19 ديسمبر، 2024 12:48 ص

الانسان والقيم والموروث الاجتماعي والإنساني في العراق المحرر!

الانسان والقيم والموروث الاجتماعي والإنساني في العراق المحرر!

تعليقا على رثاء كتبته للفقيد المرحوم ا.د محمود الجليلي كتب لي زميل أكاديمي ودبلوماسي وإعلامي رسالة يطري بها عليَّ شاكرا وفائي لأساتذتي وومواقفي من خلال ما اكتبه من مقالات لكنه تساءل عن حلول لازمة اجتماعية عراقية يجدها كارثية تتمثل بغياب كبير لكثير من القيم والموروث الاجتماعي الذي كان سائدا في المجتمع العراقي وبات اليوم يكاد ينحصر في الجيل المتقدم بالعمر فيما  يكاد الشباب وأجيال الحداثة بحكم الواقع المعاصر بعيدين اشد البعد عن حضور واضح للعيان لتكريس هذه القيم . نكران الذات والاعتراف بالجميل والوفاء والإخلاص للمهنة واحترام الوظيفة والسلوك المهني والشعور الوطني والحرص على علاقات الوفاء والود وصلة الرحم والشفقة واحترام المسنين ورعاية المحتاجين والمسنين والمتعففين وذوي الاحتياجات الخاصة ورعاية الجار وحفظ الأمانة والصدق كانت هي السمة الواضحة لمعالم الشخصية العراقية لعقود وقرون مضت وهي ثقافات وتقاليد وممارسات أضحت كأنها آهلة للانقراض. حقيقة تركت الرسالة أثرا كبيرا في النفس بعد ان طلب مني الزميل ان اكتب شيئا عن أبعاد هذه الأزمة التي تنخر في جسد الأجيال الشابة المشرد والمهجر والمستهدف وأنا أدرك جيدا ان الزميل هو الأجدر والأقدر مع جمع كبير من كتابنا ومفكرينا المعنيين بعلم الاجتماع والسلوك والموروث بالاعتناء والاهتمام بهذا الشأن ولكي أشفي غليلي بالحديث عن أزمة القيم والمنظومة الاجتماعية في العراق  كما شجعني على الكتابة اخوة وزملاء كتبوا حديثا عن المنخفضات الثقافية والانحدار الثقافي ركزوا فيها على كتل وتنظيمات واحزاب سياسية فوجدت من المناسب ان اكتب بعض الملاحظات حول محنة الانسان والقيم في المجتمع العراقي مستدرجا الى ما بعد فترة الاحتلال  ومن خلال العناوين التالية :
1. العولمة بمفهومها الواسع وبما يتعلق بها إعلاميا وما يطفو على السطح من مفاهيم فكرية تتعلق بقضايا  صراع وتمازج الحضارات تحمل معها في معظم الأحيان رياح  أخطار تحيق بالموروث الاجتماعي والقيمي وتعصف به ما لم يتم توظيف هذه العولمة ومفاهيمها الاعلامية والفكرية  لصالح خصوصيات المجتمع وانفتاحها بشكل مدروس ومحكم وهذا الأمر ينبغي أن يحظى باهتمام المؤرخين ودراسة مراحل فترات الفتوحات الإسلامية وما أعقبها من إجتياحات غزو واحتلال وتأثيراتها الفكرية اللاحقة والدروس المستنبطة من التاريخ والموروث.
2. التأكيد على اهتمام مورثنا الديني والاجتماعي بالإنسان الذي يشكل ركيزة التحضر والتغيير والتنمية وأن كل أدوات التقدم والتنمية وأدوات النهوض والانجازات العلمية المتحققة هي من نتاج وإبداع الإنسان وهو الأحق بضرورة أن توظف لمصالحه ورعايته .
3. الاهتمام بدراسة التاريخ والموروث في مراحل التعليم المتعاقبة بشكل حضاري وإنساني وطرح إشكاليات الموروث بشكل غير متطرف او متعصب والاستفادة بشكل إيجابي وتوظيفه لصالح الحاضر والمستقبل والاستفادة من الإشعاعات والانجازات التاريخية والفكرية بشكل بناء .
4. التأكيد والتركيز على إشاعة مفهوم الوطنية والمواطنة من خلال التثقيف لإبراز غريزة حب الأسرة والبيت والعائلة والأقربين والعشيرة  والمحلة واحترام مواريثها وروابطها وحب معالم المحلة والمدينة وجوامعها وكنائسها وبيوت العبادة فيها وزيارة المتاحف والسفرات السياحية لمعالم العراق الآثارية والسياحية والانجازات الوطنية العلمية والتنموية وحب المدينة والريف ومن ثم العراق وهويته  ومحيطه العربي والإسلامي وتكريس مفهوم الأخوة والتعامل بين أبناء المحلة والمدرسة وأهمية الاهتمام بنظافة المدارس والحفاظ على أثاثها والممتلكات العامة ونظافة الشوارع والمنتزهات واحترام المعلمين وكبار السن ومساعدة المعاقين والمكفوفين والالتزام بقواعد العبور والمرور واحترام الضوابط والموانع والتقيد بالأعراف والقوانين وتشجيع فرق الرياضة وإحياء أنشطة الكشافة الوطنية وتعليم الرماية والسباحة وركوب الخيل كي يكون الوطن وشعور المواطنة والانتماء قويا متكاملا بذهنية الطفل والطالب والمتعلم .
