19 ديسمبر، 2024 1:12 ص

يسار خارج الزمان والمكان

يسار خارج الزمان والمكان

لقد ولى عهد الإنقلابات والثورات,التي تقوم بها أقليات واعية صغيرة    
على رأس جماهير غير واعية. فحيثما يقتضي إحداث تغيير كامل للنظام
الإجتماعي يجب على الجماهير نفسها أن تشارك وأن تكون قد وعيت
بنفسها ماهية الأمر، والسبب الذي من أجله تساهم بأجسادها وأرواحه – فريدريك انجلز

في نهاية ستينات القرن الماضي، لم يكن من الإهتمامات الإولى لجيل الشباب الشيوعي وقتها، معالجة موضوعة البناء الإشتراكي وخياراته في العراق، خاصة وأن التجارب المعروفة وقتها لبناء الإشتراكية، عدا التجربة السوفيتية، لم تكن ملهمة لجيلنا، بما فيها تجربة التسيير الذاتي في يوغسلافيا، والتي تستحق حتى يومنا هذا وقفة تأمل ودراسة.  وقد كان الإهتمام الأساسي منصب على إختيار الطريق الأفضل لتغيير النظام السياسي في العراق وتكتيكات العمل الثوري على خلفية إنشقاق مجموعة، ما كان يعرف بـ ( القيادة المركزية )، ثم السقوط المدوي لقادة الإنشقاق إثر إعتقالهم من قبل أجهزة الأمن البعثية.
كتب الكثير عن ألإنشقاق، وليس بوسعي ان أضيف شيئآ لما قد أصبح من التاريخ، ولم يعد محط إهتمام حتى أؤلئك الذين يعلنون أنفسهم اليوم، ولو بمسوغات أخرى إمتدادآ لتنظيم ( القيادة المركزية ). على أن أهمية الحدث التاريخي تتجلى غالبآ في دلالاته وإستنتاجاتنا، فهل كان مهندسو الإنشقاق مقتنعين تمامآ في إسلوب العمل الثوري الذي تبنوه وهل كانت هناك رؤيا واضحة عند جميع أعضاء القيادة لتبعات شعار الكفاح المسلح الذي رفعوه؟ والأهم من كل ذلك، هل ولدت تلك الشعارات من رحم البيئة العراقية آنذاك بكل تعقيداتها وملابساتها ؟.
 مضى على لقائي في مقهى شتوي على أبو نؤاس بالأستاذ الفاضل( خضير عباس) عضو القيادة المركزية آنذاك، أربعون عامآ وما زالت كلماته محفوظة في ذاكرتي. سأتجاوز التفاصيل التي فيها الكثير من الخصوصية وألخص إجاباته على تساؤلاتي السابقة في جملة واحدة: مل الشيوعيون طول الإنتظار وكان عليهم المبادرة بتكتيكات تبنتها حركات ثورية في مناطق أخرى من ألعالم. هذه هي الأرضية التي نشأ عليها الإنشقاق. تبني شعارات لا علاقة لها بالماركسية وإسقاطها على الواقع، ولا يهم أي واقع كان، فالشيوعيون، حسبهم، قد تعبوا من ألإنتظار, وكأنهم يريدون التمتع بمباهج المرحلة الشيوعية الآن وهنا !.
الصبر المفقود يفرز مواقف وأفعال لا يستفيد منها سوى الخصم المتربص بحركة اليسار التاريخية. لا أدعي بأن الإنشقاق كان قد أعاق مخططات الحزب الشيوعي العراقي في حسم الموقف من السلطة، ولكنني على يقين من أن خسارة الحركة الشيوعية في العراق لكوادرها المجربة والتي إنساقت وراء شعارات الإنشقاق ما كان لها أن تعوض بسهولة في تلك الفترة. وهكذا الأمر على إمتداد المساحة الجغرافية لحركة اليسار العالمية. خسائر وأحيانآ نكسات، زعزعت ثقة الجماهير بالإشتراكية كفكر وكمشروع لمستقبلها. ووراء ذلك يقف غالبآ رفاق وأصدقاء لنا !!!
