بغض النظر عن التعاريف العلمية للطائفية فانها تتفق جميعا على خطورتها الكبيرة كونها تغلب الجزء على الكل وبالتالي تحاول من خلال المروجين لها الى تقسيم المجتمع لاغراض ضيقة جداً .. وتتضاعف خطورتها عندما تتحول الى غطاء لتنفيذ اهداف سياسية لاعلاقة لها بالدين ولا المذهب .
وابتداءً لابد من التمييز بين الدين كعبادة ومبادئ وقيم تهدف الى خدمة الانسان وترسيخ مفاهيم الوحدة والحب والتسامح والتضحية وغير ذلك من المفاهيم التي دعا اليها جميع الانبياء والرُسل وحرّفتها وتناقضت معها الطائفية لانها اي (الطائفية )تدعو الى نفي الآخر ومحاولة سيطرة طائفة على اخرى وفرض معتقداتها وارائها على حساب معتقدات الاخرين .. لذا فان العالم المتقدم قد تنبه مبكراً الى خطورتها واستفاد من تجارب الماضي وتوقف عند الصراعات الدموية التي سببتها الطائفية فوجد ان لاسبيل لنهضته ووقف حمامات الدم الا بتغليب المواطنة كقيمة على كل الانتماءات الفرعية الاخرى . فلا يمكن ان تنتج الطائفية غير تمزيق المجتمع وتخريبه من خلال إثارة الفتن والفرقة والتمزق ، فتدريجيا يبتعد الطائفي عن الدين وعن الوطن و مجتمعه ليكون اداة دمار تستغله الاطراف الخارجية مستغلة تعصبه لتنفيذ مشاريعها وهذا ماحصل في الهند وفي الشام ومصر والعراق آبان فترة الاستعمار . ومن هنا وانطلاقا من كل ذلك عملت الاحزاب الوطنية والقومية بمختلف مشاربها وهي تناضل من اجل الاستقلال على توحيد جماهير الشعب تحت شعارات واهداف وطنية جامعة لامكان فيها للطائفية ولم تجرؤ ولفترات غير قليلة حتى احزاب كانت تصنف بحسب مصطلحات السياسة الى يمينية على المجاهرة بطائفيتها وحرصت جميعها (اي الاحزاب )الشيوعي منها او القومي الناصري أو الماركسي وغيرها على تثقيف وتوعية المواطنين على وفق برامج وطنية وقومية كانت سمة مجتمعاتنا الى وقت ليس ببعيد ولم تعرف فيه مجتمعاتنا الطائفية بمعناها المضر كما هو عليه الحال الآن .. فقد كان التصنيف المتعارف عليه للانظمة الحاكمة وللدول يتم على وفق الانتماء السياسي وليس المذهبي أو العرقي فيوصف هذا بالرجعي او اليميني وهذا بالشيوعي والماركسي التقدمي او اليساري وذاك بالقومي وهكذا من دون اغفال ان كثيرا من التسميات والتوصيفات للانظمة فقدت معناها الحقيقي لتناقضها بين الفكر والتطبيق … ومراجعة لما تضمنته دساتير الاحزاب السياسية ومبادئها واهدافها وادبياتها العلنية والسرية في الوطن العربي سنجدها مليئة بالاراء التي ترسخ المفاهيم الوطنية والقومية وتدعو الى التفاعل مع تجارب العالم وافكاره سواء الرأسمالية منها او الاشتراكية وتدعو الى تأسيس دول حديثة لافرق فيها بين مواطن وآخر الا بقدر كفاءته وما يحمله من مؤهلات ينافس فيها اقرانه بعيدا عن التعصب العرقي والديني والمذهبي ، ولاتمييز فيها لأي مواطن الا بقدر الايمان بالوطن والعطاء من اجله والتضحية لتحقيق أهداف سامية تنهض بمجموع الامة وتستثمر طاقاتها للتقدم والنهضة وتشارك شعوب الارض في بناء عالم خال من الحروب والاستغلال والتبعية. .وليس من باب المبالغة القول ان الافكار الوطنية والقومية باتجاهاتها العامة استقطبت الغالبية العظمى من المواطنين بل ان رجال الدين انفسهم كانوا وبفعل طغيان التيارات الوطنية ينؤون بانفسهم عن الحديث بالطائفية وبعضهم انتمى طوعا للاحزاب الوطنية او القومية بما فيها الحزب الشيوعي ايمانا بان الدين لله والوطن للجميع وهو الشعار الذي كان ينادي به الجميع لمواجهة سياسة المستعمر المبنية على مبدأ ( فرق تسد ) .. ان من أشد المخاطر والمحن التي هددتنا على مر التاريخ كانت تتمثل بالفرقة والابتعاد عن روح الوحدة الوطنية ومفهومها .. ومن هنا لعب اعداؤنا منذ القدم على وتر إثارة النزاعات وبحسب طبيعة كل مرحلة من مراحل التاريخ وما تحمله من مفاهيم وعادات ..