يسرني قبل تناول الموضوع أن اتقدم بالشكر والامتنان للصديق الكاتب والناقد، الاكاديمي العراقي الدكتور احمد مهدي الزبيدي، استاذ النقد الادبي في قسم اللغة العربية ـ كلية التربية ـ الجامعة المستنصرية، الذي قدم بحثاً تحليلياً ومهماً في النقد الثقافي عند مدني صالح، مما حفزني ودعاني للكتابة في هذا الموضوع، حيث سلط فيه الضوء على تجربة المفكر مدني صالح الطويلة في النقد الثقافي، والتي ربما سبقت تلك التجربة الكثير من الباحثين العرب الذين كتبوا في النقد الثقافي، ولكن مشكلة مدني صالح الكبيرة انه لا يحب الظهور ولا يحب أن تسلط عليه الأضواء الاعلامية، لأنه يجد نفسه أكبر من كل الاضواء والاعلام ولا يستوعبه أحد، وهو يردد كثيراً القول بأنه خجل كل الخجل من الظهور والاعلام المرئي. وهذا ما جعل مدني صالح يمتاز بالمحلية والعراقية والشعبية ويعشقها كثيراً، وهذا ما يكفيه فخراً وأعتزازاً وثقة، وأستطيع القول أن تجربة مدني صالح النقدية لم تنفك عنه أبداً، فمدني صالح والنقد، تؤمان لا ينفصلان، وبالنقد تشكل فكر وتجربة وثقافة مدني صالح، في كافة حقول ومجالات المعرفة.
يعد موضوع النقد الشغل الشاغل للمفكر والاديب العراقي مدني صالح ( ت 20/7/2007)، الذي لم يخل عملاً من أعماله الفكرية والثقافية والادبية، الا وبث في ثناياه موضوعاً نقدياً ما، سواء نقداً ثقافياً أو فكرياً أو فلسفياً أو أجتماعياً أو سياسياً أو فنياً أو جمالياً، فقد أدمن مدني صالح النقد وأتخذه منهجاً وطريقاً له في بناء مشروعه الفكري والفلسفي، كذلك أتخذ الادب وسيلة له في نشر فكره وبناء منظومته الثقافية والمعرفية، اذ انه عُرف بالاسلوب الادبي ذي المضمون الفلسفي، وهو أحد أعلام الادب الفلسفي في العراق والعالم العربي، وتعود جذور ذلك الاسلوب الى بواكير ثقافته الاولى، وتربيته وبيئته التي نشأ فيها، وقد دشن ذلك بصورة أكاديمية عند دراسته للفيلسوف الاندلسي لابن طفيل، فكره وأدبه وفلسفته، وعشقه لرائعته قصة (حي بن يقضان)، اذ تناول مدني صالح في دراسته العليا في جامعة كامبرج، ذلك الموضوع، وحفر فيه حفريات معرفية وبحثية كبيرة جداً جعلت منه رائداً من رواد البحث الفلسفي الرصين، وقُرن مدني صالح بحثياً وأدبياً بابن طفيل، ليس على مستوى العراق فقط وانما في العالم العربي، اذ اخُذت دراساته حيزاً واسعاً في المكتبات العربية، كما انه كشف في دراسته لابن طفيل عن وجود مخطوطات طبية وأدبية وأشعار تعود لابن طفيل، وهذا ما أثبته ودونه في كتابه (أبن طفيل قضايا ومواقف).
يمتلك مدني صالح من المنهج والاسلوب والفكر والثقافة ما جعل الكثير من الباحثين والادباء والمثقفين ينقسمون فيه فريقين: فريق معجب به ومحب لطريقته في الكتابة والتأليف ونقل الفكرة، وفريق حاسد له، وحتى هذا الفريق الحاسد يتمنى أن يكون البعض منهم مثل مدني صالح، شهرة وأسلوباً ومنهجاً وثقافة، فمدني صالح خاض في موضوعات ثقافية وفكرية وأدبية جمة، لم يخض فيها غيره من الكتاب بهذه الموسوعية والدراية والمعرفة وبهذا الاسلوب الادبي الممتع، وكان جُل اهتمامه منصب على النقد، بل يعده الكثير من الباحثين والكتاب، انه ناقد من الطراز الاول، وأمتاز نقده بالجانب العلمي والموضوعي، ولم يقصد من ورائه طعناً أو رفضاً أو تكفيراً، أو مساس بجهة ما أ بفكرة معينة أو شخصية بعينها في يوم ما، وهذا ما جعل مدني صالح مقبول من قبل كثيرين، وقد سجل الكثير من الكتاب والباحثين اعجابهم بفكره وثقافته وحسن أسلوبه وأدبه، ما يطول المقام هنا عن ذكره.
