ظاهرة جديدة نسبيا انتشرت بين الشباب والشابات في الشرق الاوسط مع انطلاق الربيع العربي في بداية هذا العقد وصارت الان واضحة ومميزة جدا وهي بروز وانتشار اللادينية – اللاادرية والالحاد وخاصة على منصات التواصل الاجتماعي وبكل المنتديات الثقافية. وتضاربت المصادر في تقدير مدى استفحال هذه الظاهرة والاعداد الفعلية لهم ونسبهم. ففي العراق لايخلو بيت الان من فرد بالعائلة يثير قضايا دينية بشكل غريب وغير مطروق سابقا مما يوصم بانه مشكك بثوابت الدين او متحرش بالذات الالهية وصفاتها او بباقي الاعراف الدينية والتابوهات المتوارثة والمستحدثة. فماهي جذور واسباب هذه الظاهرة وكيف تنشأ وماهي فوائدها وعيوبها وهل انها وقتية ستزول مع هدوء الاوضاع السياسية والاجتماعية وماهو عدد هؤلاء في المجتمع وما يميزها عراقيا عن غيرها وكيف يمكن السيطرة عليها؟
بداية الالحاد ليس غريبا على المجتمع والموروث العراقي سواء في العصر الحديث ام القديم. فقد شهد تاريخ العراق اسماء لامعة من الملحدين واللادينيين؛ ابو العلاء المعري (973-1058) وابن الراوندي (837-911) وقبلهما اخوان الصفا المعتزلة في البصرة قالوا في الدين ومسلماته واياته مالا يجرؤ احد اليوم على قوله. وللشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي (1875-1945) كتاب ناقد في ’الشخصية المحمدية’ والسيرة النبوية يطلق عليه ايضا ’حل اللغز المقدس’. اما في عصرنا فكان الشيوعيون واليسار ومعظم البعثيين والقوميين الذين تسيدوا الساحة في النصف الثاني من القرن الماضي كانوا ولا زالوا ملحدين ولادينين سواء اقروا بذلك ام نفوه لاسباب معروفة, بل وكان معظهم يتخذ موقفا عدائيا واجراميا احيانا من الدين والمتدينين. ولكن مع أفول وفشل اليسار والفكر القومي عالميا بدا وكان الفكر اللاديني تلاشى من مجتمعنا.
الالحاد الجديد الذي نقصده اليوم هو راسمالي وليبرالي ومحاكي للغرب ويتميز بجرأة وعلانية الطرح والنضال المعرفي على عكس السابقين مع قيام البعض منهم وتحت اسماء وهمية بالتعدي السافر غير المبرر احياناعلى رموز دينية لها اهميتها التاريخية. ويتخذ من مواقع التواصل الاجتماعي ساحة اساسية له. كما انه اليوم اكثر عقلانية ونضوجا ويعتمد على المعلومة العلمية والبحث العميق الاستقصائي في تفاصيل احداث وروايات الماضي وفي النصوص والرموز المقدسة جميعها, وله طابع انساني اخلاقي ووطني لم نجده في ملحدي السابق. فمن اسباب انتشاره عراقيا وعربيا هو استشراء الفساد المالي والاخلاقي للسطة والاحزاب الدينية الحاكمة بصورة لم تشهدها البشرية سابقا مما صار يؤثر على معيشة وفكر كل عراقي, بالاضافة الى الصدمة الكبرى التي احدثتها داعش والقاعدة في فظاعة ما ارتكبوه من الجرائم اللااخلاقية التي تنافي كل ضمير حي وكلها كانت باسم الدين وتحت شعارات قرانية ونبوية لم يكن يعرف عنها الكثير. وعندما رجع الجميع الى المصادر الاصلية مستغلين التطور التكنولوجي الهائل في نقل وخزن المعلومات عبر النت, كانت خيبة الامل الكبرى عندما وجدوها متجذرة بكل تاريخنا الذي كنا نفاخر به سابقا ولم نمحص احداثه. اضافة الى تطور العقول وزيادة التعليم وشعور الجميع بان الاجوبة الترقيعية والهلامية التي يقدمها رجال الدين لتفسير احداث الكون والتخلف الذي نعيش به وللكوارث التي نشهدها, وتبرير الخرافات والخلافات التي لايزالون يصرون عليها, صارت جميعها غير موافقة وغير مجدية للمنطق العقلاني المعاصر كثير الفضول وشديد التشكيك وصعب الاقناع. وربما يضاف لذلك الثورة الجنسية التي بدات تتشكل ملامحها في بلداننا. وهناك ايضا اسباب محلية خاصة.