 في سياق متابعتي لأحداث الإنقلاب الفاشي والدموي في تشيلي بزعامة بينوشيت، وقعت على خبر صحفي نشرته جريدة الثورة السورية ألصادرة بتاريخ09.08.1973 (أي قبل وقوع ألإنقلاب) عن وكالات الأنباء في سانتياغو جاء فيه: “أعلن قادة البحرية في تشيلي أنهم تمكنوا من سحق حركة تمرد قام بها قادة سفينتين حربيتين في ميناء فالبارايو الذي يبعد ستين ميلآ عن العاصمة التشيلية. وجاء في البيان أن الحركة الثورية التي تطلق على نفسها إسم (مير) وهي جناح متطرف كانت وراء حركة التمرد. هذا كان ضمن نشاطات وأعمال مختلفة قام بها اليسار المتطرف في تشيلي لغرض زعزعة الإستقرار وخلق الفوضى في البلاد وإضعاف حكومة الوحدة الشعبية، ولم يدرك المتطرفون وقتها انهم بتصرفاتهم تلك قد خدموا مخطط الإنقلاب الفاشي أيما خدمة.
ثم، اليس غريبآ أن الساسة الماويون في بكين (أحد المراكز العالمية الأهم لليسار المتطرف وقتها)، والذين ما زال لهم أتباع في مناطق معدودة من العالم، منها العراق، أعلنوا عقب فترة وجيزة من حدوث الإنقلاب الدموي، أن السفير التشيلي (أرماندو أوريبيه) المعين من قبل حكومة الوحدة الشعبية والذي أدان بحزم الإرهاب ألدموي على يد الطغمة العسكرية، أعلنوا أنه شخص غير مرغوب فيه!!! وإعترفت جمهورية الصين الشعبية بالطغمة العسكرية الفاشية في سنتياغو بزعامة بينوشيت!!!
في كتابه “حرب ألأنصار” الصادر باللغة الروسية عام 1961م ذكر الثائر العظيم تشي غيفارا، أن لا حاجة لأية إشتراطات أو ظروف داخلية أو خارجية لنضوج الثورة وإنتصارها، فالقيادة الثورية هي التي تصنع الظروف الثورية! وللأسف فقد تم إسقاط هذا الإستنتاج الخاطئ على الواقع البوليفي، وكانت نتائجه مأساوية. ومع أهمية الظروف الخارجية التي ساهمت في قمع حركة تشي (هكذا يسمونه رفاقه في السلاح) الثورية، إلا أني سأتجنب الكتابة عنها الآن خاصة وأن التدخلات الخارجية هي جزء من عقيدة النظام الرأسمالي العالمي بزعامة أمريكا، وعلى الثوريون أن يأخذوا ذلك في الحسبان، وبالتالي فمن يخاف الذئاب لا يدخل الغاب. والأكثر أهمية هنا هو العوامل الداخلية التي أهملها تشي، أو تعامل معها بصورة سطحية. لابأس من الإقتباس مما كتبه لينين في هذا الشأن: “إن الخطر الأكبر، وقد يكون الوحيد، الذي يتعرض له الثوري الحقيقي هو المبالغة في الشعارات الثورية وإهمال الحدود والظروف المناسبة لتنفيذ الأساليب الثورية الناجحة”.
ما هي القاعدة الشعبية التي إستند إليها تشي غيفار في بوليفيا؟ لقد أعاد هنا إستنساخ نفس تكتيكات وشعارات الثورة الكوبية، فقد إعتبر الفلاحين عماد للثورة وتوجه إليهم بالذات بشعارات الإصلاح الزراعي وتوزيع الأراضي، دون أن يقدر بأن الإصلاح الزراعي في بوليفيا كان قد أنجز منذ ألعام 1952م وأن الفلاح البوليفي بآلاته البدائية لم يعد يهتم كثيرآ بزيادة مساحة أرضه. وكما يذكر ريجيس دوبريه (رفيق تشي)، فإن تشي غيفارا قد أهمل الحاضنة الإجتماعية الحقيقية للثورة وهم عمال المناجم وحلفائهم من البرجوازية الصغيرة الواعية سياسيا إضافة إلى شرائح إجتماعية واسعة أخرى!
