23 نوفمبر، 2024 4:36 ص
Search
Close this search box.

العلمانية: النموذج الأمريكي

العلمانية: النموذج الأمريكي

في الجزء الأول من هذا المقال عن العلمانية (الذي نشر هنا في “كتابات” في 17 أيلول 2016) بينا معالم النموذج الفرنسي والذي أتصف بإنهاء سيطرة الكنيسية على الدولة، فإنهيت سيطرة الكنيسية الكاثوليكية أولاً لأنها هي التي كانت اليد الطولى على الكيان الإجتماعي. وكان للنموذج الفرنسي تأثير بالغ تطبيق العلمانية في الشرق. هنا سوف نلقي الضوء على النموذج الأمريكي للعلمانية.
التجربة العلمانية في الولايات المتحدة مختلفة تماماً عن التجربة الفرنسية أو الشرقية، وهذا نابع من طبيعة التركيية الإجتماعية للنشوء التاريخي لنظام الحكم في إمريكا. فالولايات المتحدة قامت على هجرة المجموعات الدينية المختلفة من أوربا، والكثير منها كانت مضطهدة في الممالك والإمارات المتصارعة. وفي تلك الحقبة الزمنية من تاريخ أوربا نشبت الحروب الدينية بين امراء الكنيسية الكاثوليكية وبين مناوئيهم الآخرين من الذي اعتنقوا المذهب البروتستانتي. وكان المهاجرون الأوائل الى القارة الجديدة من بريطانيا والذي كان ذلك الصراع الديني فيها على أوجه وأصبح صاحب العرش الإنكليزي رئيساً للكنيسة الإنجيلية، وغير تابع للبابا الكاثوليكي. كان المهاجرون لأمريكا يشملون المنشقين عن الكنيسة وكذلك المتشددين بالمسيحية وكان معظمهم من البروتستانت الهاربين من الاضطهاد الديني ومن المذهب الأنجليكانية التي تزعمه ملك إنجلترا. وهؤلاء هم مجموعات دينية ملتزمة، وكان يطلق عليها (الپيورتونز) اي الأصلاء أو –المطهرون، في مصطلحنا- الذين يدعون للعودة الى الدين المسيحي الأصيل، غير المشوه بتأثير تفسيرات الكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين فيها، أو التحرر من تأثير الدولة ورجال السلطة. فتلك المجموعات كانت تواقة الى الحرية الدينية بدون قيود الحاكم المستبد. فعلى الرغم من خلفياتهم المذهبية المتعددة، إلا إنه كان هنالك توجه مشترك فيما بينهم ألا وهو الإيمان بالتسامح الديني وحرية الفرد بممارسة طقوسه الدينية بما يملي عليه دينه ومعتقده (مع أن الإحداث التاريخية لم تسير على هذا النهج في الكثير من حالاته).
فهاجرت العديد من تلك الجماعات الدينية الأوربية في وقت مبكر إلى أمريكا، وأزدادت أعداد المهاجرين الوافدين للقارة الجديدية خاصة بعد الحرب الأهلية الإنجليزية والصراع الديني في فرنسا وألمانيا. فقام المجتمع الأمريكي الجديد
على تأسيس كنائس حرة (بمعنى فرق دينية بروتستناتية متعددة ومستقلة عن بعضها البعض) غير تابعة لسلطة سياسية أو دينية. وبهذا يمكن القول بأن القاعدة الإجتماعية للشعب الأمريكي تواقة لحرية العقيدة الدينية وعدم تدخل الدولة في الشؤون الخاصة للفرد والكنيسة التي ينتمي لها. فهناك بالفعل إيمان مبدئي له جذور تاريخية عميقة بمبدأ “الفصل بين الكنيسة والدولة.”
