تفتقر اغلب الدراسات للظاهرة الانتخابية في العراق أو العالم الثالث الى دراسة العامل السلوكي للناخب , مما أنتج فراغا في دراسة السوسيولوجيا الانتخابية وتحديدا السلوك الانتخابي , وهذا يعود الى اسباب عديدة نظرية و عملية , الا ان ذلك يعكس بالمجمل غياب الاهتمام وقلة الاشتغال والانشغال بحقل السوسيولوجيا السياسية , لذا يلجأ الباحثون الى التركيز على العوامل الهيكلية كالقوانين أو الادارة أو البنى المؤسسية للنظام والفاعلين السياسيين , كأن الظاهرة الانتخابية محض متوالية حسابية وصناديق ومقاعد وقوى سياسية , بأختصار اصوات لا مصوتين , من هذا المنطلق تأتي هذه المقالة بصيغة ملاحظات على السلوك الانتخابي في العراق , لأثارة الاهتمام بهذا الحقل , وسواء كانت هذه الملاحظات ذات وصف أنطباعي أو استقراء أولي للسلوك الانتخابي العراقي , وسواء اتفق عليها او اختلف معها الباحثون , جزئيا أو كليا , والافضل الاختلاف لانضاج وتطوير النقاش بصدد هذا الموضوع , الا انها تشكل دعوة لاعادة التفكير في العامل السلوكي للناخب في سياق الاهتمام بحقل السوسيولوجيا الانتخابية عراقيا . وهذه الملاحظات هي :-
– التربة ضعيفة .. نقصد بيئة السلوك الانتخابي .. لكن بالارتباط مع التقاليد المدنية ربما ينطبق هذا الوصف أكثر على المرحلة ماقبل العام /2003, فبالرغم من طبيعة النظام القهري – الليفثنانث –انذاك , لكن كانت هناك بقايا وان هامشية وبعضها مضمرة من مظاهر مدينية , لاسباب لا مجال هنا للتطرق لها, قسم منها أيدلوجية , وقسم أخر سياسية ..الخ , الا انه وبعد ذلك العام وعكس المفترض جرى انهاك للتربة بل وتجريف حتى تكاد اليوم تكون ارضا بوار , هنا نتحدث حصرا عن احد اهم مستلزمات الديمقراطية والانتخابات وهي التقاليد المدنية .
مثال : القيم الاقتصادية كان رافعة التطور المدني , في اوربا فأن الراسمالية قادت قاطرة التحديث , وفي العالم الثالث فان النماذج الناجحة هي تلك التي حققت طفرات اقتصادية , في هذا السياق وعند زيارة المنطقة المحيطة بضريح الامامين في كربلاء تتفاجئ بالمستوى البسيط والمتواضع ( المطاعم / الفنادق/ المحال التجارية .. الخ ) الاشبه بالمنطقة المحيطة ببعض مرائب النقل في بغداد , رغم الامكانات الهائلة في تلك الاحياء حصرا, وبمعزل عن الدولة, وفي ظل استقرار امني نسبي قياسا بالمناطق الساخنة في العراق , فحتى القطاع الخاص والاشخاص ليس لديهم الدافع لتطوير مراكز أعمالهم , طبعا مع الاخذ في الاعتبار ان بعض مظاهر العمران الحديث الموجودة في المدن الدينية (كربلاء/ النجف ) لا تقارن بالامكانيات والموارد هناك .
– المكان الذي يمكن أن تصل اليه يتوقف على المكان الذي أتيت منه , لذا من الضروري توصيف الحدث السياسي عام 2003 , لم يكن بالمصطلح العلمي أنتقالا او تحولا أنما كان تغييرا سياسيا , لانه وبكلمة مختصرة كان من الخارج أولا, ومن الاعلى ثانيا , وثالثا ان السيرورة انقطعت منذ أنتهاء العهد الملكي , طبعا التجربة السياسية في العهد الملكي على علاتها وعواهنها .
– الثقافة السياسية .. منظومة القيم والمفاهيم لازالت ذاتها سياسيا, اذا لم تكرس وتتجذر , مثلا في النظام السابق كان السؤال الذي يتكرر عند لقاء رئيس النظام مع اشخاص عن المنطقة والاهل .. الخ , بعد /2003 نفس السؤال يحكم العلاقات بين الاشخاص , أوبينهم و السياسيين , اذا استمرت معايير التمايز والانقسام الاجتماعي / السياسي , وهو ما أعيد أنتاجه انتخابيا .
