لو سال أي اميركي او ياباني او اوروبي عن تصوره لشكل حياته بعد خمسين سنة مثلا، فانه استنادا الى ما يعيشه من رفاهية وحرية وحقوق، وقياسا الى ما يشهده من انجازات في العلوم والتكنلوجيا وسرعة الاتصالات وتبادل المعلومات وغزو الفضاء وصناعة الروبوتات والتقدم الطبي، بامكانه ان يتخيل صورة تتعدى ما هو معاش وملموس حاليا الى حد اقترابها من الخيال، تلك الشعوب التي تعيش اليوم عصر ما بعد الحداثة، لم تحدد بعد تسمية العصر القادم، ولكنه سيكون عصرا غريبا، وسيمتزج الخيال الاني بالواقع المستقبلي بشكل قد لانستطيع تصديقه، نشر مؤخرا في احدى الصحف الاجنبية خبرا يتحدث عن تجارب لطائرات مدنية تختصر مدة الطيران من نيويورك الى دبي من 14 ساعة الى 40 دقيقة، بمعنى ان المسافر من نيويورك الى دبي سيستغرق نفس الوقت الذي يستغرقه ابن السيدية للوصول الى بغداد الجديدة، وهذا يعنى ان سرعة الطائرات المدنية في المستقبل المنظور ستكون اسرع باكثر من عشرين مرة مما هي عليه الان، اذن كيف ستكون سرعة الطائرات الحربية والصواريخ وسفن الفضاء؟ مع اننا قرأنا هذا الاسبوع عن تصنيع محرك دون وقود لنقل البشر الى المريخ برحلة تستغرق فقط ستة اسابيع، اخبار أخرى تتحدث عن نظام جديد للمرور يجري اعداده حاليا يستغني عن شرطي المرور تماما، فكل سيارة سوف تجهز بجهاز يسجل كل تحركاتها، السرعة والالتزام بقواعد واشارات المرور الى اعلى حد، ويرسل هذا الجهاز المعلومات مباشرة في حالة قيام السائق باي مخالفة الى دائرة الكترونية لتصدر بحقه الغرامة وفق القانون، الخيال العلمي الذي نشاهده في افلام السينما سيجد طريقه اليوم او غدا الى حياتنا، صناعة الروبوتات التي كانت ضربا من الخيال اصبحت اليوم مشاريع بسيطة ومعتادة لتخرج طلاب الجامعات، الاقمار الصناعية اليوم تسجل كل حركاتنا، وهناك حديث عن ابحاث تجرى حاليا لزرع شريحة الكترونية في جسم كل انسان تمثل هويته وجواز سفره ورخصة قيادته وبطاقة حسابه البنكي وتحوي كل تفاصيله الشخصية وايضا ستكون بمثابة هاتفه النقال اذ ليست هناك حاجة لحمل هاتفه بيده، كل شيء في هذه الشريحة، وهي سترتبط بالدماغ وتتفاعل معه بشكل كامل، وترتبط هذه الشريحة بالاقمار الصناعية لتحدد تحركاته وفعالياته، العالم بعد خمسين سنة سيحولنا الى آلآت، وربما وهذا مرجح للحدوث قريبا صناعة اشخاص آليين يشاركوننا الحياة على هذا الكوكب كما نرى ذلك في افلام الخيال العلمي خاصة بعد الخبر الذي نشر هذا الاسبوع عن نية جراح ايطالي استبدال راس شخص روسي براس شخص اخر عام 2017، قد يعتقد البعض ان هذا الكلام مبالغ فيه كثيرا، ولكننا اليوم وليس في المستقبل نخضع بشكل او باخر لحكم الالات التي نصنعها، فالكومبيوتر اصبح يتحكم باجزاء كثيرة من علاقاتنا، ومعاملاتنا، في الدول المتقدمة مثلا، لم تعد بحاجة الى مراجعة الدوائر الرسمية لقضاء معاملاتك واوراقك، اصبح الكومبيوتر هو الدائرة الحكومية امامك، لست بحاجة الى مراجعة موظف والتوسل اليه ( بروح موتاك وعليك العباس ولخاطر الحجي وما الى ذلك) ضغطة زر وكتابة معلومات معينة وينتهي كل شيء، بيع وشراء السيارة وتحويل ملكيتها قد يحتاج في العراق ومصر ودول اخرى الى ايام، ولكنه في اوروبا واليابان لا ياخذ منك سوى دقائق، ضغطة زر في الكومبيوتر يمكنك من خلالها نقل ملكية السيارة وتامينها في شركات التامين وغير ذلك، اصدقاؤنا الذين نحب لقائهم وتبادل الحديث والنكات معهم، لم يعد مهما ان يكونوا جالسين قربنا، فالكومبيوتر يجعلك تلتقي باصدقائك في اي مكان كنت وكانوا سواء بعيدين ام قريبين، حتى العلاقات الجنسية اصبح للكومبيوتر دور كبير فيها، كل شيء
يتجه في العالم الى ان تكون الالة هي الحاكم المطلق وهي من ستقرر حقوقنا وواجباتنا وعلاقاتنا بعدالة لاتشوبها شائبة، بعد خمسين سنة من الان سيكون ليس من المقبول تماما ان يتحكم شخص غبي او تافه بمصائر الناس ويفرض عليهم اهوائه واراءه ومزاجه..
وبالمقابل وعلى طريقة النكات العراقية المعروفة، اذا سالت اي عراقي عن تصوره لمستقبل العراق بعد عشر سنوات وليس خمسين سنة كما يمكن للاميركي او الياباني ان يتصور، فماذا تتوقع ان تكون اجابته؟..
