في صغرنا، كان لمعلمتنا التأثير البليغ في توجيهنا على مفردات السلوك الحسن، وتدريبنا على التصرفات السليمة مع معيتنا. ومن جملة ما أوصتنا به الحفاظ على حقوق الغير وعدم تجاوزها، سواء أفي الصف كنا أم في الشارع أم في البيت!. وكانت تذكرنا دوما بآيات وأحاديث ومقولات وحكم وأمثال تحث على هذا السلوك، ابتداءً من جلوسنا على الرحلة في الصف بشكل لايضايق زميلنا، الى عدم رفع أصواتنا بشكل يزعج الطلاب، وعندما نخرج من المدرسة توصينا باحترام الطريق وعابري السبيل، وفي البيت توصينا بغض البصر عن الجار، وغير ذلك من الخصال الحميدة.
ما ذكرني بمعلمتنا وتأكيدها على هذا الجانب خبر نشرته قبل أيام إحدى الوكالات، مفاده أن طبيبة في بريطانيا غُرمت مبلغ 5000 جنيه استرليني، لتجاهلها إشعارا قضائيا من المحكمة يطالبها بخفض الضوضاء الناتجة عن كلابها التي تسببت في إزعاج الجيران. وذكرني هذا الخبر بحقيقة نقلها لي أحد الأصدقاء المتغربين عن العراق -وهم كثر- ان في نيوزيلاند لايحق لك اقتناء كلب حراسة إلا بعد تقديم طلب الى مجلس بلدية المنطقة، يحوي إقرارا من جيرانك الأربعة الذين هم عن يمينك وعن شمالك وأمامك وخلفك، يضم هذا الإقرار موافقتهم على اقتنائك كلبا، كما يحق لهم وضع شروط لذلك، كتحديد اوقات نزهتها -الكلاب- في المنطقة، وشروطهم هذه تحتم عليك الالتزام بها وتطبيقها بحذافيرها، وعند إقرارك بالتزامك بكل هذا الشروط مجتمعة، يمنحونك إجازة اقتناء كلب. واللافت للانتباه أن هذا السياق متبع مع كل شرائح المجتمع -نيوزيلاند طبعا- حتى لو كنت تتبوأ منصبا عاليا في الحكومة، بل ويتوجب عليك اذا كنت كذلك ان تلتزم بتطبيق القانون قبل الجميع. وهذا الأمر تندرج تحته ايضا أصوات المذياع والتلفاز فيجب ان لايتعدى حدود سياج بيتك وإلا فالشرطة بالمرصاد. كذلك الحال بالنسبة الى منبه المركبة والعجلات البخارية والهوائية، اما إشارة المرور فيمتثل لأمرها المواطن والمسؤول على حد سواء.
أذكر كذلك قصة رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل، حين أركن مركبته في مكان ممنوع وغاب عنها برهة، وحين عاد وجد شرطي مرور يحرر له وصل غرامة، عندها ظن تشرشل ان رجل المرور لم يعرف انه رئيس وزراء بريطانيا العظمى، فتقبل منه الغرامة برحابة صدر، لكنه فوجئ حين وجد ان مبلغها هو (عشرون باونا)، فبادر قائلا لرجل المرور: أليست الغرامة محددة بـ (عشرة باونات) أجابه: ان مبلغ العشرة باونات للمواطن البريطاني العادي، أما العشرين فهي بحقك أنت بالذات لأنك رئيس وزراء، وكان الأولى بك تطبيق القانون قبل الكل. وكان رد فعل ونستون أن حضنه وقال مقولته الشهيرة: “إذن، بريطانيا بخير”. هذا كله -وغيره لو أردت الحديث عنه لنفدت الأوراق وجفت الأقلام- يحدث في دول نسبة الإسلام فيها قليلة جدا جدا. هنا في عراقنا الذي يحتضن مراقد الاولياء والاوصياء، وأحاديثهم نسمعها ونقرأها أنى نذهب، إذ نرى في كل ساحة او جزرة وسطية لافتة أو (فلكس) فيه من توجيهاتهم ونصائحهم وعظاتهم الكثير، فما أروع ان نطبق ماقالوه في حياتنا مع جارنا وصديقنا وزميلنا، ونعمل به على نحو دائم في يوميات حياتنا!. أما الأكثر روعة من كل هذا هو ان يطبق ذلك مسؤولونا الكبار ووجهاء بلدنا، ممن يتمتعون بنفوذ ومكانة مجتمعية مرموقة قبل المواطن المسكين، ومن يدري؟ لعلنا نقول يوما: “إذن..! العراق بخير”.. ورحم الله تشرشل ورحم من قال:
لاتنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك اذا فعلت عظيم
[email protected]