في القسم الأول من سلسلة المقال هذا ذكرنا قصة شركة الدواء ونحاول الآن المقارنة بينها وبين الحوادث التي مرت في العراق من تغيير وأدارة التغيير. في البداية نود عرض ملخص عن تلك الشركة. أسست أحدى العائلات شركة لصناعة الدواء من الأعشاب البرية ووثق المالك بمجلس الأدارة والمدير، ولكن المدير وحاشيته أصابهم الجشع ولا من رادع. وأستطاع السيطرة على موارد الشركة والتخلص من معارضية بمساعدة شلة من المستخدمين وضعفاء النفوس. ولكن الشركة بدأت تضعف نتيجة لجشع الفلاح وتدخل الشركات الأخرى. فذهب بعض المتضررين لطلب المساعدة من الشركات الأخرى وبالفعل أستطاعوا الأستحواذ على الشركة وترك المالك في فاقة وحيرة من أمره. ولكن عاد الأنتهازيون للسيطرة على الشركة وأنكفأ البعض وتركوا الأمور على عواهنها حتى سيطر المفسدون والسراق على أمور الشركة. وأنتبه المنكفئون وارادوا أصلاح الأمور، ولكن كان الوقت متأخراً، فدب الخلاف والأختلاف والتقاذف بالكلام المباح وغير المباح حتى بيعت الشركة بأبخس الأثمان وجاءت شركة أخرى وسيطرت على كل الأمور فرسمت سياستها لما يلائمها وأزداد التناحر حتى تهدمت الشركة وأصبحت قسمين ضعيفين تتجاذبهما الرياح. العبرة من هذه الشركة هو أن الجشع طبخة للسقوط ووجود الأنتهازيين والمداحين طبخة للطغيان ووجود المنكفئين والخائفين طبخة للضعف والضياع. أن ما حصل في الشركة قبل التغييرهو بسبب جشع المدير ومجلس الأدارة والفلاح وثقة المالك بمجلس الأدارة والمدير، ووجود الأنتهازيين من المستخدمين وبعض الموظفين. أن ما حدث في العراق من تغيير لنظام الحكم وأدارة التغيير يشبه الى حد كبير قصة هذه الشركة.
والآن لنقارن بين أحداث التغيير في هذه الشركة بقضية التغيير في العراق وأدارة التغيير من قبل قوات التحالف والسياسيين الذين جاؤا معهم. ويمكن للقاريء الآن وضع أحجار الشطرنج كل فيما يقابلها ويساويها.
* فالعائلة المالكة للشركة تقابل الشعب العراقي.
* والشركة تقابل العراق.
* وثمارالعشب البري وأوراقه تقابل النفط والماء.
* ومدير الشركة الأول و مجلس الأدارة والمستشارين تقابل النظام السابق.
* والشركة التي أشترت ذمم الموظفين المبعدين تقابل أميركا وحلفاءها.
* والمستخدمون والموظفون المبعدون تقابل المعارضة العراقية قبل التغيير.
* ومدير الشركة الجديد والموظفون والسراق يقابل النظام الجديد.
* والشركة الأخرى التي أتفقت مع المدير الجديد واستحوذت على الأدارة الجديدة تقابل دول الجوار. وبهذا نجد الشبه الكبير بين قصة شركتنا ومالكها المسكين وقصة العراق المسكين.