يتميز العراق عن باقي دول المنطقة بمكونين دينيين كبيرين ومتصارعين ومتشاتمين منذ الازل هما السنة والشيعة. ففي كل المجالس الخاصة والعامة وعلى صفحات النت هناك ازدراء لكل مقدسات الاخر ومن كل المتدينين تقريبا. ربما لهذا السبب وللاسباب التاريخية السابقة لم يتم لحد الان ولا يمكن محاكمة احد بتهمة ازدراء الاديان او سب الذات الالهية والانبياء والمقدسات. فلو تم تفعيل هكذا قانون, ان كان موجودا اصلا, فلن تكفي كل سجون العراق والمنطقة للمزدرين للاديان والمذاهب والصحابة بيننا وخاصة بين الشيعة. من ناحية اخرى تم في السنوات الاخيرة اختطاف واغتيال نشطاء علمانيين وملحدين عديدين على يد متطرفين اسلاميين ولكنها جميعا كانت لاسباب سياسية وليست عقائدية دينية. كل ذلك ساهم في تطور وانتشار الفكر الناقد المتجرئ على تابوهات يصعب المساس بها عادة في مجتمعات مجاورة. كما يتميز الالحاد الحديث بالعراق عن باقي دول المنطقة بان جذوره قد زرعها مؤخرا رجال دين معممين عراقيين امثال اياد جمال الدين واحمد القبانجي وغيث التميمي واخرون ولم نستورده من الخارج كما في الصرعات الالحادية والفكرية السابقة. وهم وان لم يدعوا انفسهم انهم ملحدين ولكنهم ساهموا بشكل حاسم وواضح في نشر اللادينية من خلال خطابهم المغطى بالدين او بدعوى اصلاح الدين ونقد الموروث. في حين ان العلمانيين والليبراليين المعروفين بين المدنيين المتصدين للساحة نادرا ما تجد عندهم صراحة في الطرح واغلبهم ينافقون مجتمعهم في امور الدين.
ميزة اخرى يمكن ملاحظتها في العراق عن الدينية او اللادينية وهي ان الطرفين ينتعشان ببعضهما البعض. فحلم ومسعى كل متدين عراقي متعلم هو ان يناقش ويجادل ملحدا املا بتفنيد حججه واثبات صحة مايؤمن هو به. واللاديني ايضا يحتاج بمراحل مبكرة لطرح تساؤلاته وشكوكه على متدين حقيقي لاثبات خطأ وتناقض وخرافة الطرف الاخر لتتعزز ثقته بما اكتشفه مؤخرا من بينات ودلائل واستنتاجات. علما ان النقاش والجدال العقلاني وحده لم ينجح ولا مرة في التاريخ في اقناع متدين للتحول الى ديانة اخرى او مذهب اخر ولا الى الالحاد, مع ان الكل يدعي ان ما يطرحه هو افكار عقلانية مقنعة لايمكن لعاقل ان لايستجيب لها ويصدقها. فالامور الدينية لها ابعاد وجدانية وذاتية ولا يتحول المرء من فكر لاخر بدون مناقشات ومحاورات داخلية بين الشخص ونفسه وليس بمناظرة مع الاخرين, وعلى فترة زمنية واسعة وعادة بعد صدمة معلوماتية او حالة وفاة او موقف حرج اثار الفضول والدهشة وشرارة الاكتشاف. من ناحية ثانية تجد ان المتدينين جدا عندنا يتجنبون ويبتعدون عن الملحدين تماما والعكس بالعكس. ومعظم المجادلات والشتائم والنقاشات التي نشهدها هي بين مترددين ضعيفي القلب والايمان وبين متزمتين دينيا او لادينيا, او فيما بين كل فئة.
