25 نوفمبر، 2024 10:54 م
Search
Close this search box.

هل الغربة وطن….؟

عندما تفرد الغربة جناحيها  لتطير ، ينقسم الكيان الإنساني بين الوطن وبينها مناصفة بلا زيادة ونقصان ، ويرجح جانب الوطن دوماً عند من عقله الزمن في ترابه ، و يحلق الجسد والنفس بكل تطلعاتها فوق تلك الأجنحة  المبهرة الخداعة عند من خف وزنه وهان تراب وطنه لديه ، ويحتجز الوطن طوعاً  كل الأحاسيس والمشاعر وحتى القلب …. ما تجرعت المر إلا سقاني الدهر أمر منه ، وحط بي الرحال ، في بقعة غريبة من دنيا الله الواسعة ، لا أعرف أرضها ولا سماءها ولا ناسها ، أي شعور يمتطيني الآن ، وأنا وحيد محتجز بين جدران الواقع الضيقة، لا أعرف سوى لغة الإشارات ، شعور يلغي كل الاعتبارات ويدمي شغاف القلب و يصبغ الأحاسيس بالعتمة والسواد ، سألت نفسي مراراً لماذا أنا هنا، فتجيبني نفسي بصوت خافت  حانق منتصر: -” لقد رفضك الوطن…! ،

إفهم  وانتبه لنفسك…!”  قصة غريبة يسردها علي ضميري كلما سألته  ، يجيبني مبتسماً وكأنه يشمت بي :لا راتب ، لا بيت، لا عيشة كريمة ، جوع ، عري ، ظلم ، هلاك وموت، أضحك أحياناً وأعود أبكي بمرارة من طريقة التهكم الغريبة ، التي يرمي بها تلك المفردات في قرارة نفسي، فهي مفردات مستفزة ، التصقت فوق لسانه وتعّود أن يقولها لي بصوت مليء بالثقة والانفعال السلبي : -” اصبر….!….إنه الوطن…! ” وتغط النفس بحزن عميق وصمت مميت ، يعقب تلك المحادثة الدورية السمجة…..فهي دوما أمَّارة  بالسوء…..هي حالة ضعف انتابتني يوماً وسلمتني مكبلاً بين مخالب اليأس القاتل ، اعتقلني هذا الفاسد الأفاق ، حتى دون أن ينظر في وجهي ، وأودعني في سجن الجحد المظلم  ، هم عصبة من الوحوش الجارحة أجتمعوا على فطيس ، الكذب  والرياء والدجل والجحد واليأس والطمع والخيانة والجحود ، خط منحرف للشر ينخر بالخير ويناهض الحق دفاعا عن الشيطان ، تلك حالة أقرّتها فورة الشباب في هذا الوطن الجريح ، فالكل يهم بالفرار ، ربما هو اليأس ظالم وحقود ، صور لنا بيوتنا ظلمة حالكة والغربة فردوس مفتوح مضيء ،  ونفخنا ريشاً في مهب الريح تذروه ، وتتلاطم به أمواج البحار والمحيطات ، فقضينا النصف غرقى ، والآخر  حريقاً بنار الغربة المستعرة …. 

 انتبهت لنفسي في مرآب للسيارات ، أنا وعائلتي ، لا نملك إلا ما يغطي أجسادنا ،لا مال ولا بيت ولا أهل ولا أصدقاء ، عراة من كل شيء ، نرتدي العوز والندم  والحزن والجوع  جلباباً ، وهل يغني من برد أو من حر….؟ ، فيها أحسست بقيمة البيت، وأدركت أن قبر في بيتي  هو خير لي من فردوس الغربة ، مددت يدي لجيبي الخاوي ، لا أملك سوى الضئيل ، لا يغطي ثمن الخبز الحاف فقط ، ماذا سأطعم من جاع من عائلتي ؟ ماذا سأقول لأطفالي حين يلسعهم العوز بيده الحارقة ؟ أتلفت يميناً وشمالاً لا أدري ما أفعل ، وإن فعلت أين وفي أي مكان ….!؟  أرى كل شيء ليس لي، مبهم غريب لا جمال فيه ، حتى الاشجار تغيرت الوانها ولبست ثوبا ممزقاً ، اختفت الألوان من ذهني تماماً وتجمعت في لون واحد ، أسود ، رفعت يدي للسماء خجلاً من ربي متسائلاً ، وهل يغفر لي فعلتي تلك ، ماذا سأقول وانا المذنب بحق تلك العائلة التي جلبها معي طيشي ، رجوته باسمها خجلاً ، أن يفتح نافذة لهم فقط من دوني ولو بقدر ثقب إبرة الخياطة ، وأنا مستغرق بدعائي تذكرت رقم تلفون قد دسه في جييبي صديق قبل مغادرة الوطن قائلاً لو ساقك الدهر وسحقتك الظروف ، اتصل بهذا الرقم  ، قد يعينك ، أخذت قصاصة الورق منه  حينها دون أن أنتبه لما قاله ، ظني سلفاً أني متجه نحو فردوس  حقيقي تستقبلني عند بابه الملائكة ، فتشت الآن  جيوبي  كالمخبول حتى ظن أفراد عائلتي أن شيئاً لسعني من تحت ملابسي ، ووجدت قصاصة الورق الصغيرة  أخيراً ، كانت محيطاً من أمل ، بحاراً من فرج وانتظار ، طوف نجاة لغريق أيقن أنه هالك……..واتصلت ولا أعرف بمن أتصل، وماذا أقول ، لكني اتصلت فهو فرجي الوحيد في تلك الضائقة المقيتة : -” ألو…..ألو….!؟ كررتها مراراً كالمخبول ،

