18 نوفمبر، 2024 1:26 ص
Search
Close this search box.

مِداَدٌ في عباب 39 _ 43

مِداَدٌ في عباب 39 _ 43

-39-
هنيئاً لكِ حقوق الانسان بتمثال الحرية –عفواً بصنم الحرية- وشعلته المتوهجة وقاعدته الترسانية المترسخة على مدخل ميناء نيويورك، وأكليل الغار على رأسه في زهوه وترفعه وتعاليه.
اصدق التمنيات للصنم بالعمر الطويل، واخلص الدعوات ألا يصيبه الانهيار على يد زلزال او موجة اعصار عارمة… فهذا الصنم الأصم هو آخر ما بقي من مفهوم الحرية وحقوق الانسان، والرمز الوحيد لمعانيها وقيمها في بلد نشأ وتكون على فكرة الحرية وما زال يتشدق بها الى اليوم.
عندما صمم النحات الفرنسي صنم الحرية، كان وحيه مستمداً من شعار ثورة بلده –الحرية والمساواة والأخاء- وقدم الشعب الفرنسي الصنم هدية الى الشعب الامريكي تقديراً لمبادئه والتزامه المطلق بالحرية.
فأمريكا، كما كتب احدهم، كانت “حلم تحول أمة”، كانت امة فتحت ذراعيها لكل من عانى اضطهاداً او ظلماً بسبب الدين او العنصر او الاتجاه السياسي.
كانت دولة ترحب بكل طموح ومبتكر ومغامر.. وتهيء له كل فرص النجاح. كانت كما وصفت منذ نشأتها، العالم الجديد والعالم الحر ورائدة الحرية ورافعة شعارها، لا في امريكا وحدها بل وفي باقي البلدان، ولم يبق من هذا كله الآن سوى الصنم.
لماذا؟ وما السبب في ان تغير أمة من حال نفسها ليصبح اسمها مرادفاً للاستعمار والاستغلال والنزعة العسكرية العدوانية. بعد ان كان يرمز الى الحرية والاخاء والسلام؟
هل، لأن الطموح تحول الى جشع، والسعي للتفوق الى نهم؟
هل، لأن معيار الحرية اصبح يقاس بالدولار؟
هل، لأن العظمة اصبحت تقوم على الحرب والجبروت العسكري وسيادة القوي على الضعيف؟ ام لأن كل كلمات الامل التي صيغ منها دستور امريكا كانت كلاماً اجوف؟
الوطنية في امريكا اليوم هي وطنية مجتمع حرب اعتباراً من الرئيس حتى الفرد العادي الذي لا يعرف عن العالم سوى ما يشاهده على شاشة التلفاز، لكي يتحقق السلام على الارض، يجب ان تقوم حرب في هذه المنطقة او تلك. ولكي يستقر الأمن الامريكي يجب غزو هذا البلد والاستعداد للعدوان العسكري على ذاك الآخر، ولكي تؤمن مصالح امريكا في منطقتنا يجب ان تسلح اسرائيل ويتم وضعها تحت الحماية الاستراتيجية. ولكي يرتدع المناضلون المجاهدون يجب ان تقصف هذه العاصمة او تلك، ولكي تتحقق المساواة والعدالة في الانظمة العنصرية، يجب ان يستمر دعم هذه الانظمة وتقويتها وحمايتها من الانهيار.
هذا هو مفهوم الحرية الامريكي اليوم، وهذا هو اسلوب ممارستها، ولو كانت امريكا تطبق مفهومها على نفسها لما هالنا الامر، فهذا يخصها وحدها. الا انها رأت ان تطبقه على الآخرين، في حين يبقى الشعب الامريكي معصوماً من ويلات هذا المفهوم الخاطئ والخطر.
ربما كان من الاوفق التزاماً بمبادئ الاخلاص والصدق والامانة، نزع صنم الحرية واقامة صنم مكانه لرامبو رافعاً مدفعه الرشاش، يلوح به في وجه العالم.
-40-
وسط الظروف التي وصلنا اليها، لا بد من وقفة متأنية ومتفهمة لفرز الثوابت والمتغيرات، وتقدير المتاح وغير المتاح في مسيرتنا وتحركاتنا في الداخل والخارج.
ان النقطة التي وصلنا اليها، تفرض مثل هذا الفرز، وتوجب التوصل الى قناعات، بان احداثاً مهمة وتحديات اكثر خطورة قد تواجهنا، مما يفرض على الجميع العودة الى الثوابت والمبادئ العراقية الاصيلة. وحتى نكون صريحين اكثر، نقول، ان بعضنا ابتعد عن الثوابت، وانهمك في مسائل جانبية، مما اوقعه تحت بعض الضواغط وحال بينه وبين استخلاص النتائج الضارة والناجمة عن هذا الابتعاد.
