تطرقنا في الحلقة السابقة إلى حادثتين تدعوان للتأمل، الأولى بشأن التوأم العراقيان المعوقان اللذان تخلى عنهما والديهما العراقيان وربتهما إمرأة أسترالية، والحادثة الثانية بشأن الطفل عمار الذي قتل جميع أفراد عائلته بهجوم صدام عليهم في الأهوار وقامت النائبة البريطانية (أيما نيكلسون) بعلاجه في بريطانيا وطلبت أن تتولاه إحدى العوائل العراقية في بريطانيا فلم تستجب أي منها، فكفلته النائبة البريطانية وعاش في بيتها وجلبت له مدرساً لتعليمه اللغة العربية والإسلام والقرآن.
هاتان الحادثتان تثيران الكثير من الأسئلة، لو بقي هؤلاء الأطفال الثلاثة في العراق فما يمكن أن يكون مصيرهم ؟ ؛ لماذا نحن لا نتعاطف مع هذه الحالات من أبناء وطننا لدرجة إستعدادنا لتربيتهم في بيوتنا؟ ؛ ألإسلام هو دين الرحمة والإحسان والعدل وألإيثار، فأين هذه القيم التي يدعو لها ديننا؟ ؛ هل تصرف المرأة الأسترالية نابع من عقيدتها وتصرفات أبناء وطننا نابع من عقائدنا ؟
في صيف عام ١٩٧٦ سافرت إلى إنكلترا، فركبت قطار الأنفاق مع ابن عمي الذي كان يسكن هناك ، حيث يجب دفع سعر البطاقة قبل ركوب القطار، ولكن مكتب بيع البطاقات كان مغلقاً، فركبنا القطار الذي توقف في عدة محطات قبل الوصول محطتنا الأخيرة، وقبل الخروج كان هناك مكتب صغير يسمى (Access Office) حيث أخبرناه اننا لا نملك بطاقة، فسألنا عن المحطة التي إنطلقنا منها، فأخبرناه عنها، فطلب منا مبلغاً من المال إستناداً على المسافة التي قطعناها بالقطار؛ فسألت إبن عمي لو أننا خدعناه وذكرنا محطة أخرى أقرب فهل سيأخذ مبلغاً أقل، فكان جواب إبن عمي بالإيجاب، ولكنه أضاف إن هناك ثقة متبادلة والناس عادة لا يكذبون بل يقولون الحقيقة ويدفعوا ما يجب عليهم دفعه (طبعاً هذا الأمر كان عام ١٩٧٦ حيث تغيرت بعدها الكثير من عادات الناس هناك)……
لقد أثرت بي هذه الحادثة وقررت أن أسأل السيد الشهيد محمد باقر الصدر حيث كنت اتردد عليه في النجف، فقابلته وذكرت له هذه الحادثة؛ ثم سألته (هل حسن تصرف الكثير من الناس في الغرب وتمسكهم بالصدق والعدل ناتج عن عقيدتهم المسيحية لفترة مقاربة لألفي عام؟، وهل سوء تصرف الكثير من المسلمين في بلادنا من التحايل والكذب ناتج عن عقائدنا؟) فأجابني السيد الشهيد رضوان الله عليه إجابة مباشرة وكأنه قد عاش معهم في الغرب……وقال (هذه التصرفات لا علاقة لها بالدين، بل هي مرتبطة إرتباطاً مباشراً بالحاكم، ففي الغرب يشعر المواطن بأن الحاكم في بلده يعمل بإخلاص من أجل بلده ومن أجل مصلحة المواطنين، فتتعمق ثقة المواطن بحكومته، وعلى أثرها يخلص المواطن لبلده ولحكومته ويتعامل مع مؤسسات الدولة كافة بثقة وبصدق وإخلاص، وتنعكس آثار هذه العلاقة في تعامل المواطن مع المواطنين الآخرين، فتعم وتتعمق أجواء الثقة والصدق بين أبناء الوطن الواحد، وبمرور الوقت يكتشف أبناء الوطن الواحد أن هذه الصفات تصب لمصلحتهم جميعاً، فتترسخ هذه الصفات، ويتحول هذا السلوك بمرور الوقت إلى حالة من (المراس الحضاري) [وهذه أول مرة أسمع بهذا التعبير الذي إستخدمه السيد الشهيد في ذلك الزمن]، أما في بلداننا (والكلام للسيد الشهيد) فالحاكم هو عدو الشعب وهذه العلاقة العدائية تنعكس بشكل سلبي على العلاقة بين المواطن وبين الحاكم وبين المواطن وبين الدولة ومؤسساتها، وتنعكس آثارها السلبية عى العلاقة بين المواطنين أنفسهم، فالدين بشكل عام لا علاقة له بالقيم الأخلاقية العالية التي يتمتع بها الكثير من المواطنين بالغرب بل يرجع الفضل في ذلك لحكامهم، كما أنه لا علاقة بالمرة بين الدين وبين سوء الخلق والإفتقار للكثير من القيم الأخلاقية للكثير من المواطنين في بلداننا، بل المسؤول الأول عن هذا الإفتقار للقيم الخلقية العالية في بلداننا هو الحاكم) (إنتهى كلام الشهيد الصدر)
في الحقيقة كان من المتوقع أن تنقلب الأمور رأساً على عقب بعد سقوط نظام صدام عام ٢٠٠٣، حيث سيحكم العراق الإسلاميون الذين يؤمنون بالإسلام وبقيم الإسلام العالية والعمل من أجل مصلحة البلد والمواطن وسيشعر المواطن أن ألحاكم يعمل بإخلاص من أجل البلد ومن أجل مصلحة المواطنين، وبذلك سيتغير تعامل المواطن مع الحاكم ومع مؤسسات الدولة، وستنتشر القيم الخلقية العالية ويتعامل المواطن مع أخيه المواطن بالصدق والثقة والإخلاص والحب والإحترام، بل من الطبيعي أن يرتفع المواطن في العراق بقيمه الخلقية عن القيم الخلقية للمواطن في الغرب بسبب ترسخ القيم الدينية في الشرق أكثر من ترسخها في الغرب، وهذا عامل آخر مساعد لتطور المجتمع وإنتشار قيم العدالة والصدق والإخلاص وتقديم المصالح العامة على المصالح الخاصة…….
ولكن للأسف الشديد النتائج المتحققة كانت خلاف التوقعات، والسبب لا يخفى على المواطن اللبيب……