19 ديسمبر، 2024 12:19 ص

يُذكر في الرواية أنّ علي ابن ابي طالب حين اقترب منه الموت، بحث عن انسان يـُودع فيه اسرار الخليقة التي خصه بها الله وختم عليها في قلبه، فلم يجد احدا لحمل تلك المهمة الجلل.
فالتجآ الى “ارض المياه التي ينبت فيها القصب”. ركبَ قاربا ومضى به  حتى بلغ لجة الظلام، ثم القى بتلك الاسرار هناك، حيث شربتها المياه وارتوى منها القصب.
لم تقل الرواية شيئا عن طبيعة تلك الاسرار او محتواها. بل اكتفت بقولها: ” لا يقدر على حملها احد من البشر.
ثم تضيف الرواية: لهذا تسمع ناي القصب فتشعر كأنه يقول شيئا ما٬ بل اسراراً كثيرة دون انْ نقدر على فك شفرتها. ذلك انّ اللاكتمان صفة جوهرية في اي سرّ، حسبَ ما يرى في “المقابسات” جدنا المغمور ابو حيان التوحيدي. 
ربما لهذا يختلف صوت الناي عن اية الة موسيقية اخرى. إنه اقرب الى صوت الانسان منه  الى صوت الآلة.  كأنه يريد انْ يتكلم وانْ ينطق بلغة البشر وانْ يقول قولا، ” لولا مخافة الله”. 
تغلبُ على صوت الناي مسحة الانين والحزن. كأنه نشيج امرأة تأن وحيدة في ليل موحش وحيد. يعزو جلال الدين الرومي سبب ذلك الانين والحزن الى اشـتياق القصب الى منبته الذي اقتطع منه. مَثـَـله مثلُ الانسان الذي فارقَ المنبع الاول حين أ ُهبط به الى الحياة لكنه ظل على الدوام يحنّ الى العودة الى ذلك الاصل الذي نزلَ منه.
ثم يعقد صاحبُ شمسَ مقارنة لطيفة بين الناي والانسان – كلاهما مجوف وفارغ. اذ يكمن سر القدرة على الكلام، والحديث مايزال له، في التجوّف. فلو لم يكن الناي مجوفا لما وسِعه انْ يقول شيئا، ولكانَ اشبه بحجر ممتليء بصمت ابدي.
كذلك الانسان، فلو لم يكم مجوفا ايضا لما تمكن من الكلام. التجوّف بمعنى عدم الامتلاء بمعرفة اليقين في الاسئلة الدهرية الثلاث: من هو ؟ من اين جاء؟ والى اين نمضي؟.
يضيف شاعر الفرس العظيم في تشبيه الانسان بالناي: اضافة الى مفارقة المنبع والتجوّف، فانّ كلا منهما يحمل سبعة ثقوب. لعلّ المرأة اكثرُ من الرجل ثماثلا مع الناي. اذا اعتبرنا الانف فتحة واحدة.
لابدّ من الاشارة هنا الى أنّ فيلسوف الصين القديمة ومؤسس الطاوية لاو زه (100 ق م)، قد وضّح ايضا أنّ الحكمة ترقد في التجوف والفراغ، حيث الاشياء المجوفة وحدها القادرة على احتواء واستقبال اشياء جديدة فيها. فلولا فراغ الكأس لما حملَ شيئا. بينما الامتلاء غير مجدٍ، اذ لا يسمح باضافة ايّ شيء اليه. تلك علامة موت.
ليس من شيء يجعل الانسان ممتلئا وساكنا ومستقرا كالعقيدة او الايديولوجيا، وليس من شيء يجعل الانسان فارغا ومجوفا ومتحركا وحائرا كالشك، الذي هو غياب اليقين. و” قد افلحَ من حارَ” كما يرد في حديث نبوي. او كما يقول ابن عربي “سبعون شكاً خير من يقين واحد.
يأتي الشكّ من الجهل الذي يأتي من المعرفة والعلم. فـ “كلما قويت في العلم قويت في الجهل”- النفري.  
يتكلم الناي لانه مجوف، كذلك الانسان.
لكي تعرف شعبا ما، لا بدّ انْ تعرف ناياته. اسراره وهويته في ناياته. معرفة مخضبة بنشوة وحزن. صفة ملازمة لكل الفنون.
لكنْ اينَ هو القصب الآن، واين ناياته. بلْ اين برديه ومشاحيفه وطيوره وحيوانه وانسانه. غبار في الريح ورماد في العيون، بعدَ انْ شربتْ مياهه… افعى الصحراء.
Facebook: Fadeel Kayat