في سابقة تحصل لاول مرة في مجلس النواب العراقي منذ عام 2003 ظهر السيد وزير الدفاع اما مجلس النواب العراقي لغرض الاستجواب بصورة علنية وعبر وسائل الاعلام . كان واضحا لاي مراقب منذ اللحظة الاولى لدخول الوزير ومن رافقه من اركان وزارة الدفاع ان الوزير لم يأتي خالي الوفاض ولم يأتي للدفاع عن نفسه ووزارته اما اسئلة النائبة التي تقدمت بالاستجواب والتي من المعروف عنها شراستها في توجيه الاسئلة وتسلحها الدائم بوثائق تحاول من خلالها ادانة المقابل . لذلك فقد توقع الجميع بان يكون هناك نزال شرس بين طرفين عرف عنهما الاسلوب الهجومي وعدم الايمان بالدفاع السلبي بين مقاتل تمرس على الاساليب القتالية وحصل على شهادات عليا في العلوم العسكرية وحقوقية تمرست في الطرق القانونية وتحري الادلة والقرائن .
كما كان متوقعا بدأ النزال بهجوم صاعق من السيدة النائبة معززا بوثائق عرضتها امام شاشات الاعلام حاولت من خلاله تحطيم مصدات الدفاع التي تمترس خلفها السيد الوزير وكان الهجوم من القوة بحيث اصبح انهيار جبهة الوزير متوقعا في اي لحظة ولكن هدوء الذي قابل به الوزير تلك الاسئلة كان مفاجيء للجميع وبضمنهم النائبة التي قادت الاستجواب . فبعد ان تمكن الذئب العبيدي من امتصاص الهجمة الاولى قرر ان ينتقل الى الهجوم قالبا الطاولة على الجميع ويجعل من نفسه في موقف المتحكم بالعملية بدل ان يكون خاضعا للسياقات العامة لعمل مجلس النواب مستوعبا بذلك الدرس الذي تعلمه من عملية الاستجواب السابقة التي قادتها النائبة حنان الفتلاوي قبل اشهر ونجا منها باعجوبة اعتمادا على تحالفاته الحزبية . لذلك عمل الوزير على اخذ المبادرة بتوجيه الاتهامات بدلا من انتظار سماع الاتهامات الموجهة ضدة مبتدأ الهجوم ضد رئيس مجلس النواب وهو العنصر المتحكم بسياقات عمل المجلس ومستفيدا من وجود تيار واسع في المجلس لايؤيد رئيس المجلس ليتخلص بذلك من عقبة كبيرة كانت من الممكن ان تحد حريته في الحديث ومجبرا رئيس مجلس النواب الذي لم تسعفه خلفيته الاكاديمية القانونية في مواجهة التكتيكات العسكرية للوزير لينسحب تاركا موقعه لنائبه الثاني السيد ارام شيخ محمد الذي ادار الجلسة بمهنية وحيادية عالية . منح التخلص من عقبة رئيس مجلس النواب للوزير مساحة كبيرة من الحرية في الكلام وطرح مابجعبته من سهام نثرها واختار اقواها ليوجهها لبعض السادة النواب وبضمنهم النائبة المستجوبة كما كان واضحا تمكنه من ادواته بحيث كان يرد على اكثر من نائب في وقت واحد كل حسب اسلوبه وباكثر من طريقة واحده ليخرج منتصرا ولو لفترة مؤقته من جلسة الاستجواب التي توقع الكثيرين ان تكون خاتمه لحياته المهنية والسياسية . بعد هذه الجولة وهذه التكتيكات الهجومية والدفاعية ماذا يمكن ان نستنتج من دروس ؟
في البداية كشفت جلسة الاستجواب ان مجلس النواب العراقي يفتقد للاسلوب المهني في العمل البرلماني بحث نجح الوزير في قلب جلسة البرلمان الى ميدان لتبادل الاتهامات والصراخ والفوضى بعد اقل من ربع ساعة من دخوله الى الجلسة وفقدت رئاسة الجلسة سيطرتها على المجريات بمجرد ان بدأ الوزير بتوزيع اتهاماته ليضطر رئيس الجلسة للانسحاب تاركا ادارة الجلسة لنائبه والذي وان كان قد نجح نجاحا
كبيرا في اثبات مهنيته وحياديته الا انه سمح لجلسة الاستجواب ان تتحول الى جلسة استجواب لاعضاء المجلس بدل من استجواب الوزير .
