25 نوفمبر، 2024 9:41 م
Search
Close this search box.

مقتل سلحفاة

غيوم تتزاحم فوق سقف الله الأزرق  ، وكأنها تتمازح فتعكس حركاتها في الماء ، عجول همت نحو الماء لتورد عطشها ، فتجفل من فرشاة رسام وهو يغسل فرشاته ،ويضحك الماء في لجة السلسبيل فتنزاح الدوائر ، تكبر و تتضاعف وتتسع حتى تصطدم بأطراف النهر الملساء ، وتمس أنفي نسيمات خفيفة ، وكأنها تخاطبني قائلة: 
-” أنا الشتاء جئت …..فهل عرفتني….!؟” 
 تستأذنني ولسان حالها يقول :
 -” هل أدخل جلبابكم ، أعدكم أن أكون خيراً ، غيثاً ورذاذاً من نعمة وقرصة برد…..؟” 
 وتتحرك الغيوم هاربة نحو الشرق، خلّفت حولها سقف أزرق، تتسيّده شعلة صفراء  وحزم  من ذهب يتلألأ ، وتتقدم ببطء نحو الغروب لتلقي بقطرات الظلام ، قطرة بعد أخرى  ، وهي تغوص خلف البساتين و تنشر حمرتها شيئاً  فشيئاً حتى اصطبغ السقف الأزرق بحمرة ، تتخلّلها بقع من السواد ، لتلبس النهار عباءة الليل ، ببطء و هدوء…… 
طبع توارثته عن أبي وجدي أن أودّع  ذلك المشهد السرمدي كل غروب فوق ضفة الفرات المسافر في جنات الجنوب ، يؤسرني منظر الشمس وهي تبتلع النهار وتلقي الليل في أحضان العتمة والهدوء، وتنشر مكامن الأسرار بين غرف الظلام…. وتجعلني أتيقّن جازماً أن الحياة خبرة تتخللها ممارسات، وفن في العيش يمسك مقوده العقل والغريزة، وهنا يحدث الصراع الأبدي من أجل الديمومة والبقاء وضمان استمرارية الوجود ، وكأن الإنسان يبحث عن الخلود ، فمن أجاده نجا وأفاد واستفاد ، ومن ولّاه ظهره ، قهره وتخطاه ، وفي هذا الأثير الآسر ،  أطلق العنان لأخيلتي وأحاسيسي، أتفقّد مكنونات ذاكرتي، أبحث عن قطرة غربة أو غيث سعادة، أو وخزة ضمير أو فيض ألم ،  حتى استفزّتني واحدة هيّجت كل أخيلتي وسحبتني نحو وعي حسي مخبوء ، وبدأت  الأحداث تتسابق في صندوق رأسي الأسود المقفل ، ليستعرض هذا الحدث فوق جدار الوعي،  وتنبهت – وأنا أسترق السمع- لحديث دار بين نفسي وضميري: 
-” هل يعتبر الموت نوعاً من القتل….؟” 
سأل ضميري بألم وحرقة واستهجان …..شاهدت نفسي تصمت ، تغطيها الحيرة و الهزيمة لغياب الجواب الشافي عن مخيلتها ، وأخيراً أجابت بإرتباك و حيرة:
 -” أظن ذلك…!” 
 ولمعت عيون نفسي بظلال من جهل ، انتبه ضميري نحو حيرة نفسي، وأضاف موضحاً : 
-” أقصد الصراع الأزلي بين الظلم والتحرر ، الذي تفسره الممارسات المختلفة التي تسكن حقب الحياة وتملأها بالحركة ، حين تجسّد الخير في القليل ، و بالكثير في  دموية  الشر ، الذي يتبناه معظم سكان هذا الكوكب المسافر نحو الانحسار و الاندحار بفعل أهله الأغبياء ….مادامت الدائرة مقفلة تبدأها الصرخة الأولى حياة، ويختمها النفس الأخير بالموت…..ألا تعتقد أنّ الموت نوع من قتل….؟” ضحكت نفسي من إيضاح ضميري، وبان عليها أنها فهمت المقصود ، هزت رأسها استجابة بالفهم والإيجاب….. 
