(حسين) طفل من الحويجة، نزح قبل يومين الى ديبگة – منظره وهو حافي القدمين يبعث في النفس شعوراً بالخجل – راودني احساس بأني المسؤول عن وضعه المأساوي في المخيم.
سألته ما أسمك ؟؟
فأجاب: حسين
حسين اسم جميل يذكرني بما حدث لسبط رسول الله الحسين “عليه السلام” وهو يقطع الصحراء متجها الى ارض الكوفة، تلك الرحلة التي انتهت بموته عطشاً مقطع الاوصال، قلت له.
أعطيت حسين “الشكولاتة”، فتناولها من يدي بلهفة وفرح بدت واضحة على وجهه المشعث بتراب المخيم، ثم مضى راكضاً الى أقرانه يخبرهم بهديته الثمينة “الشكولاتة”، وأنا أشيعه بنظراتي.
عدت الى الزملاء في قافلة المشروع العربي في العراق التي دخلت معها مخيم ديبكة للمشاركة في توزيع الملابس والطعام وبعض المستلزمات المنزلية الضرورية.
دعوني أحدثكم عن مخيم ديبكة، فهو بإختصار كتلة من الخيام المحشوة بالنازحين، أطفال ، نساء، شيوخ، شباب وبعض من مريدي الخير المحسنين.
الزنزانة الكبيرة، تلك التي تدعى المخيم تنتظم الخيام. في كل خيمة أسرة، لكل أسرة قصة ومع كل قصة غصة. ديبگة يقع في صحراء تبعد عن أربيل عشرات الكيلومترات، زرناه في الحادي عشر من سبتمبر، والذي وافق يوم عرفة. زرناه لنقدم لهم ما يلزمهم للعيد، لندخل السعادة الى قلوبهم. مضيفونا في ذلك اليوم كانوا ٧٠٠ أسرة، نزحت من الشرقاط والقيارة والگوير، وكأن لسان حالهم يقول (ياضيفنا لو زرتنا لوجدتنا : نحن الضيوف وانت رب المنزل)!!!
من منا لم ير مناظر كأيبة كهذه، من منا لم يسمع عن المخيمات والنازحين فيها؟ بكل تاكيد لا أحد؛ فهم حديث الساعة ومأساة العصر وجرحٌ يأبى أن يلتئم، كلما حاولنا لملمته أتسع ! أنا سمعت عنهم وشاهدت، وزارهم أكثر المصورين إحترافاً وأعظم الكتّاب لكن لم يجيدوا ايصال الكثير؛ ولطالما هزتني تلك الصور والقصص،
لكنها مع أولى خطواتي في المخيم برفقة زملائي من كوادر المشروع العربي في العراق تقزمت اصبحت لاشيء وأنا أقارنها بما لمسته هناك! بالتأكيد شاهدتم صور أطفالٍ يتزاحمون حول قافلة المساعدات التي تدخل مخيمهم.. صرخات أولئك الأطفال كانت تقطع نياط القلب. قلبي الذي كان يكاد يفلت مع كل هدية أقدمها لهم. كيف لي أن أصف لهفتهم لأبسط الأمور التي جلبناها؟ تلك التي لم نظن أنهم سيلقون لها بالاً! وكيف لي أن أصف مشاعرنا تجاه ذلك؟ حتى قلوبنا الصلبة كرجال أهتزت هناك، كنا نبكي حالهم، وكان من الصعب أن نقاوم. وانا أقدم الحلوى لحسين .
لا أعلم كيف أصف تعس الحياة هناك، بل لا أدري هل من العدل أن تسمى حياة!! الأراضي الجرداء التي تحيط المخيم، تجعلك تحس أن واقعاً مريراً يقبع خلف تلك البوابات والأسوار. وما إن تدخل المخيم حتى تتحقق أحاسيسك؛ يبدوا كل شيءٍ فقيراً مريضاً هزلاً وهشاً خلف تلك البوابة.بوابة الدخول إلى المعاناة!
وداخل قطعة الجحيم تلك لا يعيشوا حياة مأساوية فحسب، بل وصلوا لتلك المأساة بشق الأنفس؛ إثر مشقة الدرب ودخان الحرب وجحيم الغربة ، فمن مناطقهم إلى مخيمات النزوح كان الطريق وعراً مجازاً! ووصولهم إلى جحيم ديبكة كان بحد ذاته معجزة؛ عوائل كثيرة هلكت على الطريق جوعاً، عطشاً ومرضاً. الأسر التي وصلت لم تصل كلها مكتملة؛ جزءٌ أتيحت له النجاة وجزءٌ لم يصل، ظل عالقاً في أرض ما يسمى دولة الخرافة !! والذين لم يعرف مصيرهم هل ما زالوا أحياءا ام لا ؟؟.
أسرهم تجهل مصيرهم! أنها أسر هربت من النزاع ، أرادوا النفاذ بحياتهم وأن يناموا ذات ليلٍ مطمأنين. لكنهم لم يجدوا الحياة بعد، ليس مخيمهم أكثر من محطة، محطة لا تصلح حتى للإنتظار، لكنها كتبت لهم النجاة من القصف والرصاص وما زال الجوع والمرض والحر يهددهم، وقريباً سيسلط البرد سلاحه عليهم.
ففي بعدهم عن مدنهم وقراهم لامجال للدراسة؛ حيث لا مدارس في المخيم ولا قدرة لطلبة الجامعات على الإلتحاق بجامعاتهم. كلهم يحلمون بالعودة لاستئناف حياتهم، إنهم لا يحلمون بأكثر من حياةٍ كحياتهم القديمة تلك التي سلبها الإرهاب منهم، وعجز العالم عن أستعادتها لهم. ربما لم تمنحهم الكثير لكننا قدمنا ما بإستطاعتنا لنسعدهم. رأينا شبح البسمة على شفاههم تلك التي يبدوا أنها غادرتهم منذ أن غادروا ديارهم.
ومع هذا كله يواجهون خيبة امل ولا مبالاة ممن يمثلهم في الحكومة .