اشاد العديد من المحللين بموقف رئيس المجلس وانسحابه باعتباره دليل على الخلق العالي والحكمة ولكن مع الاحترام لرئيس المجلس وشهاداته العلمية فان تصرفه هذا اضعف جبهة المجلس كثيرا واخرج الجلسة عن سياقها فمن المعلوم بان موقعه كرئيس مجلس النواب يجعله مسؤولا عن ضبط النظام داخل الجلسه حسب ماجاء في النظام الداخلي للمجلس وانسحابه غير المدروس اخل بهذا النظام . قد يقول البعض بان انسحاب رئيس المجلس كان نتيجة للاتهامات التي وجهها الوزير مباشرة الى شخص رئيس المجلس ولكن هذا العذر بالتحديد هو الاساس الذي يحمل الرئيس نتيجة ماحصل من اختلال في عملية الاستجواب , حيث كان على الرئيس ان لايسمح لوزير بالخروج عن سياق الاجابة عن الاسئلة التي وجهتها السيدة المستجوبة لتوزيع الاتهامات بغض النظر عن صحة تلك الاتهامات من عدمها وكان على السيد الرئيس ان يفهم الوزير بعدم السماح له بالخروج عن نطاق الاجاباتولكن في سعي الرئيس لاثبات مهنيته اضاع الضبط داخل الجلسة ومانحا الوزير المجال للانتقال من الدفاع الى الهجوم .
الدرس الثاني الذي ظهر واضحا خلال عملية الاستجواب هوالقدرة العالية التي كان يتمتع بها السيد وزير الدفاع في معرفة التركيبة السياسية والنفسية لاعضاء المجلس . فقد ظهر السيد الوزير مستوعبا للدروس التي افرزتها عملية الاستجواب الاولى التي قادتها النائبة حنان الفتلاوي ومعرفته بان نجاته من الاستجواب الاول كان نتيجة للتحالفات والخلافات السياسية داخل المجلس في ذلك الحين والتي دفعت النواب للتصويت على عدم سحب الثقة من الوزير رغم شدة وشراسة الهجوم الذي قادته الدكتورة حنان . فبعد ان طالبته بعض القوى الداعمة له بعد عملية الاستجواب برد الجميل وامتناعه ادرك بانه فقد تاييد تلك التحالفات وان جلسة الاستجواب الثانية كان من المخطط له ان تكون القاضية على مستقبله المهني والسياسي والتي ظهرت اولى ارهاصاتها في جعل جلسة الاستجواب علنية بعد ان اصر حلفائه في الجلسة الاولى على ان تكون الجلسة سرية بدعوى المحافظة على اسرار القوات المسلحة الا ان سعي الحلفاء لتعرية الوزير والقضاء على مستقبله جعل ذريعة المحافظة على اسرار القوات المسلحة تتلاشى .
الدرس الثالث ان اختيار النائبة عالية نصيف لتوجيه الاستجواب لم يكن موفقا بالرغم مما تتمتع به من حدة في الهجوم وقدرة على التسلح بالوثائق التي تدعم اسئلتها واتهاماتها الا ان دخولها في صراعات مع مختلف القوى الممثلة داخل قبة المجلس افقدها القدرة على التركيز على الاستجواب وافقدها دعم بقية الاعضاء . وقد نجح الوزير في استغلال الضغط العصبي والنفسي الواقع على السيدة النائبة ليدفعها بدلا من التركيز على الوثائق التي تملكها واللجوء الا اطلاق الفاظ خارجه عن سياقات العمل البرلماني السياسي ليمنح لنفسه فرصة استغلال الفوضى التي حلت بالمجلس ليتحول من متهم الى ادعاء عام يوجه التهم يمينا ويسارا جالبا المزيد من الفوضى الى الجلسة .