5. مغادرة موضوعة التقوقع والخوف من ثقافة الآخر وذهنية المؤامرة وتشجيع إتقان اللغات العالمية الفاعلة والإيضاح بشكل متوازن نقاط الخلاف والتوافق بين الثقافات والعادات والإرث التاريخي في المجتمعات والدول وتشجيع ثقافة شبكات المعرفة الحاسوبية والأخبار والنشاطات العلمية والانجازات والاكتشافات المنجزة ومتابعة النشاطات الاجتماعية والرياضية والوطنية التي تنجزها الشعوب والمجتمعات الدولية وفعالياتها الإنسانية والتضامنية ومجالات حقوق الإنسان والعمل المدني والدفاع عن قضايا الإنسان في كل مكان .
6. غرز الروح العلمية والتعليم بالتجربة والمختبر  و وسائل الإيضاح المتطورة وإشاعة روح البحث العلمي والترجمة والنشر والاهتمام بتعليم اللغة بشكل حضاري باعتبار إن لغة الأمة هو سجل مهم لنهضتها وتقدمها ومصدر ثقافتها ودراسة ترث الأمة وانجازاتها العلمية والإنسانية والقومية 
7. إعادة النظر في ثوابت تدريس مادة الدين وثقافة الأديان والمجتمعات والنشاطات الإنسانية والتركيز على ثقافة التسامح والتكامل في الرسالات والكتب السماوية ومهمتها في إصلاح الإنسان وبعث الطمأنينة في النفوس ونبذ روح التعصب والتطرف والاهتمام بلغة النقاش والحوار .
8. ثقافة الاهتمام بالأم والأخت والمرأة وإبراز دورها العائلي والمجتمعي ينبغي غرسها بشكل صحيح منذ الطفولة وتنمى بشكل فاعل خلال المسيرة التعليمية في كل مراحل الدراسة والتحصيل لإشاعة روح التكامل وليس التنافس في ترتيبات الاستحقاق والتوظيف والحقوق والواجبات .
9. ثقافات النفس والجنس والسياسة في المجتمعات تخضع لكثير من المتغيرات وينبغي أن تدار وسائل تثقيفها وتدريسها وممارستها من مجتمع إلى آخر ولاشك في أن مجتمعنا العراقي ينقصه برنامج متكامل يتم على ضوءه التركيز على المرحلة العمرية التي يتم خلالها التركيز على الثقافة الجنسية والممارسات السياسية في المجتمع تربويا وثقافيا .
10.  يبقى الإعلام وشبكاته و وسائله هو العامل الفاعل والأداة المؤثرة في عملية الإبقاء على منظومة القيم الاجتماعية الموروثة وتفاعلها مع المستجدات والنشاطات والثقافات المعاصرة وإدارة آلية التفاعل بين القديم والجديد وبين الأصالة والتحديث والتغيير المطلوب لنهضة الأمة وتنميتها فيما لا زال الإعلام  في عالمنا العربي تحت هيمنة السلطة وبالتالي فان سياسة السلطة تلعب الدور الأساس في طبيعة الإعلام والتوجيه ومقاصده وأهدافه العامة .
