصافة، سكنّاها أباً عن جد، وخبنّاها كابراً عن كابر لمئات السنين” ، هذا ما ذكرهُ المؤلف في معرض تعريفه لنفسه في كتابه.
وقد شغل المؤلف عدة وظائف مهمة منها: ملحقاً في المفوضية العراقية في لندن سنة 1936م، وقنصلاً في نيويورك وممثلاً للعراق في هيئة الأمم المتحدة سنة 1949م، ووزيراً مفوضاً في المملكة العربية السعودية سنة 1954م.