الدرس الرابع كشفت جلسة الاستجواب حدة الخلافات بين الكتل التي تظهر للعلن بانها متحالفة ولكن بمجرد ان القى الوزير اول حجر في المياه الراكدة ظهرت للعلن الخلافات النابعة من دوافع شخصية فراينا ان بعض النواب بمجرد ان تم ذكر اسم احدى النائبات يقفز ليستغل الفرصة لتصفية حساباته القديمة مع تلك
النائبة ضاربين عرض الحائط كل الاتهامات والوثائق التي قام الاستجواب من اجلها مطالبين بتحويل الامر الى محاكمة لتلك النائبة وكذلك الامر بالنسبة لبقية الاسماء التي وردت على لسان الوزير . ان نظرة واحدة للابتسامة التي كانت تتسع على وجه الوزير كلما ثار وتصايح السادة والسيدات النواب كانت تبين ان الوزير قد نجح في جعل النواب يتراقصون على النغمات التي كان يعزفها كما يشاء .
كانت ردود افعال بعض النواب على كلام الوزير كاشفة لمدى ضحالة الثقافة السياسية والبرلمانية لاولئك النواب فبدلا من تضييق الخناق على الوزير لدفعه الى الاجابة على الاسئلة الموجهة له من النائبة المستجوبة لجاء البعض منهم الى الصراخ والشتائم والوقوف والتحرك لاظهار قوة النفوذ دون احترام للسياقات العامة للعمل البرلماني متلفظين بالفاظ اقل مايقال عنها انها خارجه عن حدود اللياقة .
كان اخطر ماكشفت عنه عملية الاستجواب هو وجود اشخاص داخل قبة البرلمان تحت مسمى المستشارين يلعبون دورا واضحا وخطيرا في توجيه دفة العمل داخل المجلس ويديرون سياسات عمل المجلس البعض منهم نواب سابقين لم يمنحهم الشعب ثقته فمنحهم السيد رئيس المجلس بركته ليبقوا متنعمين بمزايا النيابة ومنافع العيش داخل المنطقة الخضراء بالاضافة الى وجود تجار يعملون داخل المجلس بصفة مستشارين ايضا (بدون راتب ) وكأن مزايا العمل في مجلس النواب تقتصر على الراتب فقط … وهؤلاء (المستشارين) يلعبون دورا خطيرا في التاثير على عمل اعلى سلطة في البلد وهي السلطة التشريعية .
كشفت جلسة الاستجواب عدم ثقة المواطن بنوابه الذين من المفترض ان قد انتخبهم بانتخابات حرة ونزيهة وديمقراطية الا ان مجرد ان نطق السيد وزير الدفاع بما في جعبته من اتهامات وقبل ان تثبت صحة تلك الاتهامات من عدمها فقد تحول الوزير الى بطل شعبي تدبج القصائد في مدح شجاعته ونزاهته ووصلابته في وجه الفاسدين .
بعد كل ماسبق تبقى الان الكرة في ملعب هيئة النزاهة والقضاء العراقي للتحرك من اجل التحقيق في ماورد في جلسة الاستجواب لرفع البلبلة التي اصابت الشارع العراقي من غير انتظار اجراءات المجلس في التحقيق ورفع الحصانة والتي تخضع للتوافقات السياسية فالمادة 63 من الدستور منحت اعضاء مجلس النواب حصانة عن إلقاء القبض والتوقيف والحكم وليس عن التحقيق وهنالك فرق بين التحقيق وبين اصدار قرار بالقاء القبض او التوقيف او الحكم وحسنا فعل الادعاء العام العراقي عندما قام بتحريك شكوى ضد من وردت اسماؤهم على لسان الوزير استنادا الى قانون الادعاء العام ومعتبرا الوزير شاهد وليس مشتكي وبهذا فقد اثبت الادعاء العام مهنية واضحة في هذا الموضوع فلو تم تقديم الوزير باعتباره مشتكيا لاصبح في موقف ضعيف لانه سيكون منفردا في مواجهة حيتان الفساد ولكن دخول الادعاء العام عزز من امكانية حركة الادعاء العام والقضاء في التحري والتحقيق وجمع الادلة . بهذا تصبح الاجهزة القضائية والهيئات المعنية بمكافحة الفساد الاداري امام امتحان خطير لاثبات قدرتها على التصدي لهذا الملف الخطيرفيجب ان يكون هناك فاسدا اما الوزير او من ذكرهم بالاسم والصفة وسوف تكشف الايام عن الحقيقة ونحن من المنتظرين .