ولم يعرف العرب الطائفية والتعصب الا عند محاولة استخدام الدين في السياسة لتحقيق اغراض خاصة حزبية او شخصية وأقرب نموذج الى ذلك الصراع بين الدولتين العثمانية والصفوية الذي كنا ندفع ثمنه تضحيات جسيمة خاصة في العراق .. وفي التاريخ الحديث لم يكن للطائفية من مكان في المجتمع العربي الا بحدود ضيقة جدا أما على صعيد انظمة الحكم فقد انفرد لبنان عن سواه بنظام حكم محاصصي فرضته تدخلات
الدول الغربية وضعف الدولة العثمانية التي كانت تفرض حكمها على الوطن العربي الى حين انهيارها وتقاسم الدول الاستعمارية انذاك مغانم الرجل المريض على وفق اتفاقية سايكس بيكو المعروفة.. وتدريجيا اتجهت الانظمة العربية بعد الاستقلال الشكلي لمعظمها الى تأسيس انظمة حكم مدنية عدا لبنان الذي بقي نظام حكمه محاصصيا طائفيا مبرقع بادعاءات الاستقرار الشكلي الذي اظهرت الحرب الدموية في 1976وما افرزته من دمار وضحايا ومشكلات زيفه وما زال المواطن اللبناني يعيش اثارها السلبية حتى الآن. الخلاصة ان وطننا العربي لم يشهد قبل الاحتلال الاميركي الصهيوني للعراق في 2003 انظمة حكم طائفية بشكل علني ومكشوف عدا لبنان .. فقد كانت الاتجاهات الوطنية والقومية صمام امان مجتمعاتها من خطورة النزاعات المتطرّفة ومن الطائفية التي يعتاش عليها التطرّف بمختلف انواعه وهذا ما سوغ للادارة الاميركية وباتفاق مع اعداء العراق وشعبه على استنباط نظام حكم غريب وهجين فتم تشكيل ما سمي مجلس حكم هزيل على وفق المحاصصة اعتمدته التيارات الاسلاموية كأساس حكم لانه يتيح لها تحقيق منافعها الفئوية الضيقة على حساب مصلحة الوطن والمواطن ، وبذا فقد انتجت عملية سياسية مشلولة تنتظر اعلان موتها بفعل ممارسات الكتل الاسلاموية ومن مختلف التوجهات التي اتفقت على ابقاء صيغة المحاصصة الطائفية التي ما زال شعبنا يدفع ثمنها غاليا قتلا وتشريدا وتهجيرا وفقرا ومرضا وسرقات للمال العام وازمات سياسية واقتصادية واجتماعية لاحصر لها.. واذا كان المواطن في العراق وبعد ثلاثة عشر عاما من انتهاك ابسط الحقوق قد ادرك خطورة محاولة هذه التيارات المتلفعة بغطاء الدين اشاعة الطائفية في المجتمع فعبر بشكل صريح وواضح عن تمسكه بالوحدة الوطنية وندد بالطائفيين السياسيين واعلن رفضه المحاصصة .. نقول اذا كانت الملايين الغفيرة قد عبرت عن كل ذلك بهتافاتها في ساحة التحرير وغيرها من ساحات التظاهر في المحافظات الاخرى في شباط 2011 او في تموز 2015، فان هذا يدعو القوى والشخصيات الوطنية والقومية ومعها النخب الثقافية بمختلف تنوعاتها الى مزيد من التماسك ووحدة جهودها لاستثمار حالة الصحوة عند المواطن ووعيه بمخاطر الطائفية لاعادة الاعتبار الى المواطنة كقيمة جامعة وهذا يتطلب العمل على برنامج يركز على كشف ما في الطائفية من انحراف عن الدين وفضح ارتباطات دعاته بالمشاريع الخارجية التي وجدت في تأجيج الفتن الطائفية فرصتها لبسط نفوذها على العراق واعاقة محاولة استعادة عافيته ..
ان فضح وكشف اهداف الاحزاب الطائفية وممارساتها الفاسدة وتضييعها على العراق فرصة ذهبية لبناء ديمقراطي صحيح لا يحتاج بعد كل هذه السنوات الا الى عودة حقيقية الى موروث شعبنا الزاخر بالقيم الوطنية والقومية وتذكيره بمواقفه في معاركه التاريخية ضد المحتلين وغيرهم . اخيراً لا ندعي ان موضوعنا هذا يرقى الى مستوى التحدي الطائفي لكن حسبنا انه قد يفتح الباب أمام شخصيات وطنية لتسليط الضوء على خطر الطائفية على طريق وضع حد لتاثيراتها الكارثية التي نعيشها.