تبتدا رحلة اللاديني عراقيا كما في كل العالم بتساؤلات طفولية فطرية عن الله او الخالق نفسه وقدراته ومدى تدخله او عدم تدخله باحداث ارضنا وواقعنا والكون. يتم عادة نهر الشخص المبتدئ من الاستمرار بهذه التساؤلات بدعوى انها اسئلة كافرة تقود الى عصيان الله وهذا سيتجلب غضبه وانتقامه, او يقال له صراحة ان هذه الاسئلة لن تقود لشيء ولايعلم احد جوابها غير الله ويجب التوقف عن طرحها. فتتراكم هذه التساؤلات العقلانية البسيطة والتي لاجواب مقنع لها من الدين والمجتمع في عقولنا كبذرة الحادية يشترك بحملها كل البشر وبكل الاعمار. فتاتي يوما ما الصدمة الكبرى لتعيد نشر وانبات تلك البذور وتتوسع جذورها واغصانها مدفوعة بتساؤلات اعمق وخيبات كبرى على صعيد الخير والعدل الكلي المتوقع من الله وما يشاهده البشر على ارض الواقع من ظلم ومرض وفقر وقلة حيلة وتفاوت طبقي وعجز المنظومة الدينية عن اللحاق بالعلم ومكتشفاته او تفسير التناقض بين العلم والدين, او للتغلب على شعور النقص والتقصير المزمن عند المتدين نحو ربه وواجباته الدينية من عبادات ومعاملات والتي يعترف كل متدين صراحة بانه لم ولن يبلغ الكمال بتحقيقها في حياته, وكثرة المجاهيل والفراغات والثغرات في التصور الديني مقارنة بالتفاسير العلمية المبسطة لها وللكون. وهنا تبتدا المرحلة اللادينية الحقيقية في حياة الانسان والتي اما ان ينجح البعض في تجاوزها من خلال العلم والالحاد واما ينزوي بها على نفسه ليتشدد اكثر فاكثر محاولا اثبات فكره وحل عقدة النقص بالتطرف, والذي صار سمة واضحة على الكثير من المتدينين. اما المعتدلون من المتدينين وهم الاغلبية فالملاحظ انهم من متوسطي الذكاء ولايفقهون اصلا بمعظم دينهم ولا بالعلم الحديث كنظرية التطور لدارون او نظريات الفيزياء الكونية الحديثة ويسهل اقناعهم باجوبة تقليدية توفرها لهم المؤسسة الدينية بخبرتها المتركمة, وهم اصلا بلا اسئلة ملحة كبرى في داخلهم.
يصل عدد البالغين في العراق بعمر 18 سنة فاكثر الى حوالي 18 مليون شخص. وتختلف التقديرات هنا وهناك عن عدد الملحدين منهم. فمن قائل ان عددهم يبلغ الصفر باعتبار ان العراق هو سابع اكثر دولة متدينة بالعالم (88% نسبة التدين وفقا لاحصاء اممي), الى من يقول انهم لايتجاوزون 242 شخصا ( بتقديرات الازهر!!) الى قائل انهم بحدود 400 الى 500 الف بتقدير لباحثة هولندية مهتمة بالموضوع نشرت ارقامها قبل حوالي سنتين. وقد تداولت جميع المواقع العراقية تقريبا في بداية الشهر الثامن الماضي احصاء لمدون امريكي اسمه جوان كول Juan Cole ينقل عن ’مروان صالحي’ تحت عنوان ’Death of God in Iraq’ او ’موت الرب في العراق’ يقدر به عدد الملحدين ب 32% من العراقيين, اي ما يعادل 6 مليون شخص! ومع ان هذا الرقم مبالغ به جدا وبصورة اقرب للفكاهة ولكننا شهدنا عددا من المقالات والمنشورات التي شككت بالارقام باعتبار ان الاستبيان ربما تم في كردستان ولايعكس كل الواقع العراقي وبان من ورائه مجهولون ولايمكن التثبت من حقيقتهم ودوافعهم, او بان ارقامه تعود لعام 2011 في ذروة الربيع العربي. ولم يكلف احدا نفسه البحث عن الاستبيان الاصلي نفسه ومراجعة ارقامه. والمفاجاة كانت حينما وجدت ان 7% فقط من المستفتين بالعراق بهذا الاستبيان قالوا بانهم لايؤمنون بالله. وهذا اقرب للمنطق والواقع. ولايمكن ان نضيف كل من لهم شكوك في وجود خالق او عدمه الى قائمة الملحدين واللادينيين باي حال.
