ربما نختلف في المسميات ” ثورة” أو ” إنقلاب”، تبعاً لوجهات النظر والرؤى، فليس كل من أطلق صفة الإنقلاب على ما جرى في 14 تموز من عام 1958 ملكياً، ولا كل من صفق وهلل للثورة جمهورياً، لكننا إزاء حركة قامت بها وحدات من الجيش فتحت المجال لتدخل العسكر في السياسة، مخلفة سلسلة من الإنقلابات أوصلت البلاد الى الإحتلال.
تمر اليوم الذكرى الـ “58” للثورة أو الإنقلاب، الذي أطاحت أو أطاح بالنظام الملكي في العراق وإعلان الجمهورية، ومع الإختلاف أيضاً في توصيف زعيمها عبد الكريم قاسم بحسب الأفكار والآيديولوجيات، فالأمر متروك للمؤرخين والمعاصرين لحكمه، لكننا نستوقف قليلاً هنا على الجانب الإقتصادي للزعيم، من خلال السياسة النفطية التي إتبعها، مستشهدين بشهادة من أهلها وهو أول وزير إقتصاد في الحكومة الجمهورية، وهو السيد إبراهيم كبة الى جانب توليه حقائب وزارية أخرى بالوكالة كالنفط والإصلاح الزراعي.
كان كبة واحداً من مؤيدي الثورة، وفوجيء بإستيزاره عند سماع بيان تشكيل الحكومة، وشمر عن ساعد الجد لوضع برنامج إقتصادي متكامل للعراق.
يقول في مذكراته : “منذ الأيام الأولى لثورة 14 تموز، أصدرنا (بيان النفط) المشهور الذي أكدنا فيه حرص العراق الجمهوري على استمرار جريان النفط مع المحافظة على مصلحة البلاد العليا، وقد كان لهذا البيان أثره المهم في الأوساط الدولية في تثبيت الوضع الثوري الجديد.
ولم يمض على الثورة بضعة أسابيع إلا وبدأت المفاوضات مع شركة النفط ، وقد نوقشت في هذه المفاوضات المبكرة (أوائل آب 1958) جميع النقاط الجوهرية، كزيادة حصة العراق من العوائد، ولإسهام في رأسمال الشركات، واستعادة جميع الأراضي غير المستثمرة، والمشاركة في أرباح التصفية والنقل، وإخضاع الشركات للقوانين العراقية، والإسهام في إدارتها العليا، وتصحيح أسس حسابات النفقات والأسعار، وقد وضعت – على ضوء نتائج هذه المفاوضات – خطة طويلة الأمد، متعددة المراحل، تستهدف في النهاية تحرير القطاع النفطي من النفوذ الأجنبي ليلعب دوره الضروري لمجموع الاقتصاد الوطني.
على ان تدخل قاسم في ما بعد في المفاوضات النفطية وإتباعه سياسة دعائية تهريجية في هذا الموضوع أديا الى تجميد أكثر النقاط الموقوفة”. ويضيف “إلا ان الجوانب السلبية للحكم الجديد ما لبثت ان بدأت تطغى على الجوانب الايجابية، ومن أهم الحقائق التي يجب إلقاء الضوء عليها هو ان بذور الديكتاتورية القاسمية كانت كامنة في صلب الحكم الثوري الجديد منذ ولادته”.
ويلخص كبة العراقيل التي وضعها الزعيم إزاء السياسة النفطية قائلاً :
– تدخل قاسم في المفاوضات النفطية مع الشركات وإتباع سياسة تهريجية فيها ما أدى إلى تجميد القضايا الأساسية الموقوفة، ومنها مسألة زيادة حصة العراق من العوائد، والإسهام في رأس مال الشركات، وتغيير أسس حسابات النفقات والأسعار واسترداد جميع الأراضي غير المستثمرة، والمشاركة في أرباح التصفية، وموضوع ناقلات النفط وأخيرا مسألة إخضاع الشركات للقوانين العراقية. -عرقلة إشراف وزارة الاقتصاد، فوزارة النفط على موضوع الاستخدام لدى الشركات، وخاصة الأجانب منهم.
-عرقلة أجهزة التدخل لحماية حقوق العمال لدى الشركات.
-ملء الشركة بموظفين مشبوهين، من دون علم الوزارة، وبموافقته مباشرة، خلاف الترتيبات التي أعدت منذ بداية الثورة في هذا المجال.
-تسليم المصافي بيد الحاكم العسكري العام.
-اعتقال عشرات الموظفين في المؤسسات والمصالح النفطية من دون علم الوزارة.
-تزييف نقابات العمال والتدخل في انتخاباتها في الشركات والمؤسسات النفطية.
-عرقلة محاولات التعريق في الشركات والمؤسسات والمصالح النفطية.
ويختم كلامه بالقول : “ان انكشاف نيات قاسم، واستحالة مواصلة الانجازات الاقتصادية والاجتماعية بعد ان فقدت الشروط الأساسية العامة التي تكون إطارها الضروري، وعلى الأخص شروط الوحدة الوطنية والقيادة الجماعية والتنظيمات الشعبية السليمة والتخطيط العام وولاء الأجهزة التنفيذية ،أقول بعد بلوغ هذه المرحلة من تردي الوضع العام صممتُ على الاستقالة نهائيا وتركت الحكم فعلا في شباط 1960.