23 نوفمبر، 2024 5:02 ص
Search
Close this search box.

حياة الرسول في الإصدارات الانجليزية الحديثة

حياة الرسول في الإصدارات الانجليزية الحديثة

صدرت خلال العقد الماضي ثلاثة كتب حديثة باللغة الانجليزية تعرض فيها حياة الرسول بصورة موضوعية مخالفة عن ما كتب سابقاً من قبل المستشرقين الأوائل، والذين تناولوا السيرة النبوية بمنظار القيم الغربية البحتة، فكانت في معظمها سلبية تجاه شخصية الرسول وفحوى رسالته. وهذه الكتب الثلاثة هي:
* محمد: نبي لعصرنا – كيرن آرمسترونغ – (صدر عام 2006)1
* محمد: قصة آخر نبي – ديباك جوبرا – كتابه (عام 2010) 2
* لا إله الا الله: أصول وتطور ومستقبل الإسلام – رضا اصلن – (عام 2011) 3
ومع أن هذه الكتب صدرت بعد احداث 11 ايلول وما تلاها من الحرب الامريكية العالمية ضد الإرهاب، وما صاحبها من حملة اعلامية كبرى ألصقت الارهاب بالاسلام ضمناً، فإن هذه الكتب عرضت سيرة الرسول بصورة ايجابية، وقدمت تحليلات منطقية وتاريخية حاولت فيها التقريب بين القيم الغربية المعاصرة وبين الاسلام وتعاليمه ومعتقداته.
ولعل هذه النظرة المعتدلة للمؤلفين المذكورين أعلاه، والمغايرة لكتابات المستشرقين الأوائل إنما هي نابعة من خلفياتهم المهنية أو الأكاديمية والفكرية .
فالطبيب الدكتور جوبرا اصله من الهند وهاجر الى الولايات المتحدة في عام 1970، ويدين بالهندوسية التوحيدية وله شهرة واسعة في امريكا نتيجة كتبه الواسعة الانتشار في تسعينات القرن الماضي، التي تدعو الى اتباع الطب المغاير (الطب الشرقي) لضمان الصحة وتحقيق العافية الجسدية والروحية. فهذا الربط بين الصحة الجسدية والعافية الروحية هي التي جلبت الشهرة لكتبه وإصداراته مما جعله يؤسس مركزاً صحياً لهذا الغرض. فقد ذاع صيته من خلال كتابه المشهور: الجسد المعمر، العقل الأبدي (Ageless Body Timeless Mind)4 الذي يُعد من أكثر الكتب الواسعة الانتشار في الولايات المتحدة لعدة سنوات، وقد اصبح فيما بعد شخصية بارزة وأصبح يعرف بما يطلق عليه بزعيم ديني، وهو لقب الذي حاول التنكر منه ولكن دون جدوى لأن دعوته الى وحدة الاديان والتي يعتبرها طرقاً تنير الى الإله الواحد هي التي جعلت من اعتباره رمزاً دينياً ألصقت بشخصيته. فله العديد من الكتب الروحية، كما كتب عن سيرة بوذا، وعن سيدنا المسيح، وآخرها كان الكتاب الذي ذكرنا أعلاه، وخصصه للرسول محمد (ص).
أما الدكتور رضا أصلن فهو من اصل ايراني هاجرت عائلته وهو في عمر الصبا الى الولايات المتحدة بعد الثورة الاسلامية هنالك وكان لها موقف مضاد من الثورة وعقيدتها، ولهذا تركت العائلة الاسلام وآمنت بالمسيحية في إمريكا. درس رضا الفتى مرحلة الثانوية في المدارس الدينية المسيحية وأصبح في بداية شبابه من الدعاة للدين المسيحي، ثم التحق بجامعة كاثولوكية لدراسة الدين والعقيدة المسيحية. ولكن دراسته وبحثه الاكاديمي وبتشجيع من اساتذته الكاثوليك دعته للتعرف على الديانات الاخرى وخاصة اصوله الثقافية والتاريخية مما جعلته يعيد
مراجعة العقائد الدينية ودراسة الاسلام من جديد، ليصبح من المعتقدين به وهو الآن يؤمن بالفلسفة الصوفية والمدارس العرفانية في فهمه للاسلام. كانت إطروحته للدكتوراه عن سيرة سيدنا المسيح، والتي نشرت فيما بعد بكتاب تحت عنوان: المتحمس5 ذاع صيته في الغرب في عام 2013 نتيجة توصله الى استنتاجات تاريخية مغايرة عن سيرة المسيح المذكورة في الانجيل، مما سبب له انتقاداً لاذعاً وشديداً من قبل القوى والجماعات المسيحية المحافظة والمتشددة. ولكن كتابه عن الإسلام جاء كإصدار مبسط للتعريف بالإسلام ونبيه وتاريخه والمسلمين، فأصبح من الكتب الأكثر رواجاً في أمريكا لفترة طويلة.
