تُبيّن الموسوعة الحرة ( ويكيبيديا ) أن النرجسية ( Narcissism) نسبة الى نارسيس ( Narcisse ) الفتى اليوناني المذكور في الاساطير اليونانية . حيث كان رائع الجمال ، نظر الى صورته ذات يوم في ماء البحيرة ، فتسرّبت الخيلاء الى روحه , وشغله جماله عن العالم وعكف على الصورة يتأملها . فأعتُبر نرجسياً بعد ذلك كل من يركّز اهتمامه على ذاته او يجعل نفسه بقيمها ومشاعرها محور العالم . فكل نرجسي يعتقد ان بيده مفاتيح الحل لصراعات الحياة في مختلف المجالات, ويعتقد انه المحور الذي يجب ان تدور حوله كل الافكار الاخرى والايدلوجيات والمثل والمبادئ , وعليها جميعا ان تغترف من نبعه الصافي النرجسي فهو وحده من يمنحها جرعة الفهم والمعرفة , يتكئ المثقف الاسلامي على نرجسية متعالية جدا تبدو واضحة وجلية في حواراته مع الاخر المختلف, الاخر في نظر النرجسي هو الجحيم وليس الوسيط ((ان الآخر هو وسيط بيني وبين نفسي وهو مفتاح لفهم ذاتي والاحساس بوجودي )). لعلّ منشأ نرجسية المثقف الاسلامي هو النص القراني الوارد في قوله تعالى ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ )) للشاعر والمثقف العربي الكبير ادونيس رؤية موضوعية جدا للنص القراني اعلاه حيث يقول ((كنتم خير امة : لا تعني ان المسلمين باطلاق ,وفي كل حين ,(هم خير امة) ,تعني بالاحرى ان الذين استجابوا للاسلام هم في لحظة الاستجابة خير من الذين لم يستجيبوا ,فالخير هنا عائد الى الاستجابة , وتصديق دعوة الرسول ,ولهذا فأن السؤال اليوم هو :هل هذه الامة الان في واقعها , فكرها ,ممارساتها ,وفي حضورها الكوني هل هي حقا خير امة ؟ هكذا ترتسم مسافة كبيرة بين((كنتم)) الاستجابة وبين (أنتم) الممارسة الامة التي كانت خير امة في الاستجابة هي الان تكاد تفقد هويتها بالممارسة , لتفتتها وشقائها)) ان المنهج القائم على قراءة النص في ظروفه الزمانية والمكانية بعيداً عن الرؤية النرجسية يمنح هذه النصوص واقعية اكثر , اذ ان سر اعجاز القران هو في (النص المفتوح الذي يوحي بتعدّد القراءت ..كما يقول المفكر العربي علي حرب )) لكن هذا النص قُرء بطريقة اختزالية تطويقيه ايدلوجية اكسبته القطع والجزم , نستطيع القول ان المثقف الاسلامي بصورة عامة يتكئ على النص القراني اعلاه (كنتم خير امة..) والشيعي على وجه الخصوص يتكئ على حديث الفرقة الناجية وهو حديث لا ينسجم مع النص القراني والهداية الالهية للبشرية ,حيث يرى المفكر الايراني الدكتور عبدالكريم سروش ان الرؤية الجزمية القاطعة بشأن بعض العقائد هي مخالفة لاسماء الله الحسنى فمثلا من اسماء الله (الهادي) وهذا معناه ان الله يهدي الانسان الى طريق الخير والحق بمقدار معين. بمعنى انّ جميع البشر هم مشمولون بهداية الله ولكن بنسبة معينة , اما الذين جحدوا بها واستيقنتها انفسهم بتعبير القران فهؤلاء هم وحدهم الذين خرجوا طواعيةً عن هداية الله , ان التعددية الدينية هي المخرج الوحيد لتقبّل الاخر ولنشر روح التسامح الحقيقي