قدما كان الشعور بالإنتماء الى الأرض يرافق أغلب المخلوقات على المعمورة، فنراه جليا في الضواري والسباع في كيفية ذودها ودفاعها المستميت عن عرينها ومساحة الأرض التي تعيش فيها. ومن المؤكد ان مفهوم الإنتماء لدى الإنسان يتخذ بعدا أعمق من باقي المخلوقات، ذلك ان عقله يلزمه على التقيد بقيم ومثل يُلام اذا شذّ عنها ويحاسب ان تجاوز عليها، كما ان هناك مصلحة عامة تحد من تماديه في مصالحه الخاصة. كذلك يتشعب مفهوم الانتماء الى معانٍ أخرى أولها الحقوق والواجبات، فكما لكل فرد حقوق، عليه مقابل هذا واجبات. وعلى ذكر الضواري والسباع والتصاقها بعرينها، أرى أن المثل القائل؛ (كثر الدك يفك اللحيم) أقرب ما يمكن الاستعانة به لتصوير حالات السفر والهجرة من أرض الوطن الى حيث المجهول، والتي صارت عنوانا بارزا لشيب وشباب ظرفنا الحالي، فشبابيك التذاكر تزدحم بالفارين من جحيم العيش في بلد السلام، ومحيطات الأرض ما فتئت تبتلع من ساء حظه في عبورها، بعد أن حلم بالوصول الى الضفة الأخرى حيث الأمان والسلام بعيدا عن دار سلامه المزعوم. أما مخيمات طالبئي اللجوء في مشرق البلدان ومغاربها، فهي الأخرى باتت تكتظ بعراقيين أجبروا على الرحيل عن وطنهم كحل لابديل له، بعد أن ملأ اليأس قلوبهم من العيش بسلام فيه، كأنهم يحاكون بيت الأبوذية لشاعرنا المرحوم سعد محمد الحسن الذي يقول فيه:
ضماير ما تعرت من عرينه
ومثل سيل المسودن من عرينه
الاسد حكه يتكتر من عرينه
لكه اليربوع يردح بالثنيه
الذي يحصل في بلدنا في السنوات الأخيرة من مطالبات بالحقوق، هو في حقيقة الأمر مدعاة فخر وتباهٍ لكل عراقي ينتمي الى العراق حد الإلتصاق بتربته، إذ لو لم يكن المطالب بحقوقه يشعر بأحقية نيلها من قِبل حكومته المحلية والحكومة الإتحادية على حد سواء، وتبادل الأدوار بين الأخذ تارة والعطاء أخرى، لما تظاهر مطالبا إياهما بتوفيرها له. وشعوره هذا متأتٍ من صدق عراقيته وتأصله بها، ولو كان الأمر غير ذلك لتظاهر العراقيون الموجودون في بريطانيا او أمريكا او السويد، وغيرها من أصقاع المعمورة التي ملأها العراقيون خلال العشرين عاما ونيف الماضية لضيق ذات اليد وانحسار سبل العيش واسباب الحياة الآمنة في بلدهم.
الجميع متفق ان هناك قصورا وتعطيلا في كثير من حقوق المواطن، وهو أمر من الممكن استدراكه بشكل يرضي جميع الأطراف، لو تسنى لمفاصل الحكومة وشخوصها -الأمناء حصرا- العمل تحت سقف الراعي لحقوق رعيته، وأداء وزارات الحكومة بشخص وزيرها ووكلائه ومدراء دوائرها ومؤسساتها وهيئاتها بمنتسبيها كافة، لاسيما التي تتعلق بالجانب الخدمي، حينئذ فقط يشعر المواطن أن بلده حقا هو دار سلام وأمان وعيش رغيد، وبذا ينعم الجميع بنيل حقوقهم، ويكون العراق ساعتها دار سلام اسما على مسمى، لاكما يرسم له المغرضون اليوم -كما رسموا له بالأمس- ليكون دار شقاء وعناء وعيش مرير، فينفضّ من حوله أهله الى حيث اللاوطن واللاعودة.
[email protected]