بمعنى آخر: لقد نسي البعض ممن يتحملون مسؤوليات العمل الوطني، اننا نعيش مرحلة غير عادية، وان الظروف التي يمر بها العراق والمنطقة تتطلب ادراكاً عميقاً لما تنطوي عليه من معطيات، بعضها ظاهر وبعضها خفي.. الامر الذي يحتم عدم المغالاة في المطالب، والامساك عن اي سلوك او تصرف قد يبدو خروجاً على المنهج العراقي الاصيل.
من هنا، فان النقطة التي وصلنا اليها قد لا تكون نتيجة مباشرة لتكتيك معين في عملنا السياسي وممارستنا الوطنية.. وانما هي نتيجة لاحساس عام بان الظرف الحالي يقتضي التوقف والفرز، واعادة النظر في التجربة الماضية.
ولا شك ان التجربة البرلمانية خلال الفترة الماضية لجهة التعاون والانسجام والتنسيق مع الحكومة والعكس بالعكس، لم تكن على ما يرام،وقد انتابتها بعض الفواصل التي قد يعتبرها البعض مؤذية وضارة. ولهذا كان من الطبيعي ان تتغير التجربة على امل اعادة التقييم ووضع اسس جديدة للمتابعة والانطلاق مرة اخرى اي في الدورة البرلمانية اللاحقة.
ومهما يكن فأن المتضرر الوحيد من هذه العملية كلها هو العراق وشعبه. لقد بدت الساحة العراقية في الفترة الاخيرة وكأنها ساحة صراعات بين اطراف فقدوا كل حس بالمسؤولية الوطنية، وان اللاعبين تجاوزوا الخطوط الحمراء ودخلوا في لعبة غير متوازية مما افقدهم معها القدرة على استعادة التوازن والتوقف عند حدود الخطر.
هكذا كانت تبدو صورة العراق في الخارج. فقد رأينا من خلال ما كانت تكتبه الصحافة الاجنبية انماطاً من التقديرات ليست تدخل في حسابات المتعاطين بالعمل السياسي والبرلماني عندنا، فكان لابد من التوقف واعادة الحسابات كي تتغير هذه الانطباعات ويقوم تعاون حقيقي يخدم العراق ويضع مصالحه فوق كل المصالح.
مرة اخرى، نؤكد على التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية. فالتعاون كان ولا يزال من الاساسيات التي يقوم عليها وجودنا… وهو المعيار في مجمل التحولات التاريخية والحضارية في وطننا. فلنعمل على ترميم جسور التعاون ليتواصل اداؤنا الرائع في خدمة بلدنا حاضراً ومستقبلاً.
-41-
ان فقدان الروح العراقية (العربية) يقود دائماً الى فقدان الاصالة والابداع والثقافات والافكار المثالية المجردة.
ان تثقيف المواطن العراقي بالثقافات الاجنبية يكون فيه نوع من الفائدة. وهذا لا يكون الا اذا كانت شخصية هذا المواطن متكاملة، فيمتلك القدرة على تمثيل تلك الثقافة تمثيلاً فكرياً وحضارياً ينسجم ومتطلبات حياته المتجددة وتجعله حاكماً فيها لا محكوماً بها.
ليس المواطن العراقي وحده الذي أدمن الهزيمة واليأس وانما المثقف العراقي ايضاً، عاصر ذلك الوضع وتأثر به واصبح دون مستوى المواجهة والتحدي الحضاري والفكري، مما ادى الى ولادة جيل جديد متلهف لثقافات وانماط حضارية غريبة عن واقعه ومتحللة من عاداته وتقاليده التي حافظت على طبيعة العلاقة والتعاون بين افراد المجتمع بانماط ثقافية وفكرية تستوعب طبيعة التطور الحضاري والثقافي له. لكن الحقيقة الماثلة امامنا هو في العلة والسبب الذي تكمن فيه الاسباب والعوامل التي دفعت هذا المواطن الى هذا المنحدر الخطير.
اذن، المشكلة تكمن في اكتشاف الانسان العراقي لذاته ومن يقوده ومدى ارتفاع او انخفاض الحاجز الموضوع امامه. والاهم من ذلك هو تحديد الاطراف والقوى التي تسلب منه انتماءه وقدرته على مواجهة الحرب المعلنة ضده للنيل من شخصيته وحقوقه العادلة في امتلاك ذاته وحريته والتمتع بالمواطنة الكاملة.
