من يتمعن في مسارات العلاقات الأمريكية العراقية منذ أكثر من ثلاثة عشر عاما يرى أن تلك العلاقات تعرضت في السنوات الأخيرة لإختلالات وحالات إهتزاز وعدم ثقة، وربما حالات من التشكك والريبة والأسى،لأن صورة تلك العلاقة شابها كثيرا من الغموض والتوترات والمرارة وعدم المصداقية في المواقف واختلال كبير في التوازنات المجتمعية والسياسية،وهي الان بحاجة الى تصحيح مساراتها لتنسجم مع توازنات المجتمع العراقي وقواه السياسية التي ترى ربما ان الولايات المتحدة قد خذلتها على أكثر من صعيد!!
ولمناسبة قدوم السفير الأمريكي الجديد (دوغلاس سيليمان) الى بغداد وإستلام مهام عمله يوم الخميس سفيرا للولايات المتحدة الاميركية لدى العراق ، بدلا من السفير ستيوارت جونز ، نود تأكيد جملة من الملاحظات المهمة التي تحكمت بمسار تلك العلاقات وحالة الإضطراب التي رافقتها، ووفق المحاور والرؤى التالية :
بالرغم من أن مسارات السياسة الامريكية تجاه العراق ترسم معالمها وتوجهاتها جهات كثيرة مثل البيت الأبيض ووزارة الخارجية وأجهزة مخابراتها ومجلس الأمن القومي الأمريكي والبنتاغون، الا ان للسفارة وطاقمها وبخاصة السفير والهيئة السياسية والطاقم الإستخباري الخاص دورا مهما في تفعيل أطر هذه السياسة والعمل على تنفيذ برامجها،وإبلاغ تلك الدوائر المهمة الصانعة للقرار الأمريكي بملاحظاتهم ومقترحاتهم عن الوضع السياسي والأمني العراقي،وعموم تعاملاته الإقليمية والدولية وتدخلات دول الجوار وبخاصة إيران ، التي تعد الطرف الأهم في هذا التدخل وبمباركة أمريكية أحيانا ، ومن مهام طاقم السفارة كذلك إيصال مطالب القوى السياسية العراقية وشخصياتها الرئيسة وما يودون عرضه عليها من رؤى وتغيير سياسات وانماط سلوك ربما لا تتفق مع توجهات السياسة الامريكية ، بما يظهر ان الولايات المتحدة داعمة لكل العراقيين دون الانحياز الى طرف ضد آخر او تعريض مصالح أطراف عراقية للخطر، والحفاظ على إظهار المواقف المتوازنة في التعامل مع الواقع العراقي ومتطلباته وطوائفه وقومياته وفئاته السياسية، قدر المستطاع ، ولم يفلح السفير جونز في مهمته منذ سنوات في إنجاح مسارات تلك العلاقة ويبدو السفير جونز وكأنه غير مبال لمطالب قوى عراقية مشروعة ، أو انه يتحدث معها بإيجابية يظهر معها تعاطفه ، ولكنها لاتلمس في الواقع أي رد فعل حقيقي يشعرها ان مطالبها وما تود عرضه قد وجدت الاهتمام المطلوب من السفير، بل ان السفير يبدو في بعض الاجتماعات وكأنه (نائم) ولا يدرك مخاطر سياسات وانماط سلوك تعرض مستقبل كثير من العراقيين للخطر واللامبالاة، وتصريحاته أمام الساسة العراقيين عمومية ومبهمة أحيانا ولا يمكن ان تفهم منها شيئا ملموسا او حالة تفاؤل بأن السفير يمكن ان ينقل وجهات النظر العراقية أو يتدخل بنفسه في أحيان كثيرة لردم فجوات او إزالة حالات سوء التفاهم والغضب التي تسود المشهد السياسي العراقي المتأزم على الدوام في وقت يتعرض البلد لإنتكاسات سياسية على أكثر من صعيد. إن أمام السفير الأميركي الجديد ( سيليمان ) مهمة شاقة ان يعيد ( ترميم ) ما تصدع من أواصر تلك العلاقة وتصحيح مسارات اضطرابها وتوتراتها ، بما يعطي رسائل تطمين للعراقيين جميعا ، قوى سياسية ومنظومات مجتمعية وكيانات وطوائف ومذاهب، أن الولايات المتحدة الامريكية جادة فعلا في تصحيح تلك الاختلالات وعوامل عدم الثقة،وان يكون دور الامريكان محوري وفاعل وإيجابي لاينحاز بالشكل الذي شهدناه لأكثر من عقد من الزمان لصالح طوائف وكيانات وقوى سياسية معينة دون أخرى، وقد تركت قطاعات من الشعب العراقي تتعرض لتهديدات ومخاطر وجود ، ماكان على الامريكان ترك القارب العراقي على هواه يسير في حالة إضطراب وفوضى وهو يبحر