ومفهوم “الفصل بين الكنيسة والدولة” هو عبارة استخدمها توماس جيفرسون والتي أدخل فحواها في التعديل الأول للدستور الأمريكي والتي تنص على أن: “لا يصدر الكونغرس أي تشريع يجيز إقامة دين من الأديان أو يمنع حرية ممارسته.” والقصد من هذا الشرط (العلماني) هو الحد من سلطة الحكومة الاتحادية فيما يتعلق بالشؤون الدينية وضمان حرية الدين لمواطني دولة الولايات المتحدة جديد العهد. وقد إستعار جيفرسون هذا المفهوم (الذي أصبح أساس الفكر العلماني في العالم أجمع) من القسيس روجر وليامز مؤسس أول كنيسة معمدانية في أمريكا، والذي دعى فيه في عام 1644 الى إنشاء جدار عازل يفصل بين جنة الكنيسة وغابة العالم (أو بين حديقة الكنيسة وبرية العالم). هذا الفكر الديني في الولايات المتحدة هو الذي أقام دعامة الحرية الدينية وحصن الكنيسية وضمن حرية العبادة لجميع أتباع المذاهب والأديان هناك وصانها من تدخل الدولة في الشؤون الدينية للمواطن.
وعلى أساس هذا المفهوم الديني، إشترطت المادة السادسة من دستور الولايات المتحدة بأن لا يكون هنالك بتاتاً “إمتحان ديني” كإحدى المؤهلات لتولي أي منصب رسمي أو مسؤولية عامة في الدولة. بمعنى ضمان أن لا يكون هنالك محاصصة دينية (أو مذهبية، كما هي عندنا الآن) في تولي المناصب الحكومية.
إن مصطلح “العلمانية” لم يشار اليه سواء في الدستور أو في أي مكان آخر في الوثائق الرسمية التاريخية للدولة، ولكن المفهوم العام للعلمانية في المجتمع الأمريكي أو الممارسة الرسمية للدولة تقوم على مبدأ عدم تدخل الدولة (بسلطاتها التشريعية والتنفيذية) بــ “حرية ممارسة” الدين أو حتى المساس به، وتحضر على الكونغرس أن يحدد ديناً معيناً رسمياً للدولة. فتفسير المحكمة العليا الأمريكية لمبدأ “الفصل بين الكنيسة والدولة” يقوم على ثلاثة مفاهيم رئيسة: أولاً، لا إكراه في المعتقدات الدينية، أي لا يمكن فرض عقيدة دينية خاصة على المواطنين؛ وثانياً، حق الحرية الدينية يشمل جميع الأديان والمذاهب، بمعنى أن المواطنين أحرار في اعتناق أي عقيدة دينية (أو رفض الإيمان بأي أحد منها)؛ وأخيراً، عدم دعم الدولة – المالي أو المادي – لأي كنيسية أو مذهب ديني معين، فالمعونات للمراكز الدينية عليها
أن تكون طوعية من قبل المؤمنين، وأن جميع الأديان سواسية في نظر القانون دون تفضيل خاص أو محاباة أو إستثناء. والتطبيق العملي لهذه المفاهيم هو أن التشريعات والسياسات العامة للحكومة: عليها أن تكون محايدة تجاه كافة المعتقدات والأديان، وأن لا تكون مانعة لإتباع دين معين أو معارضة له، وأخيراً أن لا تؤدي الى “التورط المفرط” للدولة بالدين. فهناك مثلاً عطلة رسمية للدولة في موعد ميلاد سيدنا المسيح، ولكن هذا حاصل لأنه جزء من الثقافة العامة للغالبية العظمى للمجتمع الأمريكي، كما وأن هنالك فريق كامل من رجال الدين من جميع الطوئف ضمن مراتب الجيش الأمريكي لتقديم الخدمات الروحية للجنود، ولكن هذا لا يُعدّ “تورطاً مفرطاً” لتدخل الدولة الأمريكية في الدين لأنها تقدم خدمة ماسة وضرورية لأفراد القوات المسلحة.