الشعب سيكون اكثر ايمانا، ازدياد عدد رجال الدين مع ازدياد عدد المصلين، ازدياد عدد الجوامع والمساجد والحسينيات، مضاعفة ايام اللطم والتطبير، مضاعفة ايام الزيارات والعطل الرسمية، زيادة عدد الميليشيات وتوسع بعضها وانشطار بعضها وتفريخ بعضها، نمو العصابات وشمولها بقانوني التقاعد والخدمة الجهادية، وتكاثر السحرة وقراء الغيب والفنجان وتطور ونمو امكانياتهم بالاتصال بالجن والملكوت..
في الحقيقة لا احد بامكانه ان يتخيل صورة للعراق والعرب عموما بعد خمسين سنة من الان.. كل المراقبين والباحثين والمحللين لايمكنهم اليوم تخيل ما يمكن ان يحدث للعراق حتى في المستقبل القريب جدا، وأكفأهم يمكنه ان يعطيك الخيارات المتاحة للعراق ما بعد تحرير الموصل، بعضهم يعتقد ان العراق ماض الى التقسيم، والبعض الاخر يعتقد ان ثمة فرصة للاصلاح والثورة، كل هذه تصورات وربما امنيات يطلقها المحللون استنادا الى اهوائهم وربما ايضا لترويج افكار من يدفع لهم، الاكراد مثلا ينادون بالانفصال منذ ايام صدام حسين، ولكنهم لم يفعلوا ولم يقرروا للان، انما هي تهديدات لاغراض الحصول على اكبر ما يمكن من المكاسب، والسنة يطلقون دعوات الاقلمة بين حين واخر ولكنهم لم ولن يكونوا جادين ابدا، ذلك ان حياتهم الاجتماعية وتاريخهم الاجتماعي والسياسي لم يكن محصورا بمحافظة دون اخرى، انما هم متواجدون في كربلاء مثلما متواجدون في البصرة، ولكن هل هذا يعني ان التقسيم لن يقع، ام ان الثورة لن تقع، كل هذه احتمالات قائمة مثل احتمال عدم حصولها ايضا، فالمستقبل في حقيقته هو ما نصنعه نحن، ونحن في العراق لانعرف بالضبط ما سوف نصنع، هل سنجزئ البلاد ام سنقوم بثورة ، ومن الذي سيقوم بها، هل التيار الصدري من سيقودها، اذن كيف هي احوالنا بعد ذلك؟..
اننا في الحقيقة، عراقيون وعرب ومسلمون نغرد خارج السرب، ونعيش على الهامش وخارج ايقاع الزمن والحضارة، بل نتجه في بعض الاحيان عكس الاتجاه، ففي حين يتجه العالم الى مايسمى بعصر الانتماء الكوكبي، اي ان يتحرك العالم كله بتناغم حضاري وتعاون وتفاهم مشترك مع مستوى متقارب من الحقوق والحريات والواجبات، نحاول تقسيم انفسنا الى طوائف ومذاهب وعشائر وميليشيات، والامرُّ والادهى اننا مازلنا نخفي في دواخلنا خلافاتنا الغبية حول علي وعمر وعثمان، لنصبح ضحية بيد من يطمع للسيطرة علينا، أو لتنمية شعبه وتحقيق رفاهيته وسعادته على حساب موتنا وبؤسنا اليومي..
بعض المتفائلين، وانا منهم، يمكنهم ان يقدموا صورة مختلفة تماما لعراق الحاضر، صورة تستند الى قاعدتين اساسيتين: الاولى هو الفشل المحتوم للاسلام السياسي والدولة الدينية، والثانية روح العصر الذي نعيشه الان وسنعيشه لاحقا بتماس اقوى بكثير مما كنا نعيشه سابقا والذي يشكل اضافة الى كونه عنصرا مهما للتقدم، فهو في الاساس احد اسباب فشل الدولة الدينية، وفشل الدولة الدينية لايعني فشل الدين او نهايته، فالدين هوية انسانية عميقة، وحاجة روحية اساسية، ولكن (وربما هذا ما يصعب تصديقه)، مثلما تمكن الغرب من خلق
دين مسيحي جديد ملائم لحياته وتطورها، فاننا ايضا قادرون على التعرف من جديد على حقيقة الاسلام وروحه الالهية التي لخصها النبي المصطفى بحديثه ( المسلم من سلم الناس من لسانه ويده) مثلما قادرون ايضا على اكتشاف اصل فكرة الحداثة والتجديد التي يعيشها ويتغنى بها الغرب اليوم، والتي كانت اسسها وبداياتها مقولة الامام علي التي لم نأخذها على محمل الجد مثلما اخذنا فتاوى بن تيمية وعبد الوهاب واخرين: (لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، هاتان الفكرتان سيكونان في الزمن القادم هما لب الاسلام وفلسفته الحديثة واسس قواعده وشرائعه ، وروح العصر القادم ستتخطى بكل تاكيد، رجال الدين وتخلفهم وسمومهم وتظليلهم وطائفيتهم، وستهتم أيضا بسعادة الانسان اكثر من اي شيء آخر، ولعل الكثير منا ضحك واستهزأ ولم يسأل نفسه: لماذا استحدثت الامارات العربية وزارة للسعادة؟.. والجواب بكل بساطة ان هذه الدولة الصغيرة انما هي مختبر للانتماء الكوكبي، فهي ليست عربية الا كونها في اراضي العرب، والعالم بعد ان حقق للانسان اعلى مستوى من الحريات والحقوق واحترام الخصوصية، اصبح مطالبا الان بتحقيق اعلى قدر من السعادة، السعادة هي الجواب الحقيقي لسؤالك ايها التعيس: لماذا خلقنا الله؟..