البحر والرمل، الشمس وأجساد شبه عارية، من كل الأعمار، ومن كلا الجنسين، نسائم من الرياح اللذيذة، ألوان الطيف الشمسي، تتجسد في ملابس السباحة الزاهية، الزوارق المطاطية الصغيرة، وأخرى طافية على شكل فراش يستريح فوقها جسد مغمض العينين نائما أو كأنه كذلك، زوارق شراعية تسير بسرعة الريح، ولعب أخرى، كرات وبالونات، طيارات من البلاستيك… كل شيء جميل هنا، وكل واحد تراه سعيدا، الجميع تركوا تفاصيل حياتهم اليومية، واسترخوا متمتعين بدفء الشمس ونورها الخلاب وجمالية البحر في ظلها، هي بالنسبة لهم حارقة، بينما هي أبرد من شمسنا في أبرد يوم من شتائنا.
كنت أنظر إلى صبي يمتطي زوقا مطاطيا ملونا، طافيا على مياه (البلاج) القريبة من الرمال التي يبللها الموج وتنشفها الشمس سريعا، كان يجدف بمجدافين من البلاستك أيضا، وبدأ يتجه نحو عمق البحر. كانت أمه تناديه وترجوه:” لا تبتعد بني وارجع قريبا مني ” فيمتثل الصبي لوالدته ويقترب قليلا من الساحل.
لم أستطع أن أبعد مدينتي التي اقتحمت مخيلتي وأخذتني من هذه المدينة الرائعة، النظيفة، المنظمة ومن ساحلها الجذاب، ومن دون أن أشعر استسلمت وسافرت إلى الماضي الذي يكاد أن يكون سحيقا، لأعانق تلك الأرض بكل وجعها وحزنها وتعبها وغبارها اليومي … بلدتي التي تبقى حبيبتي … وكأنني كنت أبحث؛ عن نخلتي، بيتي، وعن نهير صغير يوزع مدينة صوبين، أنام في صوبها الصغير وأصحو في الكبير، أرى الحلة بأحلى حلة، وثوبها مطرزا بأزهى الأزهار، وهواءها يملأ رئتي فأطير … النهر كان ملاذنا من حرارة الصيف، التي لا تسمح لنا بمغادرة ماء النهر وقت الظهيرة، للنهر وجهان صاف وخابط، وكأنه انعكاس للحياة، وفي كلا الحالتين نحبه ونسبح فيه حتى عندما يكون بلون الطين…نستقبله في خارج المدينة قبل ولوجها ثم ندخل معا وهو يحملنا بحنان، نتسابق في عبوره…وتزداد فرحتنا عندما يقل منسوب الماء فيه ويتوقف جريانه، عندما تغلق أبواب منافذه في السد الذي يقع في سدة الهندية شمال المدينة. يرقد الغرين في قاعه، ويصفو حتى يأخذ لون الماء الصافي… فتكون السباحة مريحة هادئة، هي أجمل من السباحة في هذا البحر المالح. والنهر بمائه العذب المتوقف عن الجريان الهادر، هو أكثر سلامة منه في حالة هيجانه، فطالما ابتلع أطفالا أو صبيانا حاولوا تعلم السباحة، لدرجة أن (خماس) الغطاس – الرجل الأعمى- لم يستطع حتى انتشال جثثهم ، على الرغم من
نفسه الطويل، وقدرته على الغطس في أعماق النهر والبحث عن الجثث لفترة طويلة، ربما بالغ البعض في تقديرها.