فالعلمانية في جوهرها لا تعني منع أو عزل الحضور الديني في مجال السلطة والحكم، ولكنه في النموذج الإمريكي يسير بالاتجاه المعاكس تماماً، بما يعني غياب التدخل الحكومي في الشؤون الدينية، لا سيما حظر نفوذ الحكومة في تحديد الدين والتأثير على معالمه والتدخل في شؤونه. فرؤية أشهر دعاة العلمانية في إمريكا، جيفرسون (الرئيس الثالث لأمريكا)، لا تجعل من العلمانية مانعة للتأثير الديني في السياسة ولكنها تحظر تأثير الدولة على شؤون الكنيسة، بمعنى أنها ليست فصل الدين عن السياسة – كما هو مشاع عنها بيننا. فجيفرسون كان يرغب بأن يكون القائد أو الحاكم ملتزماً بالقيم الإخلاقية المسيحية حتى لا يستغل المسؤول في الدولة منصبه لإهوائه الشخصية ولا يعيث بالأرض فساداً، فإذا تولى المنصب ذلك الزعيم الذي لا يحمل تلك القيم فإنه يسعى في الارض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل – بإستعارة التعبير القرآني. كما أن العلمانية في مغزاها هي ليست محاربة رجال الدين، وإنما هو مبدأ يعارض نشاطهم وتأثيرهم في الدولة فيجعلوها تنحاز لمذهب أو توجه ديني معين. والدولة الحديثة كما هو معلوم إنما هي مجموعة أمم مختلفة وشعوب متنوعة يعتقدون بعدة أديان ومذاهب وينحدرون من أعراق وأصول شتى، وجاءت العلمانية لتحد من تأثير دين ما أو فرض مذهب الأغلبية الدينية على جميع المواطنين ممن لا يؤمنون به. وهذا الدين أو المذهب إنما يروج له رجال الدين، فجاءت الفكرة بتحديد نشاطهم في التأثير على السياسات العامة للدولة حتى تكون عادلة لجميع مواطني الدولة. فالتشريعات والسياسات العامة للحكومة عليها أن تخلو من الخصوصيات الدينية أو غيرها حتى تضمن معاملة أي مواطن على قدم المساواة مع جميع المواطنين الآخرين.
وعلى هذا المضمون والمعنى، يمكن أن تكون العلمانية بإنموذجها الإمريكي هي الحل للصراع المذهبي الديني التي يواجهنا في الوقت الحاضر (في العراق وفي الشرق) بعد عهد داعش وإشتعال الحرب المذهبية في المنطقة بأسرها. فضمان وجود الدولة المدنية الحديثة عندنا والتي بإمكانها أن تواكب العصر (أو بالأحرى ضمان حياة المواطن وحريته وحفظ مصالح الناس أجمعين) إنما يتحقق بإقامة هذا “الجدار العازل بين المسجد والسلطة” حتى نمنع تدخل الدولة في الشأن الديني للمواطن ونُحصِّن الدولة من تأثير رجال الدين وهذا من أجل خدمة جميع المواطنين على السواء. فالدين هي علاقة خاصة بين المواطن وربه، ونترك للقائمين النزيهين والقادرين والأكفاء على الدولة بتمثيل مصالح الناس كلهم جميعاً من خلال إقامة العدالة الإجتماعية ودفع عجلة التنمية الإقتصادية. وهذا ما نظَّر له السيد محمد باقر الصدر من خلال تميزه ما بين علاقة الإنسان مع ربه عن تلك العلاقة التي تربطه مع أخيه الإنسان وعلاقة الإنسان بالطبيعة.
فعلينا أن لا نسمح للدولة أو لسلطان حاكم أو لزعيم نافذ بأن يتدخل في الشؤون الدينية، لأن العراق فيه من الأديان المتعدده، ومن المذاهب المختلفة، سوف لن تقوم له قائمة إلا بمعاملة الجميع بالمساواة في الحقوق والواجبات، وأحدى الضمانات لتحقيق هذا هو عن طريق العلمانية. فالعراق عبر التاريخ كان مصدر جميع المدارس الكلامية والفلسفية ونواة المذاهب الفقهية والطرق الصوفية، ومهد الديانات الإبراهيمية والزرادشتية، وملتقى القوميات المتصارعة والحضارات المتباينة. ومن هذا عاش على أرضه كل هذا الطيف الواسع والتنوع المتعدد لمؤمني الأديان والمذاهب المتفرقة قديماً وحديثاً.
