قادني القدر لزيارة تلك المنطقة المنعزلة والقريبة من الحدود مع إيران صيف عام 1980 وكانت ناقلات عسكرية تنقل الدبابات والمدرعات والجنود الى مايشبه الجبهة، فالحرب لم تبدأ بعد، لكن مظاهر القصف كانت ماثلة على البيوت والقرى الحدودية التي هجرها أهلها الى مناطق أكثر أمنا.
كان والدي قد مات مطلع سبعينيات القرن الماضي ولكنه ترك لنا بعض الإرث، عبارة عن مجموعة من الجمال التي يرعاها شخص يتقاضى المال مقابل رعاية الأبل التي تعود لأشخاص من مناطق مختلفة، وحينها وجدنا ناقة أصابها الجرب وجئنا بها الى القرية القريبة من بغداد، وعالجناها، وكنا نطعمها مادة محضرة من طحين الشعير نصنعها على شكل كرات يتلقفها البعير بشفتيه الكبيرتين، ثم بعنا الناقة وربما البعير الى تاجر الأبل وبنينا بثمنهما غرفتين من الطابوق وتم سقفهما بالأسمنت المسلح.
الحرب بدأت سنة 1980 وأستمرت 8 سنوات، وإنتهت في يوم 8 شهر 8 سنة 88 وكلها دلالات رقمية غريبة، وحتى ثورة الإمام الخميني أسقطت الشاه سنة 1978 ولاأعرف السر في هذا الرقم، وبالمناسبة فعمر الحضارة العراقية 8 ألاف عام، وأبواب الجنة 8 أبواب.. تلك الحرب كانت تمثل الجحيم بعينه فقد طالت حتى ظن الناس أنها لن تنتهي في يوم قريب، ومنهم من كان يتصور أنه سيموت قبل أن يرى نهاية لها، ولم يكن معظم العراقيين مدركين أنها حرب مدفوعة الثمن، فدول الخليج كانت تخاف من المد الخميني الجارف، ومن سياسة تصدير الثورة والخشية من إنتشار التشيع في مناطق عديدة من الشرق الأوسط، وجرى إتفاق مع نظام صدام حسين على وقف المد الثوري الشيعي الذي لم يتوقف بل تأجل، حتى تفجر في العراق والبحرين ولبنان وسوريا واليمن والكويت والسعودية، ومناطق من شمال أفريقيا، وصار المذهب الشيعي مذهب الدولة الحاكمة في إيران وبعد 25 عاما مذهب الحكم في العراق، ولاندري الى أين تتجه سفينة الأحداث، ومتى ترسو وفي أي شاطئ؟
عانينا من تلك الحرب، وحاول صدام تجنب الخسارة المرة بعد أن فوجئ بدول الخليج تطالبه بدفع مافي ذمته من أموال طائلة أنفقت في شراء السلاح وإستيراد الغذاء والمؤن الحربية وإعالة ملايين العراقيين، وقرر أن ينتقم فجرنا الى حرب الكويت الخاسرة، ثم الى حصار خانق أذلنا وحولنا الى هياكل عظمية، وكان في كل ذلك يزيد من عذابات العراقيين ومن حرمانهم ومعاناتهم التي لاتكاد تنتهي حتى تبدأ بشكل آخر أكثر فجائعية، ولم ينته ذلك إلا بدخول القوات الأمريكية في 2003 وماتبع ذلك من فوضى وإنقسام مذهبي وطائفي دفع العراقيون جراءه ثمنا باهظا من أموالهم وأرواحهم وممتلكاتهم ومستقبل أولادهم، وصار الناس يهاجرون كالمسيحيين والأيزيديين والصابئة، عدا عن مواطنين مسلمين من الطائفتين طلبا للنجاة من آلة الموت التي تسرح وتمرح وتجتر الأرواح والأبدان كل يوم على يد العصابات المجرمة والمجاميع التي لايعرف لها أصل ولافصل ولاهوية.
ذكرى الحرب ماتزال تشغل البال وتثير المواجع والأحزان بذكريات أكثر من أليمة.