نتيجة لفشل واضمحلال القطب الشيوعي في العالم، انفرد النظام الرأسمالي المتمثل بالولايات المتحدة الامريكية، كاكبر قوة اقتصادية وعسكرية، بمصير العالم، مبشرا بنظام عالمي جديد تسوده الديمقراطية والحرية والازدهار الاقتصادي الحر ..!وقد مضى اكثر من عقدين من الزمن ولم يظهر بصيص امل في الافق نحو هذا الخير والرفاه الموعود..بل العكس هو الصحيح، ان جميع الدلائل والممارسة العملية على الارض تشير الى غياب العدالة الدولية والانهيارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم بسبب التسلط الامريكي غير المشروع على مصير الامم والشعوب، وبالتالي فان لهذا النهج نتائج خطيرة للغاية على مصير السلام والامن في العالم. وازاء هذا الواقع الخطير، فان المجتمع الدولي يتحمل مسؤولية تأريخية امام الشعوب في ايجاد اليات جديدة فاعلة لحماية حقوق الانسان وتحقيق العدالة الدولية للوقوف بحزم امام ظاهرة فرض امريكا لنفسها “كشرطي العالم “يهدد العدالة الدولية بتجاوزات خطيرة للغاية وخرق فاضح لقواعد القانون الدولي كما حصل في العراق وغيرها من دول العالم. لقد ادرك العالم اهمية العدالة الجنائية الدولية منذ انتهاء الحرب العالمية الاولى، عندما تضمنت المادة 227 من معاهدة فرساي لسنة 1919 على ضرورة تشكيل محكمة
جنايات دولية للنظر في جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية والابادة الجماعية المرتكبة من قبل الامبراطور الالماني “غليوم الثاني”، وللاسف لم يتحقق ذلك بسبب ضعف ارادة المجتمع الدولي انذاك، وبالتالي تخاذلة في تطبيق العدالة الجنائية الدولية، وكان ذلك سببا رئيسيا في التشجيع على اندلاع الحرب العالمية الثانية..فلو نفذت هذه المادة من المعاهدة المذكورة ونال غليوم الثاني ورهطه من القادة السياسيين والعسكريين الالمان جزائهم العادل في حينه، لكان ذلك من اهم عوامل الردع لغيرهم من الحكام امثال هتلر في عدم الانسياق وراء نزواتهم ورغباتهم الشريرة في اشعال فتيل الحرب العالمية الثانية التي راح ضحيتها عشرات الملايين من الجنس البشري. وبالرغم من ان المحكمة العسكرية الجنائية الدولية (محكمة نورمبرغ) التي شكلت بعد الحرب العالمية الثانية بتأريخ 8/8/1945 بحضور مندوبين من عشرين دولة ووقع على ميثاقها كل من امريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي السابق، كانت تمثل الحد الادنى المطلوب في تحقيق العدالة الجنائية الدولية لاسباب عديدة.. اهمها عدم حياديتها لتشكيلها من قبل الدول الحليفة المنتصرة التي كانت مصممة مسبقا على الادانة والعقاب اي كانت “خصما وحكما في آن واحد”..الا ان النجاح الذي حققته في مجال معاقبة مرتكبي الجرائم الدولية يعتبر تحولا بارزا في نطاق العدالة الدولية..بل خلقت سابقة قضائية عالمية يمكن التعكز عليها في ارساء المبادئ الاساسية لنظام قضائي جنائي دولي دائم لمعاقبة كل من تسول له نفسه من الحكام والمسؤولين السياسيين والعسكريين وبدون استثناء عن ارتكابهم جرائم دولية كجرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية.