مجاهد من أهلي ، تطارده قوى الظلام  التي ابتلعت شموس  الخير و مياه الأهوار ، وطردت الرزق من البيوت قسراً ، واللقمة  من أفواه أبناء بلدي ثلاث عقود ونصف ، ألقى الرجل مسواقه في الأرض ، واستمر بالعدو بعيداً عن فوهات الموت ، وأزيز الرصاص يداعب أذنيه أنغاماً فيروزية ، متجهاً نحو منطقة ( الحمارة ) القريبة من هور الحمار ، والتي ألتقطت هذا الاسم  من شدة الحر والرطوبة في مناخها، لتحذير رفاقه وسد رمق عطشه ….. الإنسانية دأب الأحرار، وسجاد صلاة الشهداء ، و قبلة الأتقياء ، وعندها نسي الموت  هذا الرجل ، تحت مرأى غريب ، سلحفاة عطشى تسعى ببطء نحو الماء، وهي تجر نفسها جراً ، من ثقل الجوع والعطش الذي بذرته أصابع الظلم القاسية …..أحس الرجل بعينيها الصغيرتين وهي تنظر نحوه ، كأنها تستجديه رشفة، أو أن يمنحها جزءاً من سرعته لتصل الماء، والمواقف الصعبة شعاع قوي شديد السطوع يكشف النفوس ، التي يتسيّدها  الظلم  ، فتذوب الفوارق وتتوحد في بودقة الإنسانية ، وتختلط أحاسيس المخلوقات معاً في اتجاه واحد ، التحرر والخلاص…… 
شعرالرجل بساقيه قد كبلت بسلاسل من حديد قذفتها نظرات تلك السلحفاة المسكينة العطشى، وكأنها من بين سيل دموعها ، تقول: 
-” لك الله يا أخي ، فأنا مثلك شملني الظلم ولفني بعباءة الموت ، خذني معك أرجوك…!” 
هز الرجل رأسه بالإيجاب، وكأنه سمع صوت خطابها الخفي الواضح ، انحنى عليها بحنان وهدوء ، التقطها ووضعها في جيبه واستمر في العدو من جديد غير آبه  لأزيز الرصاص وأصوات عجلات الموت  التي تلاحقه للنيل منه ومن رفاقه ، فرحاً بما في جيبه من خير وكأنه عثر على درع حماية وكنز من أمل بالحياة …..
 ويمر الزمن ثقيلاً، وساقاه لا تزالان تعملان بإخلاص وحرفنة ، لبلوغ هدف تضاعف  عنده الآن ، بثقل مسؤولية أخرى ، فقد نسي حياته وبدأ يفكر بحياة ساكن جيبه ، فزاد سرعته خوفاً عليها ، والأفكار تأخذه في كل الاتجاهات ، حتى لاحت له أخيراً ، منطقة (الحمارة) وهي مبتغاه الأول  والأخير …..
 أدرك الماء ، بعد أن ضيَّع أثره الملاحقون من جنود الظلم  ، وقبل أن يسقي نفسه الماء ، فكر في ساكن جيبه ، وأخرج  تلك السلحفاة المسكينة من جيبه ووضعها في الماء ،  قصمت المفاجأة ظهر الماء، وظهر هذا الرجل الغيور ، بعد أن أحسّ أن هدفه السامي لم يتحقق ، ومهمته الإنسانية قد باءت بالفشل ، أطرق الماء برأسه خجلاً ، ولفظ  آخر أنفاسه بموت سلحفاة…..احمر وجه الإنسانية غضباً  حتى صغر حجمها ، أمام هذا المشهد المأسوي …..فهل تعرق جباه الظالمين……!؟

_____________________________________________ 
 (ملاحظة : تلك قصة حقيقية رواها لي شاهد عيان وهو الصديق العزيز السيد ناصر حسين اليعقوبي كما حدثت لاحد مجاهدي الاهوار وكلفني بكتابتها مشكورا )

أحدث المقالات

أحدث المقالات