وإذا إردنا ضمان التعايش في دولة واحدة مسالمة فإن العلمانية هي الضامن الأساس لهذا التعايش المدني الحديث الذي يحفظ لكلٍ ذي حقٍ حقه. ومن خلالها يمكننا القضاء على المحاصصة المذهبية والإضطهاد الديني لنتوجه بعدها لإنهاء الصراع الطائفي والتنافس القومي والعرقي. فمن له الحق بسيادة هذه الدولة بدون أن يتعهد للآخرين بأن يكون النظام السياسي محايداً مع جميع المواطنين وضامناً لكل الفرق والنِحَل التي ينتمون اليه. فبالنسبة للشيعة، هنالك تخوف كبير من أن تضطهد الدولة حقوقهم في إقامة شعائرهم الدينية أو سيطرة الحكومة على شؤون مرجعيتهم الدينية أو حجر معتقداتهم المذهبية، فكان هذا الدافع الرئيس لإنتخابهم الإتلافات الشيعية والشخصيات المذهبية التي إعتقدوا بأنهم يمثلون مصالح المذهب ويضمنون لهم ممارسة شعائرهم الحسينية. أما السنة فليس لهم رغبة في سيطرة الأغلبية الشيعية على كافة مقاليد الحكم والدولة في العراق، وإن يصبحوا على الهامش في الحياة السياسية وهم الذين حكموا العراق
وسادوا دولته الحديثة، فجاءت ردة الفعل على فضاعتها برفع داعش شعار المحافظة على وجودهم وكيانهم. والأكراد الذين لاقوا الويلات من ظلم وتعسف الدولة المركزية الحديثة والتي وصلت الى أعلى درجات تعسفها في حملات “الأنفال” ذات المسحة الدينية لا يمكنهم قبول الإنتماء لأي حكم أونظام سياسي جامع بدون المشاركة الفاعلة في صناعة القرار فيه. أما بقية الأقليات الدينية-العرقية فحدث ولا حرج، فلا يمكنهم العيش بعد الآن في دولة عراق ما بعد داعش (الذي لغى وجودهم على أنهم أهل ذمة وكفار) بدون ضمان الحياة وحفظ الأمن وصيانة الحقوق لهم أولاً على أرض الرافدين، وهو وطنهم الذي عاشوا فيه لآلاف السنين، وهم يشهدون بيع نسائهم في أسواق النخاسة في نينوى وغيرها، وإلا فإن إنتهاء وجودهم محتوم وأبواب الهجرة من مهد آبائهم مفتّحةٌ لهم، وكأنهم يسيرون على خطى يهود العراق الذي أُنهي وجودهم بين ليلة وضحاها بعد أن عاشوا فيه منذ الزمن الإبراهيمي والبابلي وكتبوا على ضفاف فراته الأغر توراتهم وتلمودهم.
فعلى الدولة في العراق أن تنحصر فعالياتها ضمن: ترسيخ مبادئ المواطنة بين أبنائها وإفشاء القيم الإنسانية-الإخلاقية بينهم؛ وضمان الأمن والحقوق في تطبيق العدالة الإجتماعية وإرساء دعائم التنمية الإقتصادية لمواطنيها؛ وأن تترك الدولة علاقة الإنسان بربه علاقة روحية مستقلة بحتة يعتقد المواطن من خلالها بما شاء، وتضمن الدولة حقه في ممارسة عباداته وشعائره بما يملي عليه دينه ومذهبه ومعتقده وضميره، وأن لا يتدخل رجال السياسية في تحديد طبيعة تلك العلاقة الدينية بأي شكل من الأشكال وتحت أي ظرف من الظروف.
وهذه هي العلمانية، فكرة دينية بحتة لحفظ الدين من كيد الظالمين وعبث المفسدين.

أحدث المقالات

أحدث المقالات