ضحكنا كثيرا ونحن نشاهد ( نوماس عبيد ) صاحب الزورق الذي ينقلنا من مدينة الجبايش الى مدرستنا في قرية ام المحاريث وبالعكس يوم تبدأ أجازتنا الشهرية لمدة اربعة ايام نذهب فيها الى بيوتنا في الناصرية ، ومن كان بيته في محافظة اخرى فأن اجازته الشهرية سبعة أيام.
ضحكنا ونحن نراه معلقة يافطة صغيرة من ورق المقوى في مقدمة زورقه وقد كتب عليها : سفريات العطر الاخضر.
سألته : نوماس ، من اين لك هذا العنوان الرومانسي ، فتلك العبارة لن يختارها سوى الشاعر والذي يعرف كيف يكون العطر أخضرا.؟
قال : هذا سر لاابوح فيه.
وقتها عرفنا أن أحدَ المعلمين ورطه في تلك اليافطة واخبرهُ ان لايخبر أحداً . وهكذا صرنا نشتاق الى قدوم نوماس صاحب نقليات العطر الازرق وزورقه كلما اقترب موعد الاجازة الشهرية.
كنا نقرأ الكارتونة الصغيرة والمشحوف يطر الهور مع الغناء العذب لصاحبه نوماس ، فأن كان الطريق ذهابا بين المدرسة وبيوتنا كانت موامويله تشع بالفرح والآمل والعشق في براءة المعدان ، حيث الاخضر روحهم وفطرتها وتحمل قساوة الحياة . اما في العودة بين الجبايش والقرية فأن مواويله تتحول الى حزن وشجن واماني ، لهذا صار طريق الذهاب والاياب هو طريق احلامنا ، عندما تصبغ السعادة صوت نوماس صاحب المشحوف فيملأ اللحظة التي يتهادي فيها الزورق بين الموجود ونهتز نحن معه نشوة ونهز رؤوسنا لتسكننا التفاصيل الخضراء لما يسكننا من امنية وحلم ورغبة وأكثرها شيوعا في صدورنا ذلك الطريق المؤسطر برغبة الوصول الى باريس وروما وفيينا ومدريد ، المدن التي كنا نعتقد ان ليلها لاتعوم فيه سوى نشوة الانوثة وموسيقى القيثارات على ارصفة تزينها خطوات النساء المعطرات بالشانيل والكريستيان ديور وليس هذا العطر المدون اسمه فقط على كارتونة صغيرة كتبها معلم مجهول بيننا ليذكرنا أن الاحلام الخضراء ينبغي أن لاتكون حبيسة هذا الجو الشرجي الخانق ولسع البعوض والحرمس وتلك الخلطة العجيبة التي يصنعها ليل الاهوار عندما تمتزج اغنية ام كلثوم ( حكم علينا الهوى ..نعشق سوا ) والقادمة من راديو صوت القاهرة مع شخير المعدان الممدين مثل اكياس الريح فوق سوابيط القصب بعد يوم شاق من التعب وارغام الجواميس المعاندة من مغادرة قيلوة الماء الى حضائرها.
وهكذا نحن في كل اجازة نستعيد فتنة العنوان على ورقة الكارتون والمثبتة في مقدمة القارب فنسأل صاحبه نوماس :
ــ ألم يسألك غيرنا عن سبب وجود هذه اليافطة في مقدمة قاربك؟
فيرد : من يفهم معنى تلك الكلمات حتى انا لااعرف معنى العطر الاخضر ، لهذا لايسألون ، فكل ركابي الآخرين هم مثلي من المعدان ، لاقراءة ولا كتابة . هنا الاخضر فقط هو القصب ولكنه لايصلح ليكون عطرا لعريس وعروسة .
عاشت يافطة نقليات العطر الاخضر بيننا تحرس احلامنا العريضة كلما لانستها اعيننا ونحن نصعد الزورق ، وكان نوماس عبيد وفياً لها فكلما محى كلماتها موج الاهوار المالح عند ارتفاع مد الماء ويبلل الكارتونه يذهب الى معلم الفنية ليخط له كارتونة جديدة ، حتى صرنا نشك ان معلم الفنية هو صاحب فكرة وكلمات تلك اليافطة ، لكن معلم أقسم بألف نبي وولي وأمام أنه ليس هو ، فصدقناه.
ظلت تلك اللوحة معنا ، حتى صارت كما تعويذة ، مرة ننسى عطرها ومرة نتذكرها الى زمن
اتت فيه الحرب ونتشرت في البلاد شظاياها وجبهاتها وتجانيدها والمواليد التي ينبغي ان تكون وقودا لنارها ، وكانت حصة مدرستنا احد الزملاء الذي شملت مواليده دعوة الاحتياط فتحولت اجازته الدورية من الانتقال بالزورق بين المدرسة والجبايش ومن ثم الناصرية الى ذلك الذهاب والاياب الشهري بحافلة الريم بين ربيئة في اعلي جبل هندرين بأربيل وبين مدينته الناصرية .
ذات يوم كان المعلم يتأمل افق قريتنا في افق بعيد ومن على جدار الربيئة الصخري فأتته رصاصة في رأسه ليسقط شهيدا ، ويجيء في أخر اجازة ابدية له الى الناصرية محمولا بنعش وليس داخل حافلة الريم أو الزورق الذي كانت تقوده بنعاس شهي ابوذيات نوماس عبيد .
حزنت القرية ، حزن القصب ، التلاميذ حزنوا ، وسمعنا النحيب الخافن لنساء المعدان من اجل المعلم الشهيد وصرن يشعرن ان هذا الموت هو ربما بوابة ينفذ منها ابنائهن الذين ذهبوا الى التجانيد جنود متطوعين او اؤلئك الذين استحقت مواليدهم الجندية .
انتدبتني ادارة المدرسة لاحضر نيابة عن المعلمين لحضور مآتمه لأن بيته كان قريبا من بيتنا .
صعدت الزورق في الطريق الى الجبايش ، حيث رفض نوماس ان ينقل احدا غيري ، وما ان تحرك القارب حتى بدأ الرجل غناءه الحزين ، اجبر دموعي لتنهال شوقا للذكريات الجميلة مع الفقيد .
قال نوماس : استاذ في كل ذهاب الى الجبايش حيث تقضون اجازاتكم الشهرية كنت اغني بفرح ، الان هذا الذهاب هو ذهاب حزن ، لايستطيع ان يأتي الفرح الى حنجرتي .
احسست ان دمعة كبيرة حارة هطلت بقوة من اجفاني لاتابعها فكان سقوطها على ورقة الكارتون المثبتة على مقدمة المشحوف ( سفريات العطر الأخضر ).
المفاجأة أني لم اجد العبارة ذاتها ، فلقد تبدلت كلماتها ، بعبارة ( سفريات الحزن الأخضر ).
نظرت الى نوماس ، فردت علي دموعه ما معناه :ان زميلنا الشهيد هو صاحب فكرة عبارة ( نقليات العطر الاخضر ) .
ابتسمت وقلت لماذا لم نخمن انه هو ، فقد كان الشهيد اكثرنا حلما بالهجرة والوصول الى اوربا.