أمل مشدود بطرف خيط رفيع جداً قد ينجي إن صمد، وقد يهلك إن انقطع ، وصمد الخيط  بأعجوبة ، شملني الله برعايته ، لا… أنا متأكد أنه شمل العائلة و شملني معها من أجلهم هم وليس من أجلي، هو غاضب مني جداً ، وجاء الرد أخيراً من صوت رجولي غريب لم أسمعه من قبل : -” تفضل من أنت….؟” -” أنا فلان من طرف أخيك  فلان في الوطن وقد……!!” وسردت كل حكايتي بالتفصيل والتلعثم ، كلماتي تسابق بعضها البعض ، ازدحام من خطوات ، فوضى عارمة من حركة ، وتتعثر الواحدة بالأخرى من شدة التأثر واليأس الجاثم فوق صدري وظهري المهدود ، فهذا الصوت الغريب هو آخر رجاء لي وأول أمل سأزرعه في حقول ذلك الجحيم المقيت ، رب شيء بعيد عنك هو خير من قريب لا  يفيد بشيء ولا يثير حتى الإحساس، أعطاني الرجل العنوان وطلب مني السفر إليه مسافة عشرين كيلومتراً ، وفي الحال أخذت مركبة أجرة بآخر ما أملك من ثروة ، وأنا مبتسم فرح وكأني متجه نحو الفردوس ، وهي آخر مال بذلته من خيرات الوطن …. توجهت نحو عنوان غربتي الجديد ،

هي رحلة في عالم الغموض والغرابة والمجهول ، ربع ساعة وبلغت العنوان ،وكأني نزلت في سابع أرض ، شخص لا أعرف ، جزء من عالم مجهول لا أدرك ، سلمت وقدمت نفسي ، رحب بي كثيراً ، واتضح أنه يعرف أخي الذي سرقته الغربة  ومر بهذا الجحيم المستعر من قبل….. لم ألتفت لعصيان النوم وأنا في تلك الفوضى إلا الآن ، علمت أنه فضل البقاء في الوطن ، فهو أفضل مني، فارق عيني ، ولم يفارق الوطن ….وصراخ الصراع المحتدم في عقلي أفقدني قدرتي على النوم ، أيضاً وجعل السهد قيماً على أبواب غرف ذهني المترعة بالغيض والضجر والاستفزاز ، أظن أن  حرباً كونية محتملة الوقوع ، ستنفجر قريباً بين نفسي وضميري ، ونام أطفالي ولا تزال نظرة أمهم المعاتبة تشكل لي هاجساً وسوطاً يجلدني في كل نظرة من عينيها الباكية بصمت مميت كصمت القبور، لا أسمع نشيجه بل أحس به من اشتداد الحمرة في مقلها وهي تترصدني في كل حركة اقوم بها حتى نسيت صوتها تماما…..ويستمر الصراع كلما تزكي النار في صدري  اوارها ، من ما أنا فيه من أخطاء لا تغتفر ، زلة قدم فوق منحدر حاد أودى بي للهلاك ، لكن ما ذنب هؤلاء المساكين وخنقتني العبرة وقفزت من النوم فقابلني الصباح بوجهه الضاحك….. أقبل  مضيفنا يحمل صينية من الطعام، صبحني بخير الله وسلمها لي تحت شكري العميق وقال جملة جعلتني أبتسم لأول مرة منذ فراقي تراب وطني خلال رحلة الهلاك واليأس:  -” اتصلت بأخيك البارحة وكان الوقت متأخراً ولم أيقظك ، أراد أن يتكلم معك ، قلت له أنك نائم ، هو ينتظرك اليوم صباحاً….!” وبعد الفطور مباشرة سمعنا صوت مركبة تقف في باب المنزل وصوت مضيفنا يصيح : -” استعجلوا المركبة بالانتظار….!”  و انطلقنا ، وبعد نصف ساعة وصلنا إلى بيت أخي هناك في أعمق أعماق الجحيم…. و نحن نسوق انفسنا بعجلة نحو جحيم العذاب و الألم واليأس والذل والمهانة……. 

أحدث المقالات

أحدث المقالات