لقد كنت أحسب أن الفكر الانساني وخاصة الاشتراكي منه قد أودع منذ زمان أفكار ماو تسي تونغ، فرانز فانون، ماركوزة وغيرهم في أرشيف ألتاريخ. ولكن مطالعتي لصحافة اليسار العراقي الألكترونية وللبيانات البائسة التي يوزعونها في شارع المتنبي ببغداد، فرضت علي وقفة تأمل في أفكار بالية مزجت في كوكتيل غريب، سأحاول المرور على بعضها هنا دون التعرض للفرق التي ترتكز عليها في تصنيع شعاراتها.
البؤس كما يرى بعضهم هو حامل فتيل الثورة، وبما أن الرأسمالية العالمية تفاقم البؤس في دول العالم المتخلف فالثورة الاشتراكية، يجب أن تولد من رحم هذا العالم. وهذا التصور بلا ريب بعيد كل البعد عن الماركسية وعن الفكر الاشتراكي بصورة عامة، فالبؤس طبقآ للماركسية، لا يولد الوعي الصحيح ولا الثورة وإنما يقود إلى التهشم والانهيار، أي المراوحة في دائرة البؤس. فالذي يقرر مدى ثورية الجماهير ليس مدى سوء أوضاعها، بل درجة وعيها وتنظيمها، فجماهير العمال في شمال إيطاليا، على سبيل المثال، يتمتعون بمستوى معيشي أعلى منه في جنوب إيطاليا، ومع ذلك فنضال الطبقة العاملة في شمال إيطاليا أقوى منه في جنوبها بدرجة كبيرة. كما أن سكان الأرياف في أفريقيا وجنوب شرق آسيا يتعرضون إلى درجة من الإستغلال تصل إلى الرق إلا أن حركات الإحتجاج السياسي تنشأ عادة في المدن التي يسهل على سكانها إدراك معنى الإستغلال. إن جوهر القضية كما يراها موديبو كيتا في مقابلة أجرتها معه مجلة ” الثورة الأفريقية”، لا يكمن في درجة البؤس أو الأستغلال بل حصرآ في الوعي السياسي.
الموضوعة الأخرى التي لا تقل أهمية عن سابقتها، هي موضوعة “حرق المراحل”، أو الإنجاز العاجل للتغيير الإشتراكي بالفعل الثوري! فهل يتعين على الشيوعيين والإشتراكيين الديمقراطيين السعي لتقويض أسس النظام الإقتصادي الإجتماعي الرأسمالي في المرحلة الحالية كما يطالب بذلك أصدقاؤنا من الثوريين اليساريين أو الماركسيين اللينينيين السلفيين؟ ومع أن هذا الطرح لا ينبع عن رؤيا واقعية لميزان القوى القائم الآن ويتجاوز مجمل التغيرات التي طرأت على النظام الرأسمالي والتمايزات الحاصلة  في التركيبة الإجتماعية الإقتصادية تبعآ لذلك، فانه يبتعد عن أصول ألفكر الإشتراكي والماركسي، ويهمل كل ما أفرزته التجارب الإشتراكية في القرنين التاسع عشر والعشرين. لقد حذر لينين في كتابه “تكتيكان للإشتراكيين الديمقراطيين في الثورة الديمقراطية”، الصادر عام 1905م ، من مغبة المس بأسس النظام الرأسمالي في روسيا آنذاك. وللأسف فإن هذا الإستنتاج عند لينين لم يدم طويلا لأسباب منها براغماتية ومنها ما ذكره لينين فيما بعد، من أن البلاشفة قد إضطروا بسبب تسارع الأحداث الثورية أن يرتجلوا بعض إجرائاتهم ألإقتصادية دون دراسة متأنية.
كان ماركس في نظريته المبدعة عن “الثورة الدائمة” التي نادى بها أواسط القرن التاسع عشر، والتي تختلف تمامآ عن تفسيرات بارفوس-تروتسكي، يؤكد على أن الثورة في أوربا آنذاك يجب أن تأخذ مسارآ تصاعديآ متواصلآ، تتغير فيه المهام والتحالفات الطبقية. يبدأ بالتحالف مع البرجوازية لإنجاز مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية، ثم ومع نهوض  مهام جديدة ومتواصلة للدفع بعجلة تطوير النظام الإقتصادي الإجتماعي الرأسمالي صوب الإشتراكية، يتعين توسيع التحالفات الطبقية مع تعزيز دور الطبقات الطليعية في التحالف. وبالتالي فإن على الإشتراكيين مواصلة تطوير سبل نضالهم وفقآ لأهداف مرحلية مدروسة وستراتيجية معلنة، على قاعدة المبدأ الماركسي المعروف، وهو أن ما من تشكيلة إقتصادية إجتماعية يمكن أن تولد دون أن تستنفذ التشكيلة القديمة جميع إمكانياتها وبصورة نهائية.
