26 نوفمبر، 2024 2:26 م
Search
Close this search box.

بشائر “المعقدين”!

يقال أن صموئيل بيكيت أنتظر خمس عشرة سنة كي يجد من ينشر له “في انتظار غودو”. حدث هذا في بلاد الغرب، أما في وطننا العربي فلو أراد شاب يافع أن ينشر قصائده في كتاب، فإنه يكتب ببراءة الشعراء إلى هذا وذاك من الناشرين العرب، ولن يصله رد ما لم يعرف اللعبة بنفسه، فلربما كان الناشر العربي لا يفقه شيئاً بالشعر، وقد يكون أمياً غير كاتب. وأول كتاب في الحداثة الشعرية العراقية والعربية كان قد صدر قبل حوالى سبعين سنة في بغداد عن دار نشر مجهولة هي “الوقت الضائع”، ولا أحد يعرف اليوم تأريخ هذه الدار، وكيف نشأت وماتت، أما الكتاب فمازال حياً إلى اليوم، وهو ديوان “خفقة الطين” لبلند الحيدري. أما في مصر فلا أحد يعرف اليوم من هي دار أبن عروس التي نشرت في أوائل الستينيات ديواناً مبتكراً في الحداثة لعبد الرحمن الأبنودي بعنوان “الأرض والعيال”.
أما اليوم فنحن أمام دار نشر جديدة ومبتكرة هي “المعقدين” للنشر والتوزيع، تنشر من شارع الفراهيدي بالبصرة، لصاحبها فارس الكامل. ونعجب كيف لكتاب أن يخرج من شارع، لا مكتب له، ولا دار تحميه. وقد نشرت هذه الدار حتى اليوم بضعة كتب طليعية، حتى جاءتنا اليوم بكتاب لا على البال، ولا بالخاطر، هو ديوان شعري نادر بعنوان “هيا بنا!”، للشاعر الغواتيمالي الشهيد أوتو رينيه كاستيو. ويبدو أن الأخ فارس قد غامر وأراد أن يرفع سقف طموحاته في النشر إلى أعلى مستوى، فالشاعر كاستيو مجهول حتى لدى الشعراء الغربيين، ولا تأتي موسوعة الشعراء اللاتينيين على ذكر له. من ناحية أخرى لم يعرف شعراء الثورة الفلسطينية كاستيو، ولم يتعرفوا على شعره، وهذا أمر غريب حقاً، قد يعود إلى هيمنة الثقافة الأمريكية على الساحة الأدبية في العالم كله. سؤل الشاعر عبد الوهاب البياتي قبل وفاته عن الشاعرين اللذين يود اللقاء بهما، فقال: المعري، وأرنستو جيفارا. وديوان “هيا بنا!” لا يبتعد كثيراً عما قاله البياتي في معنى الأصالة الشعرية والابتكار.
ولد كاستيو في قرى غواتيمالا المعذبة عام 1934 ، وأظهر نبوغاً مبكراً، واعتزازاً شديداً بقصص وطنه الضائعة بين أفواه النساء والفلاحين. ما أن بلغ العشرين من العمر حتى جاءت الاستخبارات الأمريكية لتطيح بالرئيس الغواتيمالي المنتخب يعقوب أربينيز. من هنا بدأ الفقر والجوع والعذاب، والهجرة الجماعية. تفرق الشباب الغواتيمالي الحر في كل الشعاب، كما تفرق العراقيون الأحرار. من السلفادور إلى كوبا، ومن كوبا إلى ألمانيا الشرقية. وفي نهاية الستينيات عاد كاستيو إلى بلده ليلتحق بالثوار. قبض عليه، وأحرق حياً في الساحة العامة. أحرق الرجل الحر كاستيو عينيه لكي نرى نحن النور. وها هي دار المعقدين ترينا جذوة كاستيو التي مازالت متقدة في صدور العراقيين.
والسؤال الذي يطرحه الديوان هو ما هي العبقرية؟ لماذا يحب الناس جيفارا، أو فان كوخ مثلاً؟ ويأتي الجواب في القصيدة الأولى بعنوان “الغد أولاً” حيث يقول الشاعر:
“وحينما تروى
قصة زمننا الحماسية
للذين يولدون
بوجوهٍ أكرم منّا،
سنخرج إلى الدنيا،
نحن المُعَذَبين”
….
“رائعٌ
أن ترى ثمرة انتصارك،
والكل حولك،
باردٌ ومظلم!”
والديوان كله رحلة في الوطن الذي يحتضر ويموت أبناؤه. إنه رسالة للناس الطيبين، كذلك هو رسالة إلى الماكرين الأدعياء الذين خانوا الوطن مرات، ولم يخجلوا أما الزوجات والأبناء. أما قصائد الغزل فيه فهي في غاية الرقة والعذوبة. تفر القبلات من الفم وتطير في الهواء، ثم تسقط هناك على ظهر العاشقة التي لا تعرف مصير حبيبها الراحل. لكن غواتيمالا مازالت مثل كل الأوطان، بلد الأقمار، والبدور، والغزلان، والصبيان الذين يحلمون بعودة الفراشات السنونوات. لا بد من الربيع حتى بالنسبة إلى الشيوخ والعجائز، فغواتيمالا ليست جزيرة ضائعة في مياه المحيط، بل هي الشعب، والتأريخ، والثقافة، والطقوس، والأديان. حقاً إن البلاد تصبح كريمة وطيبة حينما يتذكرها الأبناء في وحدتهم وهجرتهم عنها، وبعد ألفي سنة من كلام السيد المسيح، مازال الإنسان أتعس حالاً، وأكبر شراً، حتى فقدت كلمة الحب معناها، وهذا هو القدر الانساني. لا مكان للضوء، ولا للفجر إلاّ في قلوب الناس. الحرية كالقمح، لا بد من أن نزرعها بروية، ونسقيها كل يوم،
“تحت قدميّ،
الأوراقُ
مازالت عاليةً،
بتلك السماء!”
تطير اليد فتستقر على صدر غريب، وتبقى الدمعة نازلة كأنها دمعة العذراء مريم. فمتى يعود القمر إلى جباه الأطفال؟ أما السلف الأول الصالح فهو الحب، حب أول عاشقين على الأرض.
لكن هذا الديوان الصغير مفاجأة حقيقية من دار المعقدين، نتيه بين قصائده وكأننا نولد من جديد. يقول الشاعر في كل سطر: ها أنا بينكم.. موجودٌ، أنا أحيا كل يوم!

أحدث المقالات