مؤلفة الكتاب الذي سوف نتاول مراجعته في هذا البحث، للأستاذة كيرن ارمسترونغ، هي مسيحية من بريطانيا وكانت بداية حياتها راهبة في الكنيسة الكاثولوكية. تركت ديرها ورهبنتها وتحولت من متدينة محافظة بالاصول الكاثولكية الى متدينة ليبرالية، وباحثة مشهورة عالمياً في علوم الأديان. فأغلب كتبها هي حول دراسات الدين المقارن والنظر بموضوعية الى دراسة جميع الأديان البشرية وايجاد المشترك معها واحترام الاختلافات فيما بينها. وتعد السيدة آرمسترونغ مؤلفة غزيرة الانتاج وتجاوزت كتبها المنشورة حول الأديان 25 مؤلفاً غطت فيها بالتحليل الموسع دراسات حول الديانة المسيحية واليهودية بما فيها تاريخ تلك الأديان والكتب المقدسة لها، بالاضافة الى كتب حول الاسلام والبوذية. وقد اصبحت كتبها منتشرة في المكتبات وبإصدارات ولغات عديدة لأنها تقرب للقارئ بصورة سلسة وبتحليل موضوعي معاصر وشيق الإشكاليات المعقدة والمواضيع الصعبة فتجعلها سهلة الإدراك. ومن أشهر كتبها المتداولة على نطاق واسع وترجم الى لغات شتى هو كتاب ” تاريخ الله” والذي تناولت فيه الديانة التوحيدية منذ بزوغها في الفكر اليهودي ثم صعوداً الى المسيحية ومن ثم الى شروق الإسلام وما نتج عنه لاحقاً من المدارس الفلسفية والصوفية والفقهية، لتعرج فيه الكاتبة الى التطور الديني الحديث بإتجاهاته الفلسفية المعاصرة.
الباحثة آرمسترونغ لها كتب آخرى حول السيرة المحمدية كان أولها، محمد: سيرة النبي.6 وقد ترجم هذا الكتاب الى العربية من قبل فاطمة نصر ومحمد عناني (1998) تحت عنوان، سيرة النبي محمد؛7 وألفت كتاب آخر بعنوان، الإسلام: تاريخ مختصر،8 وبعد احداث 11 ايلول مباشرةً أعقبته بكتابها الرائد، محمد: نبي لعصرنا. وقد صدر هذا الكتاب ضمن مجموعة يطبعها الناشر تحت عنوان “حياة (الشخصيات) البارزة”.
ولها كتب أخرى تحاول إزالة تهمة الإرهاب عن الدين والمؤمنين بصورة عامة وعن الإسلام والمسلمين بصورة خاصة. فكانت تؤكد من خلال ابحاثها إن الحروب الدينية هي ليست مقتصرة على المسلمين فحسب، فقد مارسها تاريخياً معتقدو الأديان جميعاً. كما أن الحروب تشن لظروف سياسية وموضوعية أخرى ويلصق بها الدين كشعار للمحاربين. فبعد الحملة المسعورة ضد الاسلام وربط المسلمين بالارهاب، ألفت ارمسترونغ كتاباً بعنوان المعركة من أجل الله، او بالتعبير المتداول عندنا (الجهاد في سبيل الله)، والتي تعرض فيه المسيرة التاريخية للذين آمنوا بالاديان السماوية وحملهم راية الجهاد والسلاح في حروبهم ضد الآخرين بإسم الله والدين. وخلال نفس
حقبة الصراع السياسي والعسكري المعاصرة ضد الإرهاب والتي تحولت اعلامياً فيما بعد وكأنها حرب ضد الاسلام نشرت آرمسترونغ كتاباً آخر بعنوان الدين بعد 11 أيلول.