عندما يصل هذا العراقي بصفة عامة والمثقف منه بصفة خاصة الى معرفة هذه الاسباب، فأنه سيمتلك القدرة على وضع الاجابات والحلول السليمة والجريئة لحقيقة مجتمعهم وآماله.. عندها تتولد الثقة بالنفس وتتحرك قوة الدفع الذاتية نحو الابداع والعطاء عند المثقفين في هذا الواقع بالذات، يمكننا التوجه اليهم لنستشيرهم ونسألهم من اين يبدأ الطريق وكيف نهتدي اليه.
-42-
تجده ساخطاً دائما على حظه، دائماً يرد فشله الى الحظ، ودائماً يتعثر في مساعيه التي لم يباشرها بهمة ولا رغبة، يرضى بالقليل من كل شيء دون محاولة لتطوير نفسه ودون محاولة للطموح نحو مستقبل افضل. لا يرى ان في الامكان احسن مما كان. فاذا سألته وتحدثت اليه عن سر خموله وتواكله.. قال لك: القناعة كنز لا يفنى. وهو في قراراة نفسه يتمنى لو وصل الى ما لديك ولدى الآخرين ليستولي عليه لكنه عاجز عن الاتيان بأي شيء، ومع ذلك يسمي ضعفه وعجزه وخموله قناعة. وما درى ان القناعة المقصودة هي القناعة بما قسم الله، والرضى والتسليم بما قدره لعبده.
والقناعة هي غض النظر عما بأيدي الآخرين ومحاولة الوصول الى مستواهم عن طريق الجد والاجتهاد والمثابرة على الاتيان بعمل جيد متقن يحقق لفاعله التقدم والنجاح في الحياة.
والخاملون دائماً، والمتواكلون دائماً، والعاجزون دائماً، تجدهم يندبون حظوظهم، ينسبون عجزهم وضعفهم للظروف، ويحاولون ان يسلبوا الناجحين والمتقدمين والطامحين، فيتهمونهم في امانتهم، ويعيبون جدهم واجتهادهم، ويسخرون من منجزاتهم ويحاولون بقدر الامكان زرع الاحباط في نفوس من حولهم.
وهم يسمون اللباقة نفاقاً، والطيبة ضعفاً، وينسبون نجاحات الآخرين الى الظروف التي واتتهم والى الحظوظ التي خدمتهم.
من هنا، تتضح الهوة الواسعة بين الخمول والقناعة، الا ان بعض الناس يحاول ان يلبس احدهما مظلة الآخر، وان يسمي الاشياء بغير اسمائها ويعطي الامور اكثر مما تحتمل من التأويلات.
اما اولئك الطامحون، المتقدمون دائماً، المستشرفون لآفاق المستقبل، القانعون بما كتب الله لهم من الرزق الحلال، فهم يسيرون بخطى ثابتة غير عائبين بما يقوله الخاملون الذين يعللون انفسهم بذكر مثالب الآخرين والتقليل من منجزاتهم.
ولكن مهما تخالطت المفاهيم، سيظل الناجحون يعملون، والخاملون يتحسرون، الا ان النتائج لن تتضح الا بعد فوات الأوان ولن ينفع آنذاك الندم.
-43-
اليوم، هو الغد الذي كنت قلقاً عليه بالامس.
لا اذكر اين قرأت هذا التعبير، بارد وثمين في الوقت نفسه. بارد لانه لا يعطيك اكثر من شيء يداخل في نطاق البديهية، وثمين لانه يصور توترك وانقباضك الماضيين وكأنهما بلا معنى، ومن هنا يزج بك بصورة عفوية الى الايمان بتلك المقولة العلمية التي تعتبر التفاؤل والتشاؤم حالة غير سوية ومنافية للتفكير الصائب.
يقول بشار بن برد:
ترجو غداً وغد كحاملَّه
في الحي لا يدرون ما تلد
قول بشار هذا اقرب الى النفس من تلك الحكمة الباردة والثمينة. انه يعطيك الحق في التوتر والقلق والخوف، لانك مقبل على شيء مجهول، اي مقبل على العديد من الاحتمالات، والاحتمالات نفسها مدعاة للخوف، لانك قد تفقد القدرة على الاختيار ازاء بعضها.
وفقدك الاختيار معناه ان الظروف قد قبضت عليك ووضعتك في مسارها رغم أنف ارادتك.
يقولون، ان عصرنا عصر التوتر والقلق. ان هذا كلام صائب ولكن ما هي الاسباب. تلك هي المشكلة التي يختلف عليها المفكرون في مختلف المجالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية، يختلفون حتى حدود التناقض.
ولكني لا اسير وراء هؤلاء المفكرين ابداً، أسير فقط وراء من قال:
تصفو الحياة لجاهل او غافل
عما مضى فيها وما يتوقعُ
ولمن يغالط في الحقائق نفسه
ويسومها طلب المحال فتطمعُ
[email protected]

أحدث المقالات