– على صعيد الوظيفي , لازال الناخب لا يعرف وظيفة الانتخابات , حيث يتم مقاربتها سلوكيا وقيميا بأعتبارها أما بيعة دينية ” أولي الامر الواجب طاعتهم ” , او مناصرة عشائرية ” أنصر أخاك ظالما أو مظلوما ” , او بعدها استفتاءا على الهوية الأثنية أو الجهوية , بأختصار ينظر للانتخابات كوسيلة للتعبير عن صورة ومكانة الجماعة الاولية وأفرادها , وليس كوسيلة لمحاسبة شعبية للسياسيين , وأعادة تقييم للبرامج الانتخابية , و الاداء المؤسسي للنظام ..الخ , وهذا يمثل تغذية عكسية للمرشحين والاحزاب السياسية بأعادة توظيف هذه القيم في سلوكهم الانتخابي , وكدالة على ما تقدم فقد وجد العديد من المراقبين للانتخابات العراقية أن الكتلة الاكبر من المصوتين كانو من العالم القروي في عدة دورات انتخابية .- الانتخاب الماضوي : – أحدى قيم النهضة الاوربية , والحداثة الاجتماعية , بكلمة اخرى المدنية , أن الانسان سيد نفسه و مصيره , لذا فأن الانتخاب يمثل فكرة المستقبل الذي يصنعه الانسان بنفسه, والمستقبل يرتبط بقيمة التغيير بمعنى التجديد , وهو جوهر الحداثة السياسية المعبر عنه بالديمقراطية , اما المجتمعات التقليدية فهي تقاوم التغيير بشدة , ولا تؤمن بالمستقبل الا بوصفه استمرار للماضي , وهذا ينعكس على السلوك الانتخابي , بمعنى أخر ان المواطن ينتخب بأثر رجعي , وليس بأثر مستقبلي , لانه يؤمن ان الافضل والانقى والاصلح في الماضي , ويجب العودة أليه , وهذا ما يتجسد في الدعاية الانتخابية , فاذا ما قمنا بتحليل مضمون اغلب الملصقات والشعارات نجدها مشبعة بالمضامين الماضوية , والموروث الديني والتاريخي , والمستقبل اذا ورد فبعده أمتدادا وتعبيرا عن الماضي .
– المشاركة المدنية والثقة المعممة : أن المشاركة المدنية وأحدى صورها المشاركة الانتخابية , تبنى على قيمة الثقة المعممة , لا الثقة الخاصة , لذا فان الثقة تكون ضعيفة بين الجماعات في الثقافة التقليدية , اما في المجتمع المدني , لاسيما في مراحله الاولى فأن الثقة تنشأ أعتمادا على عدة عوامل منها :
1- الطرف الثالث : وهو ما أكد عليه علماء السياسية المعاصرون و واضعي النظرية الاجتماعية , مثلا فوكوياما صاحب مقولة الدولة أولا , وقبله هوبز , وروستو بمعنى اخر , وغيرهم , وهنا نقصد السلطة الرسمية ( authority) , لكن المشكلة أن الطرف الثالث يجب ان يكون موضع ثقة, أي غير منحاز اجتماعيا , بمعنى ان يكون فوق الجماعات والصراع الاجتماعي, ناظما للصراع لا طرفا فيه , وهذا يرتبط بالهيكل الاجتماعي العام , بمعنى ان تكون البنية المؤسسية للدولة مصدرا للامان الشخصي والاجتماعي , عدا ذلك من المستحيل أن تنال الدولة ولاء الجمهور , والبديل المنطقي هو الشبكات غير الرسمية , اللانتماء المتبادل .2- العقد : العقد بالمعنى القانوني هو اساس المنهج الوضعي الحديث لا سيما أجتماعيا , وعندما يكون العقد غير نهائي/ غير دائم , ولا محدد/متشعب كثيرا , وغير واضح الالتزامات , سيحدث ارتداد عن مثل هذه العقود , تنجم عن وتؤدي الى اللايقين , وعدم الثقة , و الهروب من المسؤولية , والاستغلال , والانعزال , بأختصار الفوضى والركود, وكما معروف أن العقد الاسمى للدولة وهو الدستور تنتج عنه شبكة من العقود الاصغر وهي القوانين والانظمة واللوائح والاعراف القانونية والادارية .. ألخ , في العراق فأن دستور 2005 هو دستور دائم من الناحية القانونية , الا أنه دستور مؤقت من الناحية السياسية, وكعقد اجتماعي كذلك , بحكم المواد المعلقة رقم ( 140/142) والتي كانت شرطا لتمرير الدستور لدى مكونين اساسيين من المجتمع العراقي , هذا من جهة , ومن جهة اخرى عدم اكتمال القوانين الدستورية لأكثر من خمسين مادة , فضلا عن الالتباسات والغموض والتعارضات في كثير من مواده الاخرى, مما يطعن في ميثاقية العهد وصدقيته ويدفع الى التخلي عنه سلوكيا , وهو ما يتجلى بأبرز صوره في الممارسة السياسية للفاعلين السياسيين ,كما في الالتزام بالقانون عموما لدى اغلب المواطنين.