إعتمدت المؤلفة كيرن ارمسترونغ في بحثها عن حياة الرسول على الكتب الأصلية للسيرة، وذكرت منها أسماء المؤلفين الأربعة الأوائل: محمد بن اسحاق (ت 767م)9، ومحمد بن عمر الواقدي (ت 820م)، ومحمد بن سعد (ت 845م)، محمد بن جرير الطبري (ت 923م). ومع ان كُتّاب السيرة الأوائل – كما تقول المؤلفة – بأنهم “قد لا يفون بشروط التحقيق حسب المواصفات الاكاديمية الحديثة.” ولكنهم ابناء عصرهم حاولوا جاهدين جمع المعلومات التي قد تفهم وتحلل بصورة مغايرة عما يكتب في الوقت الحاضر لأنها كانت تتصل بالاحداث التاريخية المعقدة لشخصية عظمية ومقدسة. ومع هذا كانت لديهم مصداقية من ناحية أننا نجدهم يذكرون روايات مغايرة جنباً الى جنب حول حادثة تاريخية محددة، ويعطون كلاً منهما نفس القيمة والاهمية حتى يمكن للقارئ فيما بعد أن يحدد موقفه منها. “فهم أرادوا في الواقع أن يذكروا سيرة نبيهم بكل أمانة وصدق على قدر استطاعتهم.”
وتكتب آرمسترونغ بأن الغرب لديه تاريخ طويل من الخوف والريبة من الإسلام والتي اصبحت متجذرة في الثقافة الغربية، ويعود نشوئها إلى عصر الحروب الصليبية في القرن الثاني عشر. فقد كان الرهبان المسيحيون في أوروبا يصرون على تصوير الإسلام بأنه دين عنيف انتشر بالسيف، وأن محمدا كان دجالاً فرض دينه على العالم عن طريق القوة والسلاح. “وقد أصبحت هذه النسخة المشوهة من حياة النبي واحدة من الأفكار المسلّم بها في الغرب، ولهذا فأن المجتمع الغربي يجد دائماً صعوبة في رؤية محمد بنظرة أكثر موضوعية أو مجردة من الخلفيات والمسلّمات الثقافية المسبقة، وخاصة بعد تدمير مركز التجارة العالمي في 11 أيلول 2001.” وبكتابها هذا تحاول المؤلفة أن تعطي للغرب رؤية مغايرة من خلال نظرة موضوعية لسيرة الرسول.
وتقول أرمسترونغ بأنه “لم يعد بإمكان الغرب تحمل هذا النوع من التعصب،” لأنه كما تقول “بإنه أفضل هدية يمكن أن نقدمها للمتطرفين الارهابيين” الذين يمكنهم استخدام هذه الرؤية عن الاسلام ونبيه لإثبات أن الغرب ما زال مستمرا بالفعل في حملة صليبية جديدة ضد المسلمين. “فلم يكن محمد رجل عنف”، وإنما تدعو المؤلفة من خلال هذه الدراسة الموضوعية لسيرة نبي الاسلام “تجعلنا نقترب من حياته بطريقة متوازنة من أجل تقدير انجازاته الكبيرة.”
وكشخصية نموذجية، فإن سيرة النبي محمد – كما تؤكد المؤلفة – تقدم دروساً هامة ليس للمسلمين فحسب، ولكن أيضا للمجتمع الغربي. فقد كانت حياته جهاداً، وكما سنرى، لا تعني هذه الكلمة “الحرب المقدسة،” وإنما تعني الكفاح أو النضال. فالنبي محمد (كما تسرد المؤلفة) أنه بذل كل الجهود الممكنة من أجل إحلال السلام في جزيرة العرب التي مزقتها الحروب، وفي الوقت الحاضر نحن بحاجة إلى رجال من الذين هم على استعداد تام للقيام بما قام به النبي. فقد كانت حياته كلها بمثابة “حملة” لا تكل ولا تهدأ ضد الطمع والظلم والاستكبار. فسيرته جاءت لتغيير الواقع القائم في بيئته الاجتماعية. فلم يحاول الرسول (كما تقول الكاتبة) بفرض عقيدة دينية – فأنه لم يكن مهتماً كثيراً في الميتافيزيقيا – ولكن جاء لتغيير قلوب الناس وعقولهم، ولهذا وصف القيم السائدة في
وقته “بالجاهلية” وهو مصطلح لا يشير لا إلى حقبة زمنية تاريخية معينة ولكن إلى حالة ذهنية لاشعورية أنتجت بيئة العنف والظلم والإرهاب. وتلخص الكاتبة تحليلها حول سيرة الرسول بأنها “تود أن تقول، بأن هذه الحالة هي أيضا لها ظهور بارز في الغرب اليوم كما هي ظاهرة في العالم الإسلامي”. فلا يمكننا أن نفهم إنجازات النبي محمد للإنسانية إلا إذا كنا نقدر ما كان يواجهه من ظروف موضوعية قاسية.”
