20 ديسمبر، 2024 3:17 م

فشافيش اكبادُ الجواميس

فشافيش اكبادُ الجواميس

أتخيل أن في واحدة من مقامات ابي فرج الاصفهاني صاحب كتاب الاغاني وهي تتحدث بطرافة وسجع وتشويق عن حب الملوك لجلسات شواء اللحم في مواسم الصيد او موائد القصور ، والمشوي من اللحم يبدأ من لحم الغزال وانتهاء بلحم طيور القطا .
ربما يشعر الملوك أن اللحم المشوي محصن من اي شيء يلوثه بفضل النار ، وكذلك ذكر لهم اطبائهم وعرافيهم أن النار تقتل تأثير السم في الأكل ، وكان السم هو اكثر ما يُقتل فيه الملوك في المؤمرات والانقلابات التي تحاك ضدهم . ومئات من الافلام السينمائية فيها مشاهد عن تخبئة السم في خاتم الوزير او الجارية او الزوجة ثم رشه في كأس خمرة الملك أو عصير البرتقال أو الزبيب لاجل القضاء عليه.
واظن ان بسبب شراهة الملوك على اللحم المشوي اتاهم وبنسبة كبيرة داء النقرس والذي يسمى داء الملوك وهو الانتفاخ والتورم والالم الذي يبدأ من كعب القدم واسفله ، ومن مسبباته الاكل المفرط للحم المشوي.
في بيتنا الذي حصنه الفقر حتى عن تخيل لحم الغزال او الديك الرومي ، كانت امي تكره الشواء بسبب تلك الرواية التي   تروى في غزوة أحد عن استشهاد حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه على يد وحشي بن حرب، ثم شوته واكلته هند بنت عتبة من كبد حمزة لأنه قتل اخوتها واعمامها في معركة بدر.
بسبب هذه الرواية أو ربما لسبب آخر وهو أن ابي لايستطيع في رزقه اليومي من توفير اللحم .وعلينا وعلى مدار عام انتظار نذور الميسورين في محلتنا وهم يوزعون الرز واللحم في ايام عاشوراء أو مآتم من يفقدون من اهاليهم او يأتي اللحم طازجا بصحون يوزع على البيوت في اضاحي الموتى في العيد الثاني . وهذا لايجوز شيه كما في العرف السائد بل يطهى لانهم يعتقدون ان عملية شواء لحم الاضاحي يعيد مشهد شي البشر الذين ينتهي بهم عملهم في الحياة الى نار جهنم.
لكني في طفولتي ابقيت حبي للحم المشوي بسبب تلك الحفلات الاسطورية التي كانت تصورها لنا حكايات شهرزاد عن غزلان تشوى على الجمر في ليال الرشيد العباسي ، أو تلك التي كنا نشهدها في بلاطات الاغريق والفرس وروما في قصور الملوك في الافلام الهندية ، لهذا متى صار لدي خمسة فلوس او عشرة ربحتها من لعبة ( الدعبل او الجعاب أو الطرة كتبه أو اللكو ) في العيد ذهبت مسرعا الى رجل ( أعمص ) يرتدي العقال ويفترش الارض في سوق الخضرة حيث تجلس الخبازات وامام محل الحاج عبد ابو الكبه صاحب الموكب الحسيني الشهير في الناصرية ، يجلس رجل نحيف وبعقال نسيت اسمه ويضع امام منقلة مليئة بالجمر ويبيع الكبدة الرخيصة التي كنا نسميها ( الفشافيش ) وأغلبه لحم كبدة الابقار والجواميس . وأظن انه هذه التسمية اتت بسبب ان كبدة البقر والجاموس تكون منفوخة وسعرها رخيص جدا . فبعشرة فلوس يضع لك الرجل خمسة اصياغ من الفشافيش وقرص رغيف وفحل بصل وتفترش الارض مع حشد من الفقراء المجتمعين حول منقلة الشواء ، حيث تمتلك السعادة والشهية التي يحملها رائحة دخان الشواء ، فتشبع قبل أن تأكل .
صورة ( الفشافيش ) حملت احساسيسها ولحظتها السريالية الى ايام التعليم في واحدة من قرى الاهوار ، عندما يشتهي المعلمون ان تكون مائدة العشاء لحما مشويا ، فنرسل احدهم الى قضاء الجبايش ليشتري لنا الكبدة واللحم ، وكنا حين ندعو موظفي الخدمة في المدرسة وهم من ابناء القرية ، كانا يسألان إن كان بين اللحم فشافيش لكبد الجاموس لانهم لايحبون تناولها ، وعندما نسأل عن السبب :يقولون : نحن لانأكل اكباد ما هو مصدر عيشنا ورزقنا وحياتنا .
أحدهم قال :متى اضع الفشافيش في فمي اتذكر جاموستي ( وردة ) فأخاف عليها ان تصاب بعاهة فينصحني الناس بذبحها قبل ان تموت ، وقد نفعل هذا مرغمين وبحزن ولكننا لانشوي اكبادها ، فبعضهم يدفنه ، وبعضهم يرميه في مياه الاهوار لاننا نعتقد ان كل الاداء الذي يأتي للجواميس هو على في اكبادها.
وهكذا كنا نتحاشى جلب كبد الجاموس بالرغم من سعره الرخيص احتراما لمشاعر معدان قريتنا.
ولكني وشوقا وحنانا لايام ذلك الطيب الذي يفترش الارض ويبيع الفشافيش في سوق الخبازات في الناصرية ، والقريب من بيتنا ، كنت احرص ايام العطل والجُمع ان اذهب الى ذلك الرجل الذي ظل جالسا في مكانه طوال فترة الخمسينيات والستينيات وبداية سبيعينات القرن الماضي.
ذات يوم عدت الى الناصرية وانا اشتاق الى طعم فشافيش ذلك الرجل وكنت وقتها لا اخبر معدان قريتنا اني اتناول اكباد جواميسهم مشوية خلال العودة الى البيت .
وجدت المكان فارغا ، ومن يجلس حوله من الخبازات ينظرن الى المكان الخالي من منقلة الجمر بحزن وربما شاهدت آثاراً لدموع على خدود بعضهن.
عندها عرفت ان صاحب المكان قد توفي منذ يومين . حزنت مثلهن ، ووها أنا أرى واعيش واسافر الى عشرات المدن في هذا العالم ، فلم اجد بائعا مثله يفترش الارض ببساطة وحنو ويبيع للفقراء الفشافيش .

أحدث المقالات

أحدث المقالات