11. ذاكرة جيلنا عن الاحتلال كانت تتمثل بقصص الأباء وأحاديثهم حول الانكليز وقواعدهم ومراكز سيطرتهم واستعراضاتهم العسكرية على الخيول وقصفهم للفلوجة وزوبع ومعارك الكوت والرارنجية وعلاقاتهم بالعشائر والشيوخ وسياساتهم القائمة على قاعدة فرق تسد ومن ثم بعد ان استقروا عن صلتهم بمراكز الشرطة ونوادي الرياضة والنوادي الليلية وحياتهم داخل الحبانية والشعيبة وصلتهم بالسلطة ، أنا لا اعتقد أن احد من جيلنا كان قد شهد تواجد العسكري الانكليزي في ساحات بغداد أو المدن ، كان دخول القوات الأمريكية والجيوش الغازية ومشهد آلياتهم ودباباتهم في شوارع المدن وفي النجف وبغداد مثيرا للسخط والاستنكار والكراهية بين الأباء من بقايا جيل سابق فيما كانت تثير آلياتهم وتحركاتهم ومعداتهم و وسائل اتصالهم علامات الدهشة والاعجاب بتقنية العسكر ومعداتهم وحركاتهم ! وراحوا مفتونين بفتح الغزاة لهم مخازن الدولة تمهيدا لسلبها ونهبها وكم هالني منظر استحواذ الشباب على معدات مركز جراحة القلب أو معدات ملجأ تموين قرب داري ومنظر الأباء الذين كانوا يمنعونهم ويعيدوا غنائم الشباب إلى الملجأ كونها ممتلكات الدولة حرام نهبها ، لقد علمتني هذه المشاهد كيف أن الأجيال تختلف بمفهوم المواطنة والوطنية وكيف أن أنظمة الحكم والسلطة لم تنتبه للعناية بهذه الجوانب حتى إذا ما سقطت السلطة واختفت انقضَّ المواطن (مغفلاً ) يتعرض لممتلكات الدولة ومعداتها يحسبها غنيمة ! . لكن بمرور الأشهر وبعد أن ذاق الشباب طعم الاحتلال المرير ونكباته ومداهماته وطرق و وسائل ترهيبه انقض هؤلاء الشباب مقاومين وغاضبين ومدافعين عن كرامتهم وحريتهم ولا أكاد أصدق كيف كان الآباء والأمهات يأتون بأولادهم من صغار السن يطلبون مني  إقناعهم بأن أعمارهم وخبرتهم لا تؤهلهم أن يلتحقوا بفصائل المقاومين وقتال الأمريكان خلال العامين الأولين بعد الاحتلال التي قضيتها في العراق في قريتي او محلتي بالعاصمة ، هذا واقع حال في عراق شهد أطفاله وشبابه أثار حروب طويلة لعقدين من الزمن فما بالك في شعوب مرفهة أمنة تحولت بين ساعة وضحاها الى مشاهد صدام وصراع ؟. كم نحن اليوم بحاجة ماسة إلى فرق شباب تقوم بواجبات مدنية وإنسانية تقلل من فعل التخريب والدمار الذي شهده العراق في سنوات الاحتلال العجاف ابتداء من تنظيف شوارع الأحياء وتخليصها من تلول القمامة والفضلات امتدادا الى العناية بالكهرباء المولدات المناطقية و وسائل الإسعاف والإنقاذ والإخلاء ورعاية العوائل المتعففة والمنكوبة وتدريس الطلبة ومساعدتهم للاستمرار بالتحصيل وممارسة العديد من انشطة العمل المدني والإنساني .
12. على النقيض من هذا ، علينا أن لا ننكر مخلفات الاحتلال السلبية على القيم والموروث الاجتماعي العراقي من خلال إشاعة ثقافة السوق السوداء والمتاجرة الرخيصة ودفع الرشوات وتزوير الوثائق والإغراء بمهام المخبر السري والتجسس وشراء الذمم  والإثراء الغير مشروع بشتى وسائل المكر والخداع واستخدام وسائل العنف والإرهاب والقتل وبيع الأطفال والإدمان على المخدرات وسوق النخاسة المتنامي  واستغلال النساء واغتصابهم والقتل ذبحا او حرقا والبطالة والفقر والأمية والجهل والمرض بسبب الاحتلال البغيض وممارساته ، بل لقد امتد الاختراق للقيم  ليطال وينال مهن إنسانية وحيوية كالقضاء والطب والتعليم ويعصف بها وبممارستها ، ولعل معالجة هذه الحالة من الاختراق الوخيم لمنظومة القيم والموروث يعد من أعقد محن الاحتلال استجابة للتقويم والإصلاح  مما يتطلب جهدا علميا وبحثيا لعلماء النفس والاجتماع للعناية والاهتمام بمعالجته .
بحد ذاتها  ( Generation Gapبشكل عام تشكل قضية زمنية الجيل( 
تحديات ، إذ من المعروف أن لكل جيل مواصفاته وانجازاته وعثراته وبات تقليديا أن يفخر كل جيل بانجازاته فيما يعيب الجيل اللاحق وضعه وحاله بما هو غير متاح له ، جيلنا الذي يفخر بقيمه وأصالته زميلي كان جيل البيت والعائلة والملَّا وحفظ القرآن وهيمنة المعلم وجيل الكشافة والعشيرة والريف والعسكرة والتقلب السياسي والعرفان بالجميل له هفواته ولعل أبرزها وأهمها هو ضعف الاهتمام بالإنسان وإنسانيته وبجيل المستقبل وتحصيناته ، أما جيل اليوم فهو جيل العولمة والحاسوب والتلفاز واليوتيوب والمعانة والتهجير وضعف المواطنة والمسؤولية حسب ما نراه نحن جيل الماضي القريب لكنه أيضا جيل المقاومة والمعاناة والصمود وكما كنا نقول إن جيل آبائنا كان جيلا أفضل من جيلنا ، من المؤكد أنهم يعتبرون إن جيلنا كان أفضل من جيلهم الحالي ولكل جيل محنته .