في بحر هائج ، من حالات ضياع المكانة والمنزلة وفقدان الأمل بعودة العراق الى وضعه الطبيعي ، بعد ان تحكمت قوى معينة دون أخرى بمسارات الحكم وكانت لها السطوة في ان تفرض قوتها وبطشها، على الآخرين، تحت أنظار الامريكان وعلمهم، دون ان يحركوا ساكنا لوقف حالات التوتر والاضطراب ان لم تكن مواقفهم غير المتوازنة قد أصابت المشهد السياسي العراقي بكل تلك التعقيدات وحالات غياب الدور السياسي الفاعل لقوى أصيلة وفاعلة أصبحت الان مهمشة وغائبة وقد ضاع مستقبل أبنائها وأجيالها وهي تشعر بالمرارة لأن الولايات المتحدة خذلتها في أكثر من مناسبة ولم تضع لمطالبها المشروعة أي اعتبار، إن لم تكن أسهمت في فرض الأمر الواقع المرير وتعرض الوضع الامني والسياسي العراقي الى حالات اضطراب وفوضى واحتراب وصلت حدودا مرعبة، ولم يقم طاقم السفارة الأمريكية في بغداد بما يجب لإعادة مسارات تلك العلاقة الى اطارها الصحيح، وبخاصة في ازمات البرلمان وما رافقتها من حالات تغيير وزاري وأزمات إستفحلت وأرهقت الوضع العراقي وتسببت بمعاناة شديدة لملايين العراقيين الناقمين على الفساد وحالة التصارعات بين سياسي البلد الذين لايبالون بما آل اليه الوضع العراقي من تعقيدات على أكثر من صعيد.
ربما كانت مرحلة السفير (ستيوارت جونز) من اكثر فترات العلاقة العراقية الامريكية حراجة ، وكانت قد شهدت تقلبات وحالات من الافتراق والتباعد فيما بينها وبين قطاعات سياسية عراقية لم تر من الولايات المتحدة دعما لمواقفها بعد ان تعرضت محافظات عراقية لتهديدات من قوى منفلتة وأخرى تحاول فرض هيمنتها على المشهد العراقي ولم تفعل الولايات المتحدة عبر سفيرها جونز بما يكفي لرأب حالة التصدع والصدام وبروز حالات تنافر وربما إصطراع ، لتعارض مواقف كثير من القوى مع وجهات نظر الحكومة ومواقفها من قضايا خطيرة لم يكن فيها أي دور لتلك الحكومة في حل إشكالات بلدها او وقف حالة التداعي، بما يعيد تصحيح معالم الاضطراب في تلك العلاقة، وازمات البرلمان وتصارعات القوى السياسية وعدم رغبة الولايات المتحدة بتغيير الرئاسات الثلاث وعدها أية خطوة من هذا النوع ( خطا أحمر) لاينبغي للعراقيين التفكير فيه مثار سخط العراقيين على الحال المأساوي والكارثي الذي وصل اليه بلدهم وتخبط ساسته في أزماتهم . ان العراقيين عموما يشكون من التدخل الايراني في الشأن العراقي وهيمنة طهران على القرار العراقي وتحكمها في مصير شعب يريد الخلاص من ويلات التدخلات الخارجية ، وبخاصة التدخل الايراني الذي راح طهران تفرض إرادتها وترسم معالم السياسة العراقية وهي من تتدخل في كل شيء، وترفع علم إيران وتدعي الانتماء والولاء لطهران ، وهي من تتحكم في مستقبل العراقيين وتفرض وصايتها عليهم، حتى ان العلاقات بين اطراف القوى المنضوية تحت التحالف الوطني وصلت حالات الاحتراب بينها الى مستويات خطيرة، ولم تتدخل الولايات المتحدة بما يكفي لاعادة توازن القوى ولجم تحركات الجماعات المسلحة التي تسعى كل جماعة منها الى ان تكون هي المسيطرة، بالرغم من ان الحكومة نفسها أشارت وعلى لسان رئيسها الدكتور حيدر العبادي الى وجود اكثر من مائة جماعة مسلحة وميليشيات خارجة عن القانون والحكومة غير قادرة على ضبط اوضاع تلك الجماعات ان لم تكن لتلك الجماعات وقادتها الحضور الداعم والقوي في كل وسائل الاعلام ولا أحد يقول لها ان على رأسك حاجب او يردعها من استمرار منهجها المتعارض مع ارادة العراقيين في ان يروا بلدهم وقد تخلص من سطوة جماعتين متشابهتين في التوجهات والاهداف هما داعش والميليشات وكونهما وجهان لعملة واحدة وهما من تسببا بكل هذا الخراب والدمار الذي تعرض له العراق في مواجهته مع داعش ومع الجماعات الخارجة عن القانون.
