19 ديسمبر، 2024 1:00 ص

لا أدري فيما لو كانت اللغة هي التي تستخدم الشاعر كي يجسدها أم هو الشاعر من يفعل باللغة حفرا ً واشتقاقا ً ليعبر عما هو جوهري وعميق في البحث عما وراء اللغة .
مهمة الشاعر كما أتصورها في جانبها الحيوي ليس تفسير الأشياء ولا تجميل الأوهام بل تدميرها وفضح أقنعة من يفصّلون لنا هذه الأوهام حسب مفاهيم لم تعد تصلح للتأويل .
الشاعر لا يقف على ضفاف النهر , وليس من صفاته التحديق في السطح كي يرى صورته المرتسمة على الماء . لابد له من الغرق والغوص عميقا ً في اللجة للوصول الى الدرر ولا تغرنك الحقائق التي تعارف عليها الناس فليس هي سوى أوهام غدت مع طول الإستعمال لها حقائق بسبب إنا لم نمعن النظر والتدقيق فيها كونها جاءت كتعبير عن قوة مجتمعية إستخدمت شرعيتها من إرادة ما كأن تكون سلطة غاشمة أو هي تعبير عن رؤيا تمثل دوغما فكرية لها قوانينها الصارمة التي تخضّع الأفكار والرؤى لقوى غيبية بأسم الكائن الأسمى المتعال حتى لتوحي بان هذه الرؤيا هبطت من السموات العلى ولأنها كذلك فهي غير قابلة للدحض ولا السؤال .
قبل البحث عن الجمال والصنعة الفنية وتجريب الأشكال البلاغية لابد للشاعر من أن يخرق الأشكال نفسها كي لا يسقط في الأسلبة , من هنا هوسه بالمغامرة وفعل التجديد وبحثه الدائم عن لغة وأشكال غير مألوفة . هو بذلك يريد تطويع اللغة كي تسلس له الأفكار حتى لتغدو بين يديه صورا ً بديعة التكوين .
 الشاعر لا يستعير الأفكار ولا يلبّسها رداء تخيليا ً إنما يسعى لإعادة خلقها وتوظيف طاقتها الكامنة في نسيج اللغة . القصيدة بهذا المعنى فضاء مفتوح يختبر من خلاله الشاعر امكانيات اللغة حسب طاقته وتفجر خياله بعيدا ً عن القصدية ومطاردة المعنى تاركا ً للإنفعال وبكارة اللحظة حرية اصطياد المعنى المخبوء خلف الكلمات وبهذا يقول جوزيف جوبيه ( أن الشاعر يعرف ما يجهله ) ربما المجهول هنا هو ما تضمره الكلمات من معنى كامن تحت طبقات عميقة يكاد إستعمالنا اليومي لها حجب طاقاتها عنا حتى يأتي الشاعر ليمزق عنها ذلك الحجاب ويكشف لنا جوهرها الأصيل ,  الشاعر أضفى عليها أي الكلمات من روحه ومخزون ثقافته جوهرا ً ومعنى .
هل الجنون رديف العبقرية ؟ الجنون مفيد يقول مالارميه , انه مفيد كونه لا ينظر الى الأبداع كمعطى خارجي يحل في ذات المبدع , إذ هو ممارسة شعرية تعبر عن أفكار ليست متلائمة مع الواقع بالضرورة لكنها تخضع للتأمل ولقلق الذات الحائرة التي تحتدم عبرها كل تناقضات العالم .
الفن لعب يرقص الشاعر وحيدا ً في صالة فارغة إلا منه , عاريا ً لا تستره سوى الكلمات .
يرتفع صوت الشاعر بالغناء , بحنجرة مقطوعة وصوت شاحب ورأس يترنح من هول الكلمات التي تكاد تخرج من أحشائه يتماهى هو مع الصوت وكأنه العندليب الذبيح يموه عذابه بالغناء .
الشاعر حالم يكتب أحلامه والقراء يريدونه واضحا ً , ألا يدرون بأن الأحلام غامضة بطبيعتها , والشعر مثل الحب له أبوابه التي لا تفتح إلا من حاول فك طلاسمها وغاص في رموزها وإفتتن في اللعبة ذاتها .
الشاعر يعيش في الخطر , على حافة الجنون لأنه يصغي لأصوات تأتيه من حدائق سرية ومن الشوارع والتحديق في الوجوه والتردد على متاحف البشر ورؤيته للعذاب ولأنه يدخل الأزمنة يشقى وينوء بأحمال , يحب ويتمزق , يرى وتعذّبه الأسئلة ويظل يبكي وحيدا ً .
الشاعر ليس ملاكا ً وكلامه لا يوحى به , بل هو يصطاده من الواقع بعد أن يترك مساماته كلها مفتوحة لهواء يهب من ليل البيوت والغرف المقفلة .
الطفولة هي كنز الشاعر . يلعب مع الكلمات بحرية لا يضاهيها ولا يحدها شيء , وكالأطفال هو يتماهى مع الحرية في قدرته على الإبتكار والخلق بعيدا ً عن كل ما يخنق هذه الحرية خصوصا ً ومحاصرتها أو مصادرتها عبر مفاهيم وقيم عتيقة غير قابلة للتجدد ومجاراة الحياة في إيقاعها السريع المتحرك .
لابد من شاعر مجنون كرامبو أو هولدرلن أو أسعد البصري وأحمد القبانجي كمثالين عراقيين نحتاجهما لخلق مزيد من البلبلة والإدهاش ولكي يقلقا القارىء بشيء من الصعقة الكهربائية حتى لا يستسلم للأوهام والأفكار المضللة .