أستطاع مدني صالح بفكره وبمنهجه النقدي وبأسلوبه الادبي الممتع أن يصل الى طبقة كبيرة من الناس، من المثقفين وغيرهم من عامة الناس، من خلال ما كتبه من موضوعات اجتماعية وثقافية وفكرية ويومية تهم الناس وتناقش همومهم ومعاناتهم، في جرائد ومجلات عراقية كثيرة، وكل ذلك كان بأسلوب مميز وجذاب ينساق له القارىء وينجذب بسرعة اليه، وهذا ما جعل الكثيرين يقبلون على قراءته ويدمنون على أسلوبه وطريقة خطابه غير الممل الذي ألفه الكثير من القراء والمتلقين.
لقد كانت انطلاقة مدني صالح، بعد الكتابة الاكاديمية، التي كانت عن أبن طفيل كما أسلفنا، هو الاهتمام بقضايا الثقافة والادب والفكر، وتحليل كل ما يقرأ ويكتب، من موضوعات، وفق عقله النقدي الميال الى تصحيح الكثير من العادات والتقاليد والثقافات الهزيلة التي علقت في رؤوسنا والتي يعتقد الكثير منا بصحتها وقدسيتها، حتى أستطاع بمعوله النقدي أن يفكك ويحطم تلك الاصنام التي ورثناها والتي شكلت لسنين طوال موجهات لادراكنا ووعينا وعقولنا، ولكنها لا أساس لها من الصحة وفيها كثير من الخواء والخراب، ولكن العقل الصنمي قد سار ورائها دون نقد أ تمحيص، وهذا ما جعلنا نرفض النقد والنقاد ولا نتقبلهم بسهولة، لأننا نعتقد أن النقد يحط من قيمتنا وأصالتنا ويوجه سهامه علينا دون أي تقويم أو بناء أو تصحيح، وهذا خطأ كبير وأثم ثقافي عظيم لا يغتفر. ففي النقد العلمي والموضوعي البناء، تصويب كبير لأفكارنا وثقافتنا.
قضى مدني صالح زمن طويل مع النقد الثقافي، الذي شكل أفقه الفكري والمعرفي، وأستمر على ذلك الاسلوب عقود من الزمن، أنتج خلالها كثير من المؤلفات والكتابات، ومنها (هذا هو السياب) و( هذا هو البياتي) و( مقامات مدني صالح) و( بعد الطوفان) وبحوثه ومقالاته الكثيرة والكبيرة في الادب العربي وقضاياه ورواده، قضاها مع المتنبي والجاحظ والرافعي وطه حسين
والوجودية والمتصوفة والرومانسية، ولكن في العقدين الأخيرين من حياته كثف البحث والكتابة في موضوعات فلسفية بحتة، وموضوعات فيها من الجدة والتجديد الشيء الكثير، والذي تمخض عنها كتابه الأخير الذي يضم جميع بحوثه الاخيرة، في فلسفة التاريخ وفلسفة الفن والجمال وفلسفة الادارة وفلسفة التربية، غيرها من موضوعات فلسفية، بأسلوب نقدي فلسفي مميز، وحمل هذا الكتاب عنوان (بعد خراب الفلسفة) وهو عنوان نقدي بامتياز. حيث يحاكم فيه مدني صالح الفلسفة والفلاسفة والفلسفات وفق فلسفته النقدية ونقده الفلسفي الذي شكل بصمة مميزة لريادة مدني صالح الفكرية والثقافية. وهناك حقيقة لا يمكن أغفالها في هذا المجال وهي أنه قد يعتقد البعض أن تجربة مدني صالح في النقد الفلسفي شيء وتجربته في النقد الثقافي شيء آخر، ولكنني أقول كلا، فتجربته النقدية واحدة وذات طابع وأسلوب واحد وممتدة منذ ولادتها وحتى نهايتها، وهي تخبرك في الحالين وتدلك على مدني صالح، وذلك لأن أسلوبه واحد ومعروف لدى الكتاب والقراء، ولكن الذي أختلف في الامر هو الموضوعات والقضايا التي ناقشها، فالموضوع الفلسفي هو المسيطر على فكره في سنواته الأخيرة، وهذا ما أعلنه هو في حياته في كثير من الصحف والمجلات والمحاضرات، بأنه أتجه لدراسة وتحليل الموضوع الفلسفي الذي يشكل أختصاصه العلمي ومجاله البحثي، تاركاً قضايا الادب والثقافة التي قضى فيها وقتاً طويل في مشواره الفكري المبكر من حياته.