قمت مؤخرا باجراء استبيان لمتابعي صفحتي على تويتر والذين يبلغ عددهم بالالاف فكانت النتيجة 15% ملحدين و 15% مشككين ولاادريين. ومع التعويض الاحصائي عن التحيز في العينة يمكنني القول ان بين 10 الى 15 % من العراقيين على تويتر هم ملحدين او لادينيين, والنسبة هي بالتاكيد اقل في الشارع العراقي. ولكن يمكن الادعاء ان هناك ربما مليون الى مليوني بالغ عراقي بيننا الان هم من الملحدين والمتشككين بوجود الله. مما يجعلهم قريبا المكون العراقي الرابع بالاهمية والتاثير بعد الشيعة والسنة والكرد. فهل هناك استعداد مجتمعي كافي للتعامل مع هذه الارقام المثيرة؟ وهل انها فورة شبابية سرعان ما ستزول مع النضوج عمريا كما يقول البعض او انها فقاعة مرتبطة بالاحداث السياسية المتفاقمة حاليا وستزول حالما تستقر الامور وتتعزز الديمقراطية والمدنية في مجتمعاتنا اونقضي على داعش وباقي الارهاب الديني كما يقول اخرون؟
كل الموشرات تقول ان هذه الاعداد مهما كانت فهي متاصلة وفي تصاعد مستمر وثابت سواء عراقيا ام عالميا. فوفقا لاحدث الارقام لهذه السنة عن توزع واعداد المتدينين في كل العالم كانت النتائج كالتالي: المسيحية 2.1 مليار, الاسلام 1.5 مليار، اللادينية 1.1 مليار, الهندوسية 900 مليون, البوذية 400 مليون, كل باقي الأديان 1 مليار (من ضمنهم اديان صينية تقليدية كالكونفوشيوسية الذين يصل عددهم 400 مليون, السيخ 24 مليون, اليهود 15 مليون, البهائية 8 مليون وغيرهم). والملاحظ بهذه الأرقام انخفاض حاد بإعداد البوذيين والهندوس والاديان الوثنية نوعا ما, وارتفاع بعدد المسيحيين, وارتفاع حاد بإعداد ونسب اللادينيين بكل العالم (حوالي 15% من سكان العالم). الاسلام لازال يحافظ على المرتبة الثانية. وبدلا من تجاوز اعداده لعدد المسيحيين والذي كان متوقعا بحدود سنة 2070 فان السباق يبدو الان اصعب بكثير مع التزايد الملحوظ لعدد المسيحيين وتمدد إعداد اللادينيين على حسابه. وبالاضافة للملحدين الذين تتزايد اعدادهم سنويا على مستوى العالم اكثر من اي تصنيف اخر فان المسيحيين يتلوهم بالنمو العددي, ربما لان تصورات المسيحية بسيطة وتسامحية وتخلو من التعقيد, على حساب الاديان الممعنة في التفسيرات والتنظيرات والعبادات ولها جموح بالخيال والخرافة.
من فوائد هذا التوجه العراقي والعالمي والذي يبدو انه غير قابل للتراجع, هي زيادة العقلانية والتقارب الفكري والضميري بين الشعوب وانحسار دور الدين ورجاله, وقلة التفرقة والعنصرية على اساس طائفي او ديني, وانخفاض بمعدلات الجريمة الدينية وحتى الاعتيادية بنظر البعض! اما من اخطاره المحتملة فهو فقدان الهوية العامة والخاصة باعتبار الدين صار ملازما للهوية والانتماء والتصنيف الذاتي عند البعض. من جهة ثانية فان الكثير من المتدينين التقليديين يربطون الاخلاق بالدين ربطا متاصلا ويعتبرون الخروج من مظلة الايمان مرادفا للخروج من كل الالتزامات الاخلاقية للشخص واستباحة كل المحرمات. ومع ان هذا الربط لا اساس له بالحقيقة فالاخلاق سبقت الدين وهي متجذرة بطبيعة البشر سواء كانت تبريراتها منفعية ام مثالية. ومع ان اغلبية اللادينيين الجدد لهم حس انساني مرهف كما يبدو, لكن لايمكن استبعاد انتقال ثوار على المنظومة الدينية والاخلاقية والقيمية للمجتمع الى صفوف الملحدين. فوجود ارقام مليونية منهم وليس فقط ثلة من النخبة المثقفة او السياسية كما هو الحال سابقا, يستدعي افراز وتنشيط قيادات ومفكرين واعين من بينهم لتحد من شططهم وتطرفهم واحتمال انقلابهم على كل الثوابت المتوافق عليها, وان لايتركوا عرضة لاجندات غير وطنية ولا اخلاقية.