الا ان التركيز على الجانب القانوني والقضائي كدعامة رئيسية في تحقيق العدالة الدولية بشكل عام ..لايعني اهمال العوامل الاخرى.. كالعوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية…الخ، فان اي تخلف في معالجة اي مجال من المجالات المذكورة في المجتمع الدولي سيخلق فجوة تساعد على انهيار السلام والعدالة والامن في العالم. يؤكد جاك أتالي احد كبار مساعدي الرئيس الفرنسي الراحل فرانسو ميتران والمؤسس للبنك الاوربي للاعمار والتنمية، على ضرورة اقامة مؤسسات عالمية لها قواعدها واسسها والياتها كبديل للتخلص من المعضلات الكبيرة التي قد تنشأ نتيجة للفوضى والركود الاقتصادي الذي يجتاح العالم وبالتالي قد يؤدي الى حرب عالمية ثالثة..ويتسائل جاك أتالي..هل نحتاج الى حرب عالمية اخرى قبل ان نثوب الى رشدنا..؟ كما ان التخلف السياسي والاجتماعي والثقافي في بعض المجتمعات الدولية يخلق عبئا ثقيلا على العالم مما يهدد السلام والامن الدوليين، اذ تصبح تلك المجتمعات مرتعا خصبا للعصابات (المافيات) وتعكس اقسى مظاهر الارهاب والفساد بمختلف اشكاله، وانظمة سياسية دينية “ثيوقراطية “او فردية دكتاتورية “تيوقراطية “او اديولوجية حزبية شمولية، تمارس احط انواع القمع لحقوق الانسان وشتى انواع الرذيلة، كما هو حال العملية السياسية في العراق التي زرعتها الولايات المتحدة الامريكية بعد الاحتلال عام 2003. وكما نرى ونلمس عمليا، ان الولايات المتحدة الامريكية تجري بعكس التيار في وضع الاسس لمؤسسات دولية
للتخلص من المشكلات في العالم في مختلف الاتجاهات، وتبرهن يوما بعد يوم ان مصالحها تكمن بالسيطرة التامة على القرارات الدولية ومصير الشعوب..وخير برهان على ذلك هو معارضتها الشديدة لرغبة الدول المشاركة في المؤتمر الدولي المنعقد في روما بتأريخ 18 تموز 1998 في اقرار النظام الاساسي لتشكيل المحكمة الجنائية الدولية التي طال انتظارها منذ الحرب العالمية الاولى كما اشرنا، بحجة سخيفة للغاية حيث اعلن احد المسؤولين في الوفد الامريكي لهذا المؤتمر، بان هذه المحكمة لا تراعى فيها مبادئ القانون والعدالة..!؟ الا ان السبب الرئيسي يكمن وراء الحقيقة التي اعلنها السفير الامريكي في روما في حينه..بان بلاده ترفض المصادقة على اتفاقية انشاء هذه المحكمة لانها (بلاده) بالضد من مفهوم السلطة القضائية الجنائية العالمية التي من شأنها سلب الهيمنة الامريكية ومقاضاة جنودها ومسؤوليهم اينما وجدوا في العالم عندما يرتكبون الجرائم الدولية. وفعلا نجد ان القوات الامريكية مسؤولة عن جرائم دولية نتيجة الاحتلال والعدوان في شتى انحاء العالم ومنها غزو واحتلال العراق، على سبيل المثال، التي راح ضحيتها الملايين من القتلى والجرحى والمعوقيين والمشردين والمهجرين وممن سرقت وسلبت ممتلكاتهم ناهيكم عن الاموال العامة والاثار العراقية المنهوبة وتدمير البنى التحتية وهدم العراق كدولة بشكل كامل نتيجة لحل جميع مؤسسات الدولة الحيوية واقامة عملية سياسية طائفية اثنية، يعمل اطرافها على نهب الثروات وتمزيق الدولة تبعا لانتمائاتهم العرقية والطائفية . وما يؤكد النزعة الشريرة لسلوك واشنطن تجاه شعوب ودول العالم هو اعتمادها المعايير المزدوجة في التعامل دون اي اكتراث للمردودات الاخلاقية جراء تلك المواقف.
وبالوقت الذي لم تصادق على النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية وبالتالي عدم الاعتراف بهذه المحكمة لاي سبب من الاسباب، فانها تستخدم صلاحياتها في مجلس الامن لاحالة بعض الحكام اليها عن ارتكابهم جرائم دولية ..!!كما حصل للرئيس السوداني والقذافي مؤخرا. وبغض النظر عن موقفنا من هؤلاء الحكام، الا ان موقف واشنطن شاذ وغريب ويتنافى مع ابسط القيم والقواعد الاخلاقية عندما تستخدم اليات لا تعترف بها اساسا لمعاقبة الاخرين ..! هذا يعني بشكل لا يدعو الى ادنى شك ان امريكا بعيدة كل البعد عن ترسيخ مبادئ المؤسسات الدولية وفق مفاهيم الديمقراطية الليبرالية التي يبشرون بها او يلوحون بها لشعوب العالم..بل تسعى الى تعزيز هيمنتها على مجلس الامن بشتى الوسائل المتاحة لغرض تمرير مخطاطتها ومآربها في تكريس الانظمة السياسية وتفتيت دول العالم الثالث (الشرق الاوسط) بما يخدم مصالحها ومصالح الصهيونية العالمية السياسية والاقتصادية، وان ما يجري في المنطقة بشكل عام والعراق بشكل خاص خير دليل على ما نقول. فامام جميع دول العالم وفي مقدمتها دول اوربا الصناعية استخلاص الدروس والعبرمن تجربتي الحربين العالميتين الاولى والثانية اللتان اندلعتا بسبب غياب المؤسسات الدولية الفاعلة في ارساء مبادئ العدالة في جميع المجالات، وان تمادي الولايات المتحدة الامريكية بمقدرات العالم ينذر بشؤوم لا يحمد عقباه، لاسيما ونحن امام عالم يختزن الملايين من اسلحة الدمار الشامل.