لقد ركز مدني صالح في نقده، سواء الثقافي أو الفلسفي، على المتلقي، او المثقف العربي، الذي ينظر بقدسية الى الانسان الاوربي والغربي، وكأنه سيد الكون، ولذلك كان ضعيفاً أمام الانسان الاوربي، وسعى لتقليده في كل شيء، رغم ان الانسان العربي لديه تاريخ وحضارة كبيرة تركت بصمتها على العالم، ومنها استمد الغرب الكثير من أفكارهم وحضارتهم، ولكن هيمنة الغرب الفكرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، وأمتلاكهم لكل وسائل الانتاج هي التي جعلت شعوب العالم خاضعة لها وتحاول تقليدها ما أستطاعت أليه سبيلاً. وكان التقليد العربي للانسان الاوربي واضحاً في كل شيء، الفكر والثقافة والادب والحياة، وهذا ما ضيع عليه أستقلاله وخصوصيته والضياع في الاغتراب الثقافي والفكري، والنزعة التغريبة في كافة المجالات، حيث يقول مدني صالح في احدى مقاماته وهي (مقامة الذين يغتربون ويغالون) : “لماذا لا يكون أمر الاغتراب في الثقافة مفضوحاً مثل أفتضاح أمره في النجارة وفي الحلاقة وفي الطب وفي كل الحرف والصناعات؟؟” مقامات مدني صالح. ص 54.
لقد سعى مدني صالح في كتاباته الى تحقيق الاستقلال الثقافي والفكري والحضاري للانسان العربي، والتخلص من عقدة الغرب ومركزيته وعبوديته وهيمنته، والتخلص من جميع الوصايات والاسيجة التي تحيط به من كل مكان، وهذا الامر عسير جداً وصعب المنال لأنه
يحتاج الى قوة فكر وثقافة وأقتصاد، وثورة اصلاحية كبيرة في كل المجالات، والانعتاق من الاسر المقدسات والاصوليات المقيتة التي تهدد وجودنا، ويحتاج الامر الى تظافر الجهود والى عمل جماعي ومؤسساتي كبير ليس بمقدور الافراد انجازه بمفردهم، وهذا ما حصل في الغرب وادى الى نجاحهم أكثر منا، لأنهم يتحركون وفق خطط وأستراتيجات وبرامج موسساتية مدروسة، اما نحن فلسنا منهم في شيء، وسنبقى شعوب تابعة ومقلدة ومستهلكة وضعيفة مالم نتخلص من عقدة السيد والعبد، التي تسيطر على طريقة تفكيرنا وتعاطينا مع كل الموضوعات ومجالات الحياة. وهذا ما جعل مدني صالح للقول: ” وانها لخيانة عظمى في رأي روبنصن كروزو أن يحلم العبد المتخلف بأي من درجات السيدة، فروبنصن كروزو سيد، وفرايدي عبد، والسيد سيد، والعبد عبد، وأنتهى الامر، فأنه الرق الجديد على مشارف القرن الحادي والعشرين، تحت رعاية أصحاب حق الفيتو، وحق القيادة التاريخية في الثقافة، علماً وأدباً وفناً، وفي الحضارة، سياسية وأخلاقاً وتشريعاً، وفي المدنية، زراعة وصناعة وعمارة ” بعد الطوفان. ص 49.
لقد شكلت قضية الخلاص من تلك العقدة الهاجس الفكري والثقافي لمدني صالح وأمنيته التي سعى للخلاص منها، وقد لازمته تلك القضية منذ بواكير دراسته العليا في الغرب، في بريطانيا في جامعة كامبرج، والتي حرمته من حصوله لشهادة الدكتوراه، وبسبب الخلاف الفكري الكبير الذي دار بينه وبين المناقشين له وما توصل أليه من خلال دراسته لآبن طفيل وبيان أثره على الادب الاوربي، وأسبقية أبن طفيل لدانيال دوفو في قصته روبنصن كروزو، واظهاره لبعض السرقات الادبية والفكرية التي قام بها بعض الباحثين الاوربيين من أبن طفيل، حيث يقول مدني صالح :” لكن وليكن فان قصة “حي بن يقضان” لأبن طفيل تظل أساساً في التراث الروائي، الذي صدرت منه وتطورت الرواية الاوربية الحديثة في زمن “دانيال دوفو” وقبيل مجيئه الى عالم الادب، ونحن اذ نرجح أمر أستفادة “دانيال دوفو” من قصة “حي بن يقظان” نرجح هذا الامر من باب أن هذه القصة قد كانت حتماً ضمن أحسن مقروءاته، لا على أنها شرط من شروط بداية الموهبة الروائية عنده على سبيل انها كانت عنصراً من عناصر بيئته الثقافية حينذاك” أبن طفيل. قضايا ومواقف. ص 178.
وقد بقيت أسرار كثيرة مكنونة لم يصرح بها مدني صالح في مسألة نقده للفكر الاوربي، ثقافة وفكراً وفلسفة وأدباً، والتي طرح البعض منها في كتاباته وبحوثه، وبقي الشيء الكثير لم يطرح، عسى أن يفاجأنا بعض الباحثين لبيانها واظهارها للثقافة العربية.