يروى أن عطشا أصاب عابر سبيل وهو يقطع طريقه الى بغداد، فاتجه صوب بيوتات لاحت في الأفق أمام ناظريه، وطرق باب أحدها مستسقيا من أهلها ماءً، ففتحت له الباب امرأة حسناء تفوق البدر سناء، فبادرها قائلا: “أيسر ماعندكم أريد ولاأريد أصعب ماعندكم”.. ومن دون ان تستفهم منه مايقصد دخلت بيتها وأتت اليه بكأس فيه ماء، إذ معلوم عند العرب أن أيسر شيء هو الماء، وأصعب شيء هو الشرف، وما إن شرب وارتوى حتى بادرته بقولها: “لو كنت اعرف اسمك لقلت لك هنيئا”، فقال لها: “اسمي على وجهك” فقالت له على الفور: “هنيئا ياحسن”. فأردف بدوره قائلا لها: “لو كنت اعرف اسمك لقلت لك شكرا”، فقالت له: “اسمي على جنبك” فقال لها: “شكرا ياهند”..! إذ كان متقلدا سيفا على جنبه وهند اسم من أسماء السيف.
أسوق ماتقدم وأنا أرى في عراقنا نماذج من شخوص تسيدوا المشهد العراقي سياسيا، وأستبعد ان يكونوا من نسل “حسن” او “هند”، إذ هم لايتحلون بما تحلى به الأخيران من خصال حميدة، ولا نصف حميدة او حتى ربع حميدة أو عُشرها. فمع تناسل بني آدم تناسل الخير والخيرون من دون انقطاع، مقابل هذا تناسل الشر وتناسب الشريرون وتصاهروا في مناكب الأرض، فبدت موازينها معتدلة تارة بفعل بسط الخيرين أفكارهم وأفعالهم، ومقلوبة تارات أخرى بفعل الشريرين ومعتقداتهم ومكائدهم وغدرهم، فهم -الشريرون- اعتادوا على الخراب، ولايهنأ لهم عيش إلا بإشاعة الدمار وسط معيتهم وإن كانوا من أبناء جلدتهم، وبين هذا وذاك نشأت دول ودرست أخريات. من بين هذه الدول أرض وادي الرافدين التي شهدت منذ الأزل تكالب الشريرين عليها، مع أن أغلب الخيرين والصديقين والأولياء والأتقياء عاشوا فوق أرضها، وكثير منهم وارى جثمانهم ترابها، فاكتسب بضمهم قيمة عليا سمت بسموهم وعلت بعلوهم. وأرض مثل هذه من الواجب الحفاظ على إرثها الحضاري، وهذا لن يتم إلا ببسط القوة والقدرة والسيطرة والهيمنة لدى حاكميها، ومن يتقلدون مراكز صنع القرار وتنفيذه فيها، لاسيما المسؤولين عن حمايتها، وتزداد الحاجة الى القوة أكثر من هذا، عندما يطفو على السطح نفر ضال ليس لاعوجاجه تقويم بالنصح والإرشاد، فتغدو القوة بكل اتجاهاتها ودرجاتها، الوسيلة الوحيدة في التعامل مع انتهازيين ونفعيين ومفسدين، لايمتلكون من الشرف والقيم والأخلاق والمبادئ حدا أكثر مما موجود في الضباع والثعالب، لما تحمله من صفات المكر والغدر والخديعة.
إن مفسدي اليوم يمتلكون من الشر وجهين، الأول ظاهر يتمثل بأقوالهم، والثاني باطن يتجسد بأفعالهم ونياتهم المبيتة، وفي حقيقة الأمر أن الباطن أضحى أكثر وضوحا من الظاهر، وأقرب للقراءة والإدراك منه، فصار سواءً لدى العراقيين حالا الباطن والظاهر. فأفكار ساستنا غالبا ماتكون مقروءة قبل نطقهم بها، لاسيما بعد أن خبرهم العراقيون وأدركوا تماما مبتغاهم في المفردة التي يتفوهون بها، وهذا طبعا بفضل تصريحاتهم خلف مايكروفون هنا أو على منصة هناك، وقد فاتهم ان العراقيين مازالوا يتمتعون بما يتمتع به صاحبنا “حسن” وصاحبته “هند” من قوة فراسة ودقة تخمين وصحة حدس، وأغلبهم كما نقول؛ “يقرون الممحي”، وقد باتوا يدركون مغزى تصريحات الساسة قبل بثها، وصاروا يستشفون النيات المبطنة والمعلنة على حد سواء، حتى صار المخفي منها محسوسا وملموسا.
شاهد حديثي في كل ماتقدم، هو المخاوف التي ساورت أغلب العراقيين قبل بضعة شهور، من عدم مصداقية الكتل التي نادت بالإصلاح والتغيير حينها، واعتصمت متخذة لنفسها مكانا قصيا تحت قبة البرلمان، ومعلوم أن كتلنا وأحزابنا وقوائمنا هي كما يقول مثلنا؛ (سيف المجرَّب) ورؤساؤها وأعضاؤها مجرَّبون بما لايسعد صديقا ولا يفرح عراقيا ولايغيظ عدوا، وإنه لمن المؤسف أن غبارا بدأ يعلو سماء تلك الكتل السياسية التي عوّل على أعضائها العراقيون في تخليصهم من غول سياسة التحاصص، ولا أظنني أستبق الحكم واستعجل اتهامهم في تمويه من نصبهم ممثلين عنه، فالأيام المقبلة كفيلة بكشف المستور، لاسيما أن الخديعة هذه المرة ستلبس نقاب “الاستحقاق الانتخابي” لتخفي تحته المحاصصة الخليعة، الأمر الذي يذكرني بمثلنا العراقي الدارج؛ “من فوك هلله هلله ومن جوه يعلم الله”.
[email protected]