تُعتبر شريحة المهندسين القوة المحركة للتنمية وما يرافقها من الصناعة والبناء والبحث والتطوير والتقدّم التكنولوجي والعمراني ، وما دامت عجلة التنمية متوقفة في البلد تماما ، لاقت شريحة المهندسين الأمرّين بسبب كساد مهنتهم ، وقلّ الطلب عليها رسميا الا ان كان من المبشرين بالجنة (!!) ، فاضطر للتوجّه للشركات الأهلية ، برواتبها البخسة بسبب العرض والطلب ، وعدم وجود تنظيم نقابي يحميه ويراعي حقوقه ، وبالحقيقة أن المهندس الناجح يجب أن يكون موسوعيا ،وله فهما عاما للفيزياء ،الأختصاص الأم ، لهذا يتم تكليفه بمهام وأعباء أخرى قد تكون بعيدة عن أختصاصه ، وبساعات عمل طويلة ، بالاضافة الى اختلاط الأمر على أصحاب الشركات ، فتوكل اليه أعمال يؤدّيها العامل لأستثمار آخر (فلس) من الراتب الذي يتقاضاه ! ، مع عدم فهمهم لطبيعة مهنة الهندسة ، بالاضافة لخوضه المخاطر المميتة في مواقع العمل دون مراعاة عوامل الأمان ، بسبب انتشار ثقافة التقشف في كل مكان وزمان حتى لو كانت تلك العوامل تشكل الفرق بين الحياة والموت ! ، مع تعرضه المستمر لعوامل الجو ، وأحتكاكه المباشر بالمقاولين والعمال والآلات بشكل قد يصل لدرجة الصُدام ، وتقع على عاتقه كل المسؤولية من ناحية الأنجاز والفحص والتسليم ، بمعنى آخر ، أن معظم هذه الشركات تمثل صورة مصغرة عن البلد ، نظاما وأدارةً وسياسة !.
وتوقفت أعمال البناء والترميم في البلد ، بسبب افلاس الدولة وعدم توفر سيولة نقدية من الجهات المستفيدة (الحكومية) بسبب الظرف الأقتصادي الصعب للبلد ، فأدى ذلك الى صرف المقاولين والمهندسين والعمال عن العمل ، ليملأوا (المسطر) مرة أخرى ، وليعملوا بدخل أقل ، هذا ان وجدوا عملا !، فلا يوجد بلد في العالم يعاني فيه مهندسوه من البطالة كحال العراق !، وهذا مقياس صارخ للتخلف ، فالجامعات تأكل (الحصرم) ، والخريجون (يضرسون)! .أعرف الكثير من زملائي المهندسين الأستشاريين ، من ذوي الأختصاص النادر ، وهم يبيعون كتبهم في شارع المتنبي ، أو يعملون كسواق (تاكسي) ، أو يدفنون أختصاصهم وكأنه عار !، فيعملون بمهن أخرى بعيدة ، كبيع وشراء السيارات في أحسن الأحوال ، وغالبيتهم انزووا في منازلهم ، ومنهم كاتب هذه السطور ، بعد أن أعيانا البحث عن الوظائف الهندسية ، مثلما سبق أن أرسلت العشرات من سيرتي الذاتية لمواقع أدعت حاجتها الى مهندسين ، دون فائدة !.يتقاضى المهندس الأستشاري أو رئيس المهندسين في دوائر الدولة بحدود 3 مليون دينار والتي تقدر مدة خدمته 30 عام ، والخريج الحدث ان كان محظوظا وعمل في دوار الدولة ، لا يزيد راتبه عن 650 ألف دينار ، وتعين الشركات المهندس ذو الخدمة الطويلة بما لا يزيد عن 1200 دولار شهريا ، ومهندسو النفط قد لا يتجاوز هذا المبلغ ، وهو المسؤول عن لقمة عيش العراقيين بأكملهم كون أن النفط مصدر دخل البلد الوحيد ! ، وهو يجابه الصحراء والغربة والمخاطر والظروف الجوية القاسية ، وفي كل الأحوال ، يتقاضى (الخَلفة) اضعاف ما يتقاضاه المهندس المنفذ أو المقيم .
مهنة الطب مطلوبة في كل زمان ومكان ، كونها تمس صحة الأنسان بالصميم ، وأنها مسألة حياة أو موت ، انها مهنة انسانية بمنتهى الرقي ، لكن صفة الرقي هذه بدأت تفرغ من محتواها ، خصوصا اذا ظهر الاستغلال لهذه المهنة ، بحيث انتهجت سياسة (ليّ) ذراع المريض ! ، ودون أدنى مراعاة لظروف البلد وتدني مستوى دخل الغالبية العظمى من المواطنين ، اذ ان 85% من ثروة البلد ، تذهب الى جيوب 5000 شخص من أصل 35 مليون نسمة !!.