إن أمام السفير الامريكي الجديد دوغلاس سيليمان حل الكثير من إشكالات وتعقيدات ما عانت منه السياسة الامريكية في العراق من فوضى واختلالات وحالات عدم توازن وانحياز غير مبرر لأطراف وجهات وجماعات سياسية بعينها ، والوقوف ضد طموحات مشروعة لقوى أخرى تشارك أطياف الشعب العراقي العيش وبخاصة في المحافظات الست التي تعرضت لدمار شامل من طرفين من داعش وتحكم جهات مسلحة في مستقبلها، ولم يضع القائمون على الشأن العراقي ولا الولايات المتحدة خططا لاعادة الاعتبار لتلك المحافظات والاسهام في اعمارها بالرغم من انعقاد عدة مؤتمرات دعم ومساندة تحت اطار دولي وبدفع من الولايات المتحدة وظهر انها شكلية ودعائية أكثر من كونها دولا مانحة ، ولم تقدم أي دعم واقعي أو ملموس يشعر من خلاله ملايين النازحين في المحافظات الست ان اوضاعهم قد شهدت حالات تحسن ان لم زادات معاناتهم حتى بعد تحرير محافظاتهم من سطوة داعش ووجدوا ان معالم الخراب والدمار تفتك بكل شيء حتى ان الانبار تحولت مدنها الى أشباح وكأنها من اطلال الماضي البعيد ، وبفي مصير ملايين النازحين العراقيين في محافظات كثيرة معلقا وترفض جهات حكومية عودتهم الى مناطقهم التي نزحوا منها، كما ان الاعانات والمساعدات الدولية فقيرة جدا ولا تتناسب والاحتياجات الكبيرة لهؤلاء الملايين من النازحين والمشردين في العراء وفي اجواء ساخنة، هدرت فيها كراماتهم وحرموا من حق العيش حتى في مدتهم محافظاتهم تحت مبررات ما أنزل الله بها من سلطان. ان الولايات المتحدة وبسبب اهتمامها بوضعها الداخلي وقضية انتخابات الرئاسة فيها لم تعد تعير اهتماما يذكر للوضع العراقي، وراحت تعتمد على قوى دولية أخرى مثل روسيا وإيران للتدخل في الشأن العراقي وان يكونوا هم المسيطرون حاليا على أوضاعه ورسم معالم المعارك في الجبهات ، وهم ساخطون وناقمون على الولايات المتحدة التي اظهرت ضعفا وترددا فيوهم ساخطون وناقمون على الولايات المتحدة التي اظهرت ضعفا وترددا في اتخاذ قرارات مهمة ، حتى ان الامريكان يبدون وكأنهم في أسوا حال ، ويلاحظ العراقيون ان الروس يسعون لملء الفراغ ، بعد (الغياب) الامريكي الملحوظ عن الساحة الدولية عموما والوضع العراقي وتداخلاته بشكل خاص ، الا عندما تصل الأمور حد الانفلات والتأزم الحاد ، ما أشعر العراقيون ان اللامبالاة الأمريكية أزاء بلدهم ليس لها مايبررها وبخاصة ان الامريكان هم المسؤولون عن كل ماجرى للعراق من تفكك وانحلال لمعالم الدولة وتهديد اركانها ، وتركت العراقيين وحيدين يلعقون جراحاتهم، بالرغم من ان الامريكيين هم سبب مأساتهم وبلواهم وما أوصلوا اليه البلد من فوضى وخراب واحتراب وضياع دم أبنائه بين القبائل.
ان السفير ( سيليمان) الخبير بالشأن العراقي وكان أحد طاقم السفارة المهم في اعوام 2011 و2012 وعمل سفيرا في الكويت والاردن ودول اخرى ويتقن اللغة العربية ولديه إلمام بأوضاع العراقيين ومعاناتهم، مطالب بأن يضع في الاعتبار كل تلك المآخذ على السياسة الأمريكية على محمل الجد ، وان يسهم بتصحيح مسارات تلك العلاقة مع الاطراف العراقية مجتمعة، ويضع حدا للتدخلات السافرة في الشأن العراقي، وان لاتبقى طهران ، تتحكم في مسارات هذا الوضع على هواها، وأن تعمل واشنطن بجد هذه المرة على لجم أية تحركات مشبوهة تريد ابعاد العراق في ان تضع تلك المآخذ على السياسة الأمريكية على محمل الجد ، وان يسهم بتصحيح مسارات تلك العلاقة مع الاطراف العراقية مجتمعة، ويضع حدا للتدخلات السافرة في الشأن العراقي، وان لاتبقى طهران ، تتحكم في مسارات هذا الوضع على هواها، وتلجم أية تحركات مشبوهة تريد ابعاد العراق في ان تكون له علاقات متميزة مع محيطه العربي والإقليمي.