حدث التغييرفي العراق والكل متفق أن النظام الجديد لم يتمكن من أدارة التغيير بصورة منهجية وعلمية. لا نريد هنا البحث والتنظير والتحليل لما كان قبل عام 2003م وتعليق كل شيء على شماعته، لأنه أصبح من الماضي ولا يمكن تغيير التاريخ ولكن لنأخد العبر. أن وجود الساعين الى السلطة والسيطرة في عراق ما قبل عام 2003 وقمع المعارضين ووجود المنتفعين والمطبلين والشعراء الذين شجعوا على ولادة أنظمة متأزمة ووجود أناس في البلد، أما ممن لا يهمهم ما يحدث وهمهم هو حياتهم اليومية وأعمالهم وعائلاتهم بعيداً عن السياسة وأما ممن خافوا من عواقب الخوض في أمور الدولة والسياسة، ولم ينتبه هؤلاء الى أنهم شاؤا أم أبوا فهم في خضم السياسة وأنهم يتأثرون بنتائجها ولا يؤثرون. أن سعي المعارضة السابقة للسيطرة على الحكم بأي ثمن أدى الى أحداث التغيير ولكنه كان تغييراً كارثياً سواء أن كان مدروساً أو غير مدروس. في مقابلة مع كوندوليزا رايس نشرت بتاريخ 1-11-2011 في قناة اي بي سي الأميركية سألها الصحفي عن الهدف من الغزو الأمريكي للعراق فقالت : “والآن أقول لك أننا لم نذهب للعراق من أجل أن نجلب الديمقراطية للعراقيين، وأنا حاولت في كتابي أن أشرح أنها لم تكن الهدف، كنا واضحين في ذلك، لقد كان الأمر يتعلق بالتهديد الأمني الذي يمثله صدام حسين”. أذاً لا يتعجب أحد لماذا فكت أميركا إرتباطها بالعملية السياسية التي أنشأوها في العراق وسحبوا قواتهم وسلموه لقمة سائغة لدول الجوار، بعد أن كانوا يتفاخرون بها في السنوات الأولى لإحتلالهم. فهنيئاً لك يا شعب العراق.
أتفقت المعارضة العراقية على تغيير النظام وأدارة البلد بمساعدة الأجنبي ولكن لم تتفق على مرحلة ما بعد التغيير. وكان لكل منهم أجندته التي كان يخفيها عن أصحابه في المعارضة وتحيّنوا الفرص للأنقضاض على عملية التغيير وكسب المكاسب وطلب العون من دول الجوار لتنفيذ أجنداتهم دون النظر الى الأضرار التي تسببها هذه الأجندات والسياسات على المواطنين الذين كانوا ينتظرون هذا التغيير بفارغ الصبر. وكان الحكام الجدد همهم الأول سرقة أموال الدولة وتخمة بطونهم وملىء جيوبهم وتقريب أقرباءهم وتعويض سنواتهم العجاف بسنوات من الرخاء الشخصي حتى لو أدى هذا الى سنوات من الدمار للعراق بأجمعه وللمواطن المسكين.
أما أدارة مرحلة ما بعد التغيير فيمكننا الغوص في أعماقها والتعرف على سبب فشل من تصدى للتغيير وكيفية العلاج، ولو أن بعضاً من هذا معروف ولكن لنناقشه بطريقة علمية. فمما لا شك فيه ان أية عملية تغيير سواء في البيت أم في المدرسة أم في الدولة لابد من وجود معارضة لذلك التغيير، فالمعارضة أو المقاومة ليست مفاجئة. والمعارضون قد يفصحون عنها وقد لا يعلنون.
أن مقاومة التغيير بحد ذاته مشكلة يجب على المُغيّر علاجها وأيجاد الحل لها. أن تغيير نظام الحكم هو بحد ذاته مشروع كأي مشروع ولكنه مشروع كبير ومعقد لأنه يتعامل مع شعب وحضارة وعادات وتقاليد ونمط معيشة وثقافة. وهنا نتكلم عن قادة التغيير الذين يدّعون أنهم أنما جاؤا لأجل الأصلاح وارجاع الحق الى مكانه وأنصاف المظلوم، وليس عن قادة التغيير الذين لا تهمهم الشعوب والحضارة والتقاليد والثقافة كالمغول.
لنناقش أولاً مقاومة التغيير. مقاومة التغيير أما تكون بالمقاومة الكلامية والأنتقاد، أو بالمقاومة الأزدواجية النفاقية (أي في النهار معك وفي المساء ضدك)، أو بالمقاومة الفيزيائية (مثلا كالعناد في عمل شيء ما والأضراب، صعودا الى حمل السلاح).