راجعت قبل أيام طبيب أختصاصي (كشفيته) 25 ألف دينار وتعتبر متواضعة ، لكن توجيهاته لي مع كتابة الوصفة ، لم تتجاوز الدقيقتان ، فخطرعلى بالي كيف أنها نفس (يومية) العامل بعد 9 ساعات من العمل الشاق ، ينضح فيها من مسام جلده الدم بدل العرق ! ، عدا كون هذه الوصفات مكتوبة بلغة (مشفّرة) لا يفهمها الا الصيدلي (المعني) فقط ! ، وباقي الصيدليات لا تفهمها ، نفس الشيء بالنسبة الى مختبرات التحاليل !.
أعرف أطباءً دخلهم اليومي 5 ملايين دينار ، وما يزيد عن ذلك بالنسبة للجراحين ، هذه الاموال التي ورائها الآهات والألم ، وأجور غرفة متواضعة جدا في المستشفيات الخاصة أكبر من أجرة غرفة في فندق 5 نجوم ! ، وأدنى شكوى من المريض بسبب الغلاء ، يطلب الطبيب منه مراجعة المستشفيات الحكومية !، فما الذي يدعو المريض للجوء الى العيادات والمستشفيات الخاصة ، لولا الأمَرّ ! ، لولا علمه بالزحام والطوابير الذي لا يحتمله أنسان صحيح فضلا عن المريض ، وسوء الخدمات وعدم توفر الأجهزة المتقدمة والأدوية وسوء المعاملة وأنعدام النظافة !؟ .
لاحظت اسلوبا جديدا ينتهجه الأطباء بشكل عام ، وهو طلبهم من المريض قائمة من التحاليل بمختلف انواعها من سونار ومفراس وأيكو وفحص للدم ، وبشكل يرهق كاهل المريض ، لمجرد ألم في البطن كان يشخصه الطبيب في السابق بسهولة ، ولم يكن أطباء الأمس يلجأون الى هذا الكم من التحاليل رغم توفر هذه التقنيات ، ويشفى المريض من المراجعة الأولى ، أما الآن ، فلاحظت مرارا أن العلاج متخبط وباهظ ، جاعل من المريض حقلا للتجارب ! ، أحد أقاربي أضاع سنتين وملايين الدنانير بسبب الم في البطن ، وأختلف التشخيص بين تهيج القولون (وهو متفشٍّ) عند العراقيين بسبب سوء معيشتهم ، وبين حصاة الحالب ، ولم تُعالج كلتا الحالتين لغاية هذا اليوم ولا يزال غارقا في آلامه ! ، حدّثني طبيب من أقاربي ، أن أكثر من 70% من العمليات القيصرية لا داعي لها !، ووصل الأمر الى أن 90% من النساء يلدن بعملية قيصرية وكأنها موضة ! ، فما بالكم بدخل طبيبة تجري 5 عمليات قيصرية أو أكثر في اليوم ! ، أو مثلها من عمليات سحب الماء الأسود من العين ، كان من الممكن جدا أن يكون هذا جهدا كبيرا ومشكورا بل مقدّسا ، ولكن غلاء أجور هذه العمليات القاصمة للظهر ، أطفأت هالة القدسية تلك !.الطب والصيدلة هي المهن الوحيدة المزدهرة والتي لا تعرف الكساد طالما هنالك أنسان ، أي المريض المضطر الذي يريد دفع ألمه بأي ثمن لأن الألم لا يرحم ، فيلجأ الى طبيب لا يرحم أيضا ! ، لهذا يوجد تهافت كبير على الكليات الأهلية لهذين الأختصاصين ، فيرسل الأثرياء أبنائهم لهذه الكليات ، لتستمر امبراطورية الثراء لديهم ! ، فهم يعلمون أنها (بزنس) بالدرجة الأولى ! ، وبقسط سنوي يصل الى 10 ملايين دينار ! ، أي لو استثنينا العطلة الصيفية ، فهذا القسط بواقع أكثر من مليون دينار شهريا ! ، هذا يعني أن الفقير يجب أن يبقى فقيرا هو وأجياله !.
قالوا (اللهم لا حاكم ولا حكيم) ، فنسأل الله أن يرحمنا ويجنبنا الأمراض والوقوع تحت يد الأطباء خصوصا ممن حول مهنته الى تجارة ، وأفرغها من محتواها الأنساني ، فتحول من منقذ الى جزار على رأي مواطن الشارع !.