حاول الصبي السيطرة على الزورق، بعد أن اجتاحته موجات البحر التي لم تخفه، بل تبعث في نفسه مزيدا من الفرح والسعادة، لكن موجة عاتية قلبت زورقه الذي ظل طافيا، بينما تشبث الصبي بالمجداف والزورق معا. لم تكن لدينا مثل هذه الزوارق ولا نجَادات رقيقة لا تؤذي الجسد العاري، كنا نستخدم بدلا عنها، دواليب السيارات، خشب سعف النخيل، أو صفائح زيت السيارات الفارغة، بعد نغل فوهاتها… لكني حاولت في صباي أن أقلد بعضهم في صنع زورق من صفيحة برميل كبيرة، وجدتها غطاء لبالوعة في جانب من الشارع العام. لم يقل لي أحد:” ليس من حقك هذه الصفيحة الصدئة!؟” بل شجعني بعضهم، كانت صدئة ومثلومة في أحد أضلاعها. فهي لا تصلح لصناعة زورق منها، لكن إصراري دفعني إلى ترقيع هذه الثمة بلصق قطعة صفيح وسد منافذ تسرب المياه إلى داخل الزورق الصغير الذي استغرق العمل فيه يوما كاملا من الصباح حتى المساء وتمت العملية كلها على شاطئ النهر من جهة الصوب الصغير في منطقة خارج المدينة. أطرته بسف النخيل، أطليته بالقير الأسود المذوب بواسطة النار…عمل لم يكن سهلا على صبي مثلي، وعند المساء كنت على ظهره فرحا، يحملنا الماء الجاري بسرعة نحو قلب المدينة، أحسست بفرحة طاغية وكأنني امتلكت الماء والشمس، غبطة كبيرة، بنجاح “اختراعي” الجميل، كنت أتخيل الفرحة والانبهار على وجوه الذي سيروني عائدا إلى حيَنا وأنا أمتطي هذا الزورق الذي صنعته من مواد بسيطة كان ثمنها بخسا، جمعته من مصروفي الزهيد.
استطاع الصبي إعادة الزورق إلى وضعه العادي. وامتطاه ثانية، كانت أمه مسرورة وهي تنظر إليه، وهو يلعب، بينما كنت قد أخفيت عن أمي ما كنت أنوي القيام به، خوفا من العقوبة التي أساسها الخوف عليَ من الغرق أو الأذى.
كان الصبي يدفع بقاربه بهدوء اتجاه الساحل الرملي وقبل أن يصل إلى جمهرة السباحين، توقف ووضع المجدافين بجانبه، وتمدد في قاربه، متمتعا بتلك اللحظات الحلوة. وكنت سعيدا أيضا، وأنا بالكاد أحاول موازنة الزورق لكي لا يغطس في الماء، ويذهب تعب اليوم الطويل، والأحلام الوردية، التي ظلت تراودني طيلة الليلة قبل تنفيذ مشروعي.
موجة البحر لم تقلب الزورق هذه المرة، بل رفعته إلى الأعلى وأنزلته ثم دفعته إلى الأمام، مما زاد من فرحة الصبي.
انفتحت الرقعة التي عالجت بها الجانب (المثلوم) من الزورق وبدأ الماء بالتسرب إلى داخله. وكان أكثر بكثير من الماء الذي حاولت إزاحته، حتى أن الماء غطى نصفي المدد وسطه.
بدأ الصبي يجدف باتجاه أمه التي كانت تنتظره عند الساحل وهي تستمتع بمداعبة الماء بقدميها المغروستين بالرمل الندي. كان الماء قد عبأَ زورقي لكنه لم يغرق بعد. لم أكن خائفا على نفسي لأنني أجيد العوم جيدا، كنت أفكر بكيفية إنقاذ الزورق، الذي كلفني جهدا كبيرا… كانت النقطة الحاسمة عندما وصلت الجسر، فالماء المتدفق بقوة عندما يصطدم بأعمدته الإسمنتية ترتفع موجاته ويزداد هديره، وكأنه يعبر عن رفضه لهذا العارض الواقف في طريقه.
تحت الجسر تماما غطس الزورق، إلا أني أمسكت به بكل قوتي ، بينما كان يضرب جسدي بحوافه أو نتوءاته التي تشبه السكاكين أو المسامير. فتحدث شقوقا في يدي وساقي، لم أكن أشعر بها لحظتها، جل اهتمامي انصب على إنقاذ زورقي من الغرق.
وصل الصبي إلى حافة الساحل ممسكا بزورقه الزاهي، قبلته أمه، وذهبا فرحين. بينما كنت على حافة الساحل ألهث ممسكا بزورقي والدم ينزف من أركان جسدي.