23 نوفمبر، 2024 2:19 ص
Search
Close this search box.

راهب الجمهورية

راهب الجمهورية

افقدني حبي لوطني كل طاقتي فلم اعد اقوى على المسير حتى ان مركبات الاجرة (التكسي) اصبحت وسيلتي الوحيدة للتنقل في ضواحي بغداد الرشيد و العروبة و الاسلام. و ما اصغر الدنيا و يا لوضاعتها! بادلني سائق (التكسي) الحديث و قد بدا وجهه مألوفا لدي رغم انني لم اره من قبل. كان سمحا لينا كريما و مؤدبا، كشف الستار عن مسرح حياته فهو في الخمسينيات من عمره و يدعى (سعد مهدي كاظم) فجاء على لسانه العذب ما يأتي:
العيواضية و قرب جامع عادلة خاتون و في ستينيات القرن الماضي كنت اذهب مع والدي لمساعدته في عمله، ليس لوالدي محل بل (بسطية) تتألف من (درّايين) (خشبتين عريضتين) و اربع (تنكات) زيت فارغة اُعيد ملؤها بالتراب، وُضع (الدرابان) على شكل نصف مربع و تحت كل واحد منهما  (تنكتان) فاصبح (الدرابان) كالكراسي الوثيرة لزبائننا الكرام. و امام كل (دراب) (تنكتان) فارغتان تستعملان بديلا للمناضد الخشبية. يقف والدي امام (المنقلة) لشواء (الكباب و التكة و المعلاك) و في الزاوية الاخرى يضع (الحِب) و (الطاسة) لسقي الزبائن.         

تعودت على الوجوه البغدادية السمحة و تعودت على اللهجة البغدادية العذبة و صار بعض الزبائن يداعبني و كنت فرحا بذلك و ان كلماتهم لا تزال ترن في اذني و كأنها قيلت قبل لحظات، (عمو ميّ، عمو صمونة، عمو طرشي، عمو خضروات).
و في احد الايام و بعد ان لبست الشمس ثوبها الثالث و مالت الى المغيب، وقفت مركبة صغيرة قرب جامع عادلة خاتون و ترجل منها رجل وسيم و باللباس العسكري ومعه سائقه فقط سلّمَ الرجل على الجميع و صافح والدي و جلس بتواضع على (الدرّاب) حيث بدى انه من زبائن والدي، تطلعت الى وجه الرجل فاذا بي اعرفه وجها مبتسما و انسانا متواضعا ملؤه الدفء و الحنان، انه ابن الفقراء و زعيم الفقراء عبدالكريم قاسم الذي لم يدخر فلسا و لم يفتح له رصيدا في بنك و لم تكن له شركات و وكالات، كانت شركاته و راس ماله هي الشعب و فقراء الشعب، ارى الصورة امامي و كانها انطبعت في كياني كله فلم تمحها السنين، اوصى الزعيم على نفرين (تكة) واحدا له و الاخر لسائقه و ما ان بدء بتناول طعامه حتى انتبه اليّ ثم خاطب والدي قائلا (حجي مهدي هل هذا ولدك؟) نعم سيادة الزعيم، اجاب والدي. ثم ناداني الزعيم و اجلسني الى جواره ثم اخرج (ربع دينار) من جيبه ليضعه في يدي و كأن يده تلامس يدي الان. ثم خاطب والدي ثانية(حجي، ابنك هذا مكانه الان البيت لينام و يرتاح حتى يروح للمدرسة باجر) عشقت هذا الرجل و احببته، احببت ملابسه (الخاكية) العسكرية، احببت ابتسامته و تواضعه و كياسته و شجاعته و امانته و وفاءه لشعبه، عشقت نزاهته و تواضعه فقد كان بامكانه ان يوصي على اطيب الاكلات لتُجلب لمقره في وزارة الدفاع حيث ينام على الارض، كان بامكانه ان يدخل ارقى المطاعم و افضلها لكنه فضل الجلوس مع الفقراء و الاكل من طماعهم و الاستماع لاحاديثهم اذ ثار من اجل الفقراء و ضحى من اجلهم و يوم جاؤه مطالبين بالسلاح لافشال الانقلاب ردّهم بادب و طلب منهم العودة الى دورهم حقنا للدماء و حفاظا على وحدة الشعب و الوطن و كذلك فعل مع سفير الاتحاد السوفييتي الذي طلب منه الاذن لافشال الانقلاب!! فما احوجنا اليوم الى شجاعة هذا الرجل و نبله و ادبه و تواضعه و سماحته و زهده و ورعه و نزاهته و عفته و صبره و ايثاره فهل يُنسى  رجل كهذا؟ رحم الله زعيم الفقراء و زعيم الشرفاء رحم الله راهب الجمهورية عبد الكريم قاسم. 
[email protected]

أحدث المقالات

أحدث المقالات