قد يكون مصطلح ” الأعداء ” من اكثر المفردات تداولا بين العراقيين ، انطلاقا من أروقتهم السياسية ، منذ اطاحة الملكية وتأسيس الجمهورية في العام 1958 وحتى اللحظة الحاضرة رغم تبدل الانظمة وتغير الحكومات خلال الحقب المتعاقبة !!!فما حقيقة اعداء العراق الذين شغلونا جُلَّ الوقت ؟ وكم ساهمت السياسة في صناعة الاعداء الحقيقيين منهم والمفترضين ؟ وما حجم الوهم والخداع في هذه الظاهرة ؟ ولماذا الاعداء في الادبيات السياسية والاجتماعية العراقية ؟ وهل أوجدت نظرية المؤامرة عدوا فعليا للعراقيين بتعليقهم لاخطائهم على شماعات الغير وتعطيل الاصلاحات تحت تلك الذريعة ؟ ولماذا الاعداء حتى اليوم رغم تقادم الاحداث والازمنة ؟ .
منذ الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف ثمانينيات القرن الماضي كان العالم ، بمختلف دوله ، موزعا على محورين : الولايات المتحدة ومعسكرها الرأسمالي من جهة ، والاتحاد السوفيتي ومعسكره الاشتراكي من جهة اخرى ، وكانت بلدان العالم الثالث وضمنها العراق حدائق خلفية للتنافس على النفوذ والصراع بالانابة بين هذين القطبين الدوليين . وبسبب غياب الممارسات الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة عن الحياة السياسية في العالم الثالث آنذاك فقد كانت التغييرات السياسية لاتأتي الا عن طريق قوة الانقلابات والثورات كما اقترنت ديمومتها بدعم احد المعسكرين ، في حين تقاس شدة ولاء قادتها بمقدار ابتعادهم عن المعسكر الآخر وعدائهم له .
لقد مثل الخطاب السياسي العدائي التصعيدي أحد أهم اسلحة الثوار والانقلابيين من العسكر ، لتعويض نقص شرعيتهم في السلطة ، وتركيز الانظار بعيدا عن اخطائهم وضعف قدراتهم القيادية في ادارة الدولة ، وبغية تحقيق ذلك كان لابد من المبالغة في توصيف مخاطر الاعداء الخارجيين وحلفائهم في الداخل ، فكان هؤلاء الاعداء خليطا غريبا من قليل من الحقيقة وكثير من الوهم والتهويل ، بل ان حكام الانقلابات ، وللاسباب المذكورة ، قد ذهبوا بعيدا في صناعة الاعداء واستعداء غيرهم ، وقد تم ربط الاعداء في كل مرحلة من مراحل الدولة العراقية بأحد المفاهيم الرائجة او الحاضرة بقوة في وعي ووجدان الجمهور الجمعي ، فقد وصفهم الزعيم عبدالكريم قاسم ب ” اعداء الجمهورية ” بينما تم وصفهم ب ” أعداء القومية العربية ” في الحقبة العارفية ، في حين اطلق عليهم البعثيون وصف ” اعداء الحزب والثورة ” ، وكانت هذه الاوصاف تهدف الى اثارة المخاوف بين اوسع القطاعات من الشعب تبعا لطبيعة كل مرحلة ، لكنها جميعها كانت تلتقي عند نظرية ” المؤامرة ” .
ورغم تغير العالم والسياسة ومفاهيمهما بعد تفكك الاتحاد السوفيتي وانحلال المعسكر الاشتراكي وهبوب رياح التغيير والديمقراطية وسيادة قيم العولمة ، على وقع المعطيات العلمية وثورة التقنيات المتسارعة في مجال الاتصالات والانترنت ، فان نظرية ” المؤامرة ” المرتكزة الى مفهوم ” العدو ” او ” الاعداء ” قد تم توارثها واستجلابها الى الداخل العراقي ، بل وتحديث نسختها بما يتواءم مع واقع مابعد التغيير في العام 2003 .
ان هذا التطور المتقاطع مع منطق المسارات المفترضة يعود الى ان الجزء الاوسع من قوى المعارضة التي جاءت مع التغيير ظلت أسيرة عقلية المعارضة النمطية للنظام حتى بعد وصولها الى الحكم دون ان تتكيف مع المتغيرات والتحديات المستجدة ، وذلك امر طبيعي في ظل احتضان ورعاية دول الجوار ذات الانظمة الايديولوجية ، مثل ايران وسوريا والسعودية ، لفصائل المعارضة الاسلامية بشقيها الشيعي والسني .
الاستثناءات السياسية ذات التوجهات المدنية التي مثلتها حركة الوفاق الوطني العراقي وزعيمها اياد علاوي وبعض الجماعات الصغيرة الاخرى ، والتي ابتعدت عن الخوض في مستنقع المؤامرة المذكور ، لم تستطع ، امام قوة التدخلات الخارجية الاقليمية ، من الحيلولة دون قيام نظام المحاصصة الطائفية السياسية والذي اوجد بيئة خصبة رفدت نظرية المؤامرة بأعداء جدد اطلق عليهم ” اعداء المذهب ” على الجانبين الشيعي والسني .
تحت هذه المخاوف والهواجس من اعداء المذهب تم تحاصص السلطة ، وتوزيع النفوذ والمكاسب ، وفتح المصاريع على النفوذ والتدخلات الاجنبية ، وحماية الخارجين على القانون والميليشيا المسلحة ، ورعاية الفساد ، وتعطيل الاصلاحات ، ووقف انفتاح العراق على محيطه الطبيعي الاقليمي ؛ العربي والاسلامي .
لقد تم تصميم العملية السياسية لتبقى حبيسة نظرية المؤامرة وبما يسمح بتغيير الاعداء وفقا لمتطلبات كل مرحلة ، والملاحظ انه دائما مايتم تعطيل الاصلاحات واجابة المطالب الشرعية والسلمية للجماهير تحت ذريعة وجوب صب الجهود وتوجيهها نحو العدو ، هذا العدو الذي هو دائما من صنيع السياسة او نتاج مخيلتها الشريرة ، وللاسف فان هذه الاساليب ليست جديدة بل ظلت متوارثة عبر عمر الدولة العراقية الحديثة كشماعات لتعليق الفشل الحكومي .
العلاقة التبادلية بين العملية السياسية الراهنة ونظرية المؤامرة ، بما تتضمنانه من تبادل للادوار وتدوير لل ” الاعداء ” وراء اصرار الدكتور اياد علاوي على ضرورة تصحيح التوجهات الخاطئة للعملية السياسية بدء بمبنى هذه العملية القائم على الطائفية السياسية والتمييز بين العراقيين ، ومن هنا فان الدعوة الى حكومة الانقاذ الوطني ، التي اطلقها السيد علاوي ، تبقى لازمة لتحقيق الانتقال الناجز نحو دولة المواطنة المدنية بمؤسساتها الشرعية الحاكمة بعد الفشل في القيام بذلك من خلال المؤسسات الراهنة وبما يعتريها من فساد قاتل .