ومع أن موضوع التحالفات، هو حجر الزاوية في نظرية ماركس عن “الثورة الدائمة”، فإنه لم يتبلور في ممارسات وفكر الإشتراكيين، إبتداءآ من كومونة باريس وحتى نهاية القرن التاسع عشر. وأول من أدخل مبدأ التحالفات الإجتماعية في أدبيات الإشتراكيين الديمقراطيين الروس هو المفكر الإشتراكي ألكبير بليخانوف عام 1884م وذلك قبل أن يقرر المؤتمر الثالث للإشتراكيين الديمقراطيين الروس-البلاشفة، المنعقد عام 1905م المشاركة في إنجاز مهام الثورة الديمقراطية البرجوازية ويتبنى توصيات إلى منظماته في داخل روسيا بتقديم المساندة للفلاحين في مصادرة أراضي الإقطاعيين وأراضي الدولة والكنيسة وغيرها.
ولا بأس أن أشير هنا إلى موقف أصدقاؤنا في فصائل اليسار العراقي الذين ردوا بالرفض لدعوتي إيجاد حد أدنى من التعاون مع الحزب الشيوعي العراقي كفصيل أهم وأساسي في النضال من أجل الإشتراكية في وطننا العراق، والتي تضمنتها مقالتي المنشورة في “طريق الشعب” بعنوان (اليسار العراقي ورياح التغيير)، مذكرآ إياهم بأن لينين هو الذي دعا في عام 1907 الإشتراكيين الديمقراطيين الروس إلى التعاون وفق مبدأ بليخانوف القائل: “نمضي على إنفراد وننقض موحدين”.
إن أصدقاؤنا في فصائل اليسار العراقي حساسون ليس فقط من مواقف الحزب الشيوعي العراقي بل من أي موقف حداثي في الفكر الإشتراكي، وهم بذلك يناقضون أسس الفكر الإشتراكي والمبادئ التي قامت عليها أفكار ماركس وأنجلز. والغريب أنهم يتناسون بأن اللينينية ومن بعدها الستالينية والتروتسكية والماوية والغيفارية وغيرها من ألأفكار التي يتبنوها هم أنفسم ليست إلا محاولات تحديث، أغلبها للأسف كانت متدنية أو فاشلة تمامآ. إن المطلع على تاريخ الحركة الإشتراكية الديمقراطية الروسية يعلم تمامآ بأن ما كان يميز المناشفة عن البلاشفة، هو أن المناشفة كانوا أكثر “نصية” في إعتمادهم على أفكار ماركس وإنجلز في حين إستحدث البلاشفة من عندياتهم الكثير من أفكار الثورة الإشتراكية في روسيا. وأن تعبير “اللينينية” قد ظهر في أدبيات الإشتراكيين الديمقراطيين الروس- البلاشفة مضافآ إلى “الماركسية” منذ عام 1905, وقد تضمنته وثائق المؤتمر الثالث للبلاشفة حينها. ثم أن شعار “المنجل والمطرقة” لم يعتمد إلا في ربيع عام 1918م ليحل محل شعار البلاشفة السابق “المطرقة والمحراث” أما إسم الحزب فقد تغير منذ عام 1898 وحتى 1952 خمس مرات !.
وأخيرآ، بودي أن أختم هذه المقالة بكلمات لينين الرائعة في كتابه “الدولة والثورة”: “إن تطور الديمقراطية حتى النهاية والبحث عن أشكال هذا التطور وإختبارها في الممارسة العملية..إلخ، هي إحدى المهمات الأساسية للنضال في سبيل الثورة الإجتماعية.”

* رئيس مركز أبحاث ودراسات-روسيا ألاتحادية