هناك عدة طرق لمعالجة مقاومة التغيير:
1. التواصل والتثقيف بأسباب التغيير، وتكون عند غياب المعلومة لدى الجمهور، وفيها يجب أن تشرح أسباب التغيير والى أين سيتجه التغيير الى آخره. وهذا ينطبق على أميركا حيث أعلنت أن الغاية من التغيير هو نشر الديمقراطية بينما كان الهدف شيء آخر كما وضحنا أعلاه. كذلك لم يستعمل التواصل والتثقيف من قبل النظام الجديد، بل بدأ النظام بفرض القوانين وألغاء ما لا يرغب به كما حدث في ألغاء قانون الأحوال الشخصية من قبل مجلس الحكم أيام عبدالعزيز الحكيم، بل راح الحكيم الى التصريح بان العراق مدين الى أيران بمئات المليارات من الدولارات كتعويض لها لحرب الثمان سنوات ناسياً أن الشعب جائع والكثير يرى أن أيران هي مذنبة بأستمرار الحرب كما كان النظام السابق مذنباً. أما الدستور فالظاهر منه تطبيق الديمقراطية ولكن من كتبه كان له قصد آخر ولذلك أخترق الدستور عدة مرات من قبل السياسيين الجدد ولم يحترم.
2. الدعوة لمشاركة المقاومين في أدارة التغيير، وتكون عندما تكون المعلومة غير متوفرة لدى المقاوم ولديه شكوك والمقاوم قوي.
و تنطبق هذه الحالة على المقاومة التي بدأت سلمية بعد 2003 في مناطق الوسط والشمال والغرب. وكان المقاومون يجسون النبض بالمظاهرات والأعتصامات فيما لو كان النظام الجديد سيتعامل معهم بلطف وتسامح لعودتهم الى الحياة العامة وفتح مدارس الأطفال كما حدث في الفلوجة. ولكن المقاومين قمعوا بالقوة والنار فتحولوا الى العنف وحمل السلاح وخاصة أنه قطعت عنهم رواتبهم، فتحالفوا مع القاعدة للحصول على مايريدون بالقوة.
3. مد يد العون للمقاومين وتسهيل الأمور، وهذا عندما يكون سبب المقاومة هو عدم أستطاعة المقاوم التلائم مع الحالة الجديدة.
ومثال على هذا هو أعتصامات الجماهير في المحافظات بسبب غلاء المعيشة وغياب الكهرباء والخدمات وقلة الأعمال والوظائف لغالبية الشعب الذين لا ينتمون الى الأحزاب الحاكمة فزادت البطالة وشظف العيش. ولكن لم يمد النظام الجديد يد العون لهذه المقاومة وتعامل مع هذه الحالة بقسوة وخداع فحصل النظام على دعم المرجعية الشيعية لمحاصرة المقاومين والتأكد من عدم أنجرار الجماهير لمساندة المقاومة، ثم أستعملت القوة مع من قاوم واغتيل الكثير من الصف الأول من المقاومة وأعتقل الباقون حتى جفت الحماسة وعادت أدراجها يلفها اليأس. ولكن هذه المقاومة لم تنتهي وأنما باقية كالنار تحت الرماد ستشتعل في أي وقت مناسب.
4. التفاوض والوصول الى أتفاق مع المقاوم الذي هو مع التغيير ولكن يفقد شيئاً بعملية التغيير ولكنه قوي. وقد تنطبق هذه الحالة على جماعة الصدر الذين كانوا مع التغيير ولكنهم لم يشتركوا في مجلس الحكم أو حكومة علاوي الأولى و كانوا يريدون حصة كبيرة في الحكم ولديهم قوة مسلحة، كما حصل في النجف حين سيطر أتباع الصدر على المرقد العلوي في مدينة النجف والمرقد الحسيني في كربلاء للأستيلاء على أموال المراقد وحكم الجمهور في تلك المناطق بالقوة وأعدام المخالفين لهم من نفس الطائفة. ولكن أولئك المقاومين قمعوا بقوة السلاح من قبل حكومة أياد علاوي سنة 2004، وبعد اندحار تلك المقاومة وفقدان قوتها أستسلموا للتفاوض للحصول على جزء من الكعكة. ولكنهم عادوا واستعملوا القوة ولكن هذه المرة ليس مع أقرانهم في الحكم بل مع المقاومين الآخرين، باستخدام مؤسسات الدولة وأدواتها التي شاركوا فيها وبمباركة أقرانهم وحلفائهم. وكان هذا في خضم الحرب الأهلية بين الشيعة والسنة في سنوات 2005-2008. فاكتسبوا القوة وعادوا وسيطروا على بعض المحافظات وعزلوا أقرانهم وحلفائهم، حتى شنت عليهم حرب قاسية في عام 2008 في فترة حكم المالكي الأولى، فاضطروا للعودة الى السلم والدخول بالعملية السياسية.