المبني على الاعتراف بحق الاخر كشخص او كجماعة او كــ ديانة لها الحق فيما تراه مناسبا او تعتقد به في الحياة كسلوك او منهج مغاير للاخر , اما التسامح اليوم كما يراه المثقف المسلم فهو (مِنّةً وليس استحقاق ! ) وهذا ليس تسامح حقيقي, قد يكون توافق او انسجام مشروط ومؤقت قد ينفجر في اي لحظة, وقد انفجر فعلاً في ظل الصراعات والقتل والموت الاحمر الذي يجتاح الوطن العربي اليوم ودول العالم ايضا ,خاصة ونحن نشهد تنامي و تصاعد الاصولية الاسلامية ذات التوجه التكفيري وتصدّرها الخطاب الاعلامي المُمنهَج, وفي ظل غياب المثقف التنويري العلماني العربي الذي فشل في تبنّي الخطاب الواقعي المبني على قواعد واسس عقلائية متينة واكتفى بنظرة احادية واختزال
العلمانية بالمفهوم السائد( فصل الدين عن السياسة ) مما ساهم في تصاعد الخطاب الاسلامي الاصولي ضد العلمانية, الخطاب الذي يعتمد على خزين وارشيف هائل من الكراهية , وفي ذات الوقت لديه ارضية خصبة من اتباع جهلة يتلقون الخطاب والفتاوى المسعورة دون نقد او قراءة,النرجسية الاسلامية أشغلت المثقف الاسلامي في البحث عن نقاط ضعف الاخر المنتمي للاسلام نفسه كما هو الصراع بين الاشاعرة والمعتزلة والفرق الاخرى قديما والصراع الشيعي السني القديم والحديث والمتأصل وعلى حد تعبير حسن العلوي (ان الصراع الشيعي السني هو الذي حفظ ديمومة وبقاء الاسلام لانه اعتاش عليه طوال هذه القرون !) , هذه الصراعات كانت ولازالت تحصل على مرأى ومسمع وتشجيع من السلطة الحاكمة , لان الصراع الداخلي بين الاديان والطوائف والمذاهب يحمي السلطة ويمنحها الفرصة في السيطرة على المتناحرين واشغالهم عنها , وفي ذات الوقت يمنحها القدرة على الاستحواذ على كافة ثروات البلد وبناء امبراطوريات مالية ضخمة على حساب جياع الشعب, لقد مَنعت النرجسية المثقف الاسلامي من الاعتراف بان الاسلام اليوم في مأزق ولم يعد لديه شيء يقوله للعالم الا الاحتماء ببعض النصوص او التبريرات غير المسموعة من قبيل (هؤلاء لايمثلون الاسلام ) بينما الفقه الاسلامي يعتبر كل شخص يشهد الشهادتين هو مسلم بغض النظر ان كان متسامح او متطرّف,كما ان (هوية المسلم تشكّلت على التنابذ والتناحر ونفي الاخر ولم تتشكّل بناءاً على مقولة “التعارف” القرآنية كما يقول المفكر علي حرب ), ان التوحش الذي يجتاح المجتمع العربي اليوم هو نتيجة طبيعية للتهويمات والنرجسية الثقافية والدينية التي تعتبر من خصائص الشعب العربي اضافة الى الاستبداد السياسي الذي سجن الذات العربية عقود من الزمن وجعلها تتلذذ بنرجسيتها وصراعها مع الاخر المختلف مذهبيا او ثقافيا او دينياً على حساب الصراع مع السلطة والاستبداد ,لا طريق امام المثقف الاسلامي اليوم الا النزول من عرش النرجسية والاكتواء بالواقع واعادة قراءة النصوص المتعالية وترشيقها بالقدر الذي يسمح بالتعايش الحقيقي وقبول القيم الجديدة او اعادة تشكيل وانتاج قيم تنسجم مع الحياة بواقعيتها بعيداً عن المثاليات .