22 نوفمبر، 2024 2:14 م
Search
Close this search box.

آثار دمُكَ على النعش

آثار دمُكَ على النعش

يوم سكنت الحرب بيئة الاهوار تغيرت في وجوه المعدان تفاصيل اليوم والذاكرة ، وبدأت المشاعر الجديدة التي سكنت عواطفهم ورؤسهم مزعجة أول الأمر ، إذ لم يتعودوا على طقوس الحروب ومفرداتها ، وكانت كل حربهم غضب بين اثنين ينتهي برأس توثية على حدهم ، فيما حروبهم اخرى ليس مع البشر ، بل مع الخنازير الوحشية والطير الذي يصيدوه والسمك في الماء ، وتلك حروب فرضتها الطبيعة من أجل أن لايموتوا من الجوع وهي حرب عادلة لأنها حرب الرزق والحياة ولاتمناعها السماء أو تحرمها.
لكن الحرب الجديدة أدخلت صورها ومشاهدها ووقائعها في ارواحهم وقواميسهم ولآول مرة يسمعوا بالشظية والخوذة ومدفع 130 ملم وراجمعة الصواريخ والمأمورين الذي يجيئون اول الصباح بقوابهم يحملون شهداء الحرب وضحاياها من المعدان ، ولأول مرة تغيرت مفردات الرثاء والنعاء في حناجر النساء ودخلت فيها مضامين لم يألفوفها في الموت الذي صاحبهم منذ ازمنة نوح والى اليوم حيث يكون مسببه أم الموت مرضا او عمر طويل أو غرق في الهور ، وقلما هناك موتا يكون سببه شجار تواثي او سكاكين او بنادق أو غسلا للعار.
لكن مع وصول اول نعش الى قريتنا تغيرت طبيعة اليوم وآلية الحياة فيه ، وكنت اشاهد طقوسا مختلفة اجبرت المعدان ان يعيشوا حالة التعبئة التي تعيشها باقي المدن في عموم الزطن ، ولأول مرة يذهب ابناء المعدان من قتلى الحروب بنعوش خشبها يميل الى بياض ناصع ولآول مرة تلف تلك النعوش بأعلام العراق .
بعضهم اشعره هذا الامر بهيبة خفية لكن السواد الاعظم لم يكترثوا للطقوس الجديدة وسكن التساؤل في عيونهم ، بقولهن :من اتى لنا بهذه الطركاعة التي لم نكن لنعرفها في يوم ما.
كنت أحمل هذه التساؤلات عنما يسكن الليل المكان ولم يبق سوى انتظار بيانات الحرب المتسارعة في نشرات الاخبار بعد ان خفت شهيتنا لسماع اغاني المذياع ، فالحرب مسخت طقوس الايام القديمة وحولت صوت ام كلثوم وفيروز ونجاة الى أناشيد معركة ودبابات بدأنا نشم عطاب حريقها من منطقة ديزفول الى قرية المحاريث في عمق الاهوار.
في تلك الايام حلت علينا فنتازيا جمالية روايات ماركيز ، وبها هربنا قليلا من الحرب ، حصلت على مائة عام من العزلة ، وخريف البطريق ، وليس لدى العقيد من يكاتبه .ثم همت عشقا بقصة قصيرة لماركيز عنوانها : آثار دمك على الثلج .بعد ان نصحني احد المعلمين أن لاأقرأ خريف البطريق في العلن ، لان البطريق هنا هو من اشعل الحرب ، واتى للمعدان بطقس غريب أن يستقبلوا ضحاياهم بهوسات ونواح لم يطلقوه من قبل على موتاهم.
في تلك الليالي كنت اراقب الاشياء حولي وهي ذاتها التي كانت تؤثث لهذا الليل ( القصب ، الماء ، النجوم ) أما بقية الموجودات فأنها لاتظهر في المكان سوى في النهار ، فلقد غفى المعدان على السوابيط وجواميسهم ينالها شخير غريب في حظائرها .
ولان لليل عيون كما يقولون فلقد أخذت بنصحية صديقي المعلم وخبئت خريف البطريق ورحت اعيد بمتعة عاشق تلك التراجيديا الغريبة التي تحدث فيها ماركيز عن عاشق وعشيقه يبحثان بعضهما عن بعض وليس بينهما سوى امتار قليلة لكن احد لم يجد الآخر.
غبت في قدرية تلك الفنتازيا ، ولم يكن بمقدوري مقارنتها بذلك الفزع الذي يكون على شكل نعش شهيد ولايبعد سوى امتار قليلة عن سوابيط المعدان الغافين بتعب نهار الامس وهم لايعلمون ان المأمورين اتوا مبكرين ليحملوا اخبار مزعجة واجساد ممدة بنعوش ولم تزل اثار جروح الشظايا على بطونها وصدرورها ورؤوسها.
في تلك اللحظات كنت اعيش الفزع اكثر من اهل الضحايا ، فأبعد نشوة آثار دمك على الثلج لأبحث أثار دمك على النعش.
امد يدي اليه ، أحسه لم يزل باردا ، فأعرف ان الشهيد اتوا به من جبهة قريبة ، واغلبها تجيء من جهة الأحواز..

أحدث المقالات