ولا بد من الاشارة هنا الى أن تحليل كيرن آرمسترونغ لسيرة الرسول قد لا تتوافق مع معتقدات بعضنا، ولكننا نجدها رؤية جديرة بالتقدير والاحترام لأنها نابعة من نظرة باحثة متمرسة في دراسة علوم الأديان المقارن وتعد من المراجع المهمين في تاريخ الدين المسيحي واليهودي. فهي تعطي رؤية عن حياة الرسول مجردة من البعد العقيدي والخلفية التقدسية التي نضفيها على شخصية الرسول. فهي تنظر الى الرسول بالبعد الحضاري وتحاول أن تحلل انعكاسته على الزمن المعاصر. فالرسول هو رجل عصره حاول جاهداً تغيير واقع بيئته بكل جوانبها الاجتماعية والروحية والقيمية، وتحاول المؤلفة أن تستقي العبر والدروس من هذه الشخصية لعصرنا الحاضر. والملاحظة الأخيرة هي بما أن المؤلف هي أمرأة، فإننا نجدهُ هذه النظرة الانثوية الغائبة تماماً عن كل الذين كتبوا عن سيرة الرسول الذين هم من الرجال. لهذا فإن البعد العاطفي والجمالي والمسالم نجدة طاغياً على تحليل شخصية نبي الإسلام في علاقاته الشخصية مع زوجاته وعائلته وأقاربه أو علاقاته الاجتماعية مع أصحابه وعشيرته ومجتمعه المكي والمدني.
المؤلفة آرمسترونغ إنما هي باحثة تاريخية لحياة النبي (ص) تحاول فهم الإحداث التي رافقت مسيرة دعوته التي جاءت لتغيير الواقع السائد، فلازم تلك صاحب هذه الدعوة الثورية مقاومة من المتنفذين على واقع الحياة الإجتماعية بكل أبعادها. فالتحرك الديني الذي دعى له النبي محمد (ص) أساسه إحلال السلام وإقامة العدالة الاجتماعية ومن الطبيعي أن يواجه معارضة من اصحاب النفوذ والمجتمع بصورة عامة الذي سادت فيه قيم وعادات ورثها لأجيال عديدة. هذا العرض هو جزء من مقدمة كتاب صدر عن مركز الحلي للدراسات الدينية تحت عنوان: النبي محمد.
1(N.Y.: Harper Collins, 2006) Muhammad: A Prophet for Our TimeKaren Armstrong, 2 Deepak Chopra, Muhammad: A Story of Last Prophet (New York: Harper Collins, 2010)
3No God But God: The Origins, Evolution and Future of Islam, (New York: Random House, 2011)Riza Aslan, 4 Ageless Body Timeless Mind. (New York: Harmony Books 1995). 5 Zealot: The Life and Times of Jesus of Nazareth, (NY:Random House, 2013) 6 Muhammad: A Biography of the Prophet (1991) 7https://docs.google.com/file/d/0B5yN8ftbNwhPbkg0cnlKakk4Mm8/edit?pli=1 8 Islam: A Short History (2000) 9 وجدير بالذكر أن سيرة النبي (ص) التي كتبها أبن اسحاق ككتاب كامل مفقودة وبقي منها جزء واحد، والمتوفر منها والشائع هو مختصر كتبه أبن هشام (ت 833م) والتي عرفت فيما بعد بـ “سيرة ابن هشام”، والدكتورة كيرن آرمسترونغ إنما تشير الى هذا المختصر.

أحدث المقالات

أحدث المقالات