5. التأثير على المقاوم مصحوباً بالتعاون معه، وتكون عندما تفشل الطرق الأخرى أو أنها غالية الثمن وتؤدي الى خسارة فادحة. تنطبق هذه الحالة على المقاومة المسلحة وخاصة في المناطق الوسطى والغربية والتي تدخل الأميركان لكسبهم والتعاون معهم لسحبهم الى العملية السياسية، فتأسست ما يسمى بالصحوات التي قاتلت القاعدة وطردتها من مناطقها بعد أن عجز النظام الجديد على دحرها. فقسم منهم أنتمى الى الأحزاب وأعطي بعض المناصب الصغيرة، وقسم بقي مستقلاً ولكن يستلم الرواتب لقاء حفظ الأمن في مناطقهم. ولكن بعد بدء سحب القوات الأميركية من المدن ألتف السياسيون الجدد على هذه المبادرة ولم يفوا بوعودهم لتشغيل الصحوات ودمجهم بالدولة، بل راحوا لأغتيال قادتهم فنفروا من الحكومة وأصبحوا مقاومة سلمية ولكن لا يضمن أستمرارهم بالطريق السلمي.
6. اجبار المقاوم بالقسر المطلق وغير المتحفظ، وهذا يكون عندما يراد تغييراً سريعاً ومديري التغيير أقوياء. تنطبق هذه الحالة على ملاحقة رؤس النظام السابق وأعتقالهم وأجراء محاكمات مسيسة أنتهاء بأعدامهم وملاحقة أعوانهم حتى بعد أن تخلوا عن العنف وأجراء أجتثاث البعث. والملاحظ أن أجتثاث البعث جرى بطريقة كيدية أنتقائية حتى لمن أنتمى الى الحزب لتمشية حياته والحفاظ على لقمة العيش، بل ذهب النظام الجديد الى القول باجثاث فكر حزب البعث كما قال رئيس الوزراء نوري المالكي بوجوب أجتثاث فكر البعث وكل من يؤمن بفكر البعث حتى وأن لم يبدي منه مقاومة بل مجرد الشك يؤدي الى الأجتثاث، ونسي المالكي أن النظام السابق حاول بشتى الطرق الى أجتثاث أحزاب المعارضة وأفكارها كحزب الدعوة والمجلس الأعلى والحزب الأسلامي والحزب الشيوعي، ولكن باءت محاولاته بالفشل بالرغم من قوته آنذاك. والغريب أن يتعامل بعض الساسة الجدد مع فكر البعث العراقي والبعث السوري بطريقة مختلفة تماماً بالرغم من أن أدبيات حزب البعث ومؤسساته هي نفسها في البلدين.
وهكذا نرى أن النظام الجديد فشل في أدارة التغيير وأرضاء المقاومين كل حسب أسباب مقاومته، وبدل العلاج الصحيح أستخدم النظام الجديد القوة والخداع والنكوث على المواثيق. وهذا قدر العراق والعراقيين فكلما حصل تغيير سُحق الماضي ونُهبت الدولة وبدؤا من جديد. ولم ينظروا الى الشعوب الأخرى كيف تعاملت مع التغيير كجنوب أفريقيا التي تم فيها التغيير بأنسيابية وسلمية وفي ليبيا تم التخلص من القيادة فقط ولكن عفي عمن تعامل مع النظام أو كان جزء منه.
ملاحظة: نرجو الأشارة الى هذه المقالة عند أقتباس اي جزء.