3- السلفة الاجتماعية : نحتاج الى جمعية القروض الدوارة , لكن بمعنى أخر , اجتماعيا بمعنى الا يكون هناك راكب مجاني ليدفع الاخر أو الاخرون الثمن , عندها يصبح الاحمق من يلتزم , هناك رعي مفرط في الارض المشاع , وبمعنى سياسي أن المبدأ الموجه للمجتمع الحديث ” كل واحد لنفسه , والدولة للجميع ” , ما تقدم يرتبط بمنطق العلاقات في دولة ريعية تنتج عنها سلطة زبائنية , فبدون أنماء متوازن ورفاهية اقتصادية ترتبط بالانتاج الاجتماعي , لايمكن للفقراء والمهمشين أن ينخرطوا في مشاركة تنزع للمدنية, وحتى على صعيد المجتمعات الغربية الديمقراطية لاحظت الدراسات أن فئة المستخدمون في البيوت يسجلون أدنى نسبة مشاركة , لانها ستمثل أكلاف بدون عوائد , بمعنى نوع من السخرة أو الارغام القهري, منطق الاحمق , والتخلي عنها لمصلحة العلاقات الضيقة سيكون المعادلة الاجدى, وهو ما يواجه عملية تحديث سجل الناخبين الحالية التي سجلت مستويات متدنية , أضطرت معها الحكومة الى اصدار تعليمات الى موظفي الدولة بتحديث سجلاتهم الانتخابية , وهي تعليمات تستبطن الجزاء وأن يكن غير معلنا .
– من مجمل ما تقدم , وفي ضوء قراءة للدورات الانتخابية السابقة , نخلص الى أن السلوك الانتخابي في العراق يتجه نحو ثلاثة أنواع اساسية هي :-
1- التصويت الإنصياعي: هنا يكون التصويت نتيجة الإكراه الخارجي الذي تمارسه الجماعة الإجتماعية على الفرد مما يجعله مرغما نحو أتباع سلوك إنتخابي معين.
2- التصويت المباع : وهو السلوك الناجم عن مقايضة صوت الناخب بمكافات عينية او نقدية , وهذه الفئة يمكن توصيفها بالزبائن المؤقتين .
3- مقاطعة الانتخابات: وهو ما ينجم عن عدة اسباب بعضها يرتبط بالشعور بعدم جدوى الانتخابات وعدم قدرة الانتخابات على احداث تغيير حقيقي , وفقدان مصداقية النخبة الحاكمة , أوموقف ناتج عن تراجع مكانة الجماعة في المخيال التاريخي , أو فئات متضررة من النظام الجديد … الخ , وهي بالمجمل مواقف سلبية .
– ما هو الحل : الحل هو في أعادة فحص الملاحظات أو التعميمات السابقة , وذلك بالمنهج الكمي , لنتبين محددات ومستويات تلك الافتراضات, وأي أفتراضات معاكسة أخرى , و أن بقدر محدود , وفقا لمعايير العمر والشريحة الاجتماعية والنوع الاجتماعي والتحصيل الدراسي والمنطقة .. الخ , وهذا لا يحدث بطريقة تسطيح الاستبانات التي تنتشر في العراق اليوم , يجب اولا حصر حدود الظاهرة , ثم تحديد المتغيرات الاساسية واستبعاد الثانوية , ثم نفتح المفهوم , ونحوله الى متغيرات قابلة للقياس الكمي , ونضع اسئلة مصفاة , الخ من التقنيات , هذا من جهة , ومن جهة أخرى يجب أن نأخذ بالسياق الاجتماعي وهذه احدى اهم الاخطاء المنهجية في البحوث الاجتماعية والسياسية في العراق والمنطقة , عندما نجرد المفاهيم من سياقاتها و نبدأ بالقياس عليها . وفقا لما تقدم وبعد استخلاص النتائج يمكن وضع خطة منهجية للعمل .