18 ديسمبر، 2024 11:28 م

نوري أفندي والي بغداد

نوري أفندي والي بغداد

لم يكن بوسع التوافق الأميركي – الايراني أن يحقق أهدافه في العراق إلا بكسر الوحدة الوطنية العراقية , وكذلك قيل للعراقيين فور استكمال غزو بلادهم أنهم فسيفساء دينية وعرقية لا روابط لها خارج حدود أرضها , وأن ما يقوله التاريخ وتشهد به الجغرافيا وما تفرضه مطالب أمن العراق باعتباره جزءاً من أمة واحدة تمتد من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي , إنما هي أوهام من هرطقات حزب البعث والقوميين العرب , وقيل للعراقيين أيضاً أن هويتهم مسلمين ومسيحيين تحددها الطائفة التي ينتمون اليها , وأن اليزيديين أكراد رغماً عن أنف التاريخ وحقائق علم الأجناس ” الأنثروبولوجيا ” , أما الصابئة الذين ذكرهم القرآن الكريم بالخير , فقد أُسقطوا من الحسابات الأميركية و حسابات النخبة الحاكمة العراقية . مقابل ذلك كله جرى التعامل مع الأكراد باعتبارهم جماعة قومية لها مطالب سيادية في العراق وفي دول جواره , وكأنهم شعب من الوثنيين مقطوع عن ديانات البلد . وقد تكون سياسة الهيمنة الأميركية – الايرانية مفهومة ومتوقعة في بلد بحجم وموقع  وغنى العراق , وقد شهد التاريخ وقائع مماثلة ردّت عليها الشعوب الحيّة بثورات وتضحيات انتزعت بعدها حريتها وسيادتها , ولكن المفاجأة كانت في العراق أن أحزاب الإسلام السياسي تواطأت مع التوافق الأميركي – الايراني , ومقابل إطلاقه يدها في نهب الثروة الوطنية و المال العام , فقد سخّرت سلطتها في خدمة أهداف ذلك التوافق وتنفيذ سياساته المعادية لمصالح وأمن العراق وسائر الاقليم العربي ؛ ففور وصول الحاكم المدني الأميركي ” بول بريمر ” الى بغداد , أقام مجلس حكم عراقي وزّع مقاعده على ممثلي الإسلام السياسي وفق انتمائهم الطائفي , وكانت حصة الأكراد فيه متكافئة مع تاريخ خدمتهم للولايات المتحدة  , وحتى الليبراليين المتأمركين لم ينجوا من الوصمة الطائفية إذ احتسبت مقاعدهم من حصة الطائفة التي ينتمون اليها
                              
في ظروف غامضة كانت المحكمة الدستورية العليا طرفاً فيها , باشر حزب الدعوة عقب الانتخابات الأخيرة تنفيذ خطته للإنفراد بالسلطة تاركاً مواقع ثانوية فيها لرفاق الأمس , وملقياً بمناصب شرفية بلا سلطة فعلية لخصومه السنّة  , و في حين أنه استأثر بمجمل  المواقع المهمة في دوائر الدولة المدنية والعسكرية , فقد قبض زعيمه بيد من حديد على كل مفاصلها التنفيذية , وكذلك تحوّلت القائمة العراقية التي فازت بأكبر نسبة من أصوات الناخبين الى شاهد زور قنع ممثلوها النهمون للمال العام بفتات الغنيمة , ثم راحت تلك القائمة تتشظى الى مجاميع صغيرة تبحث عمن يشتري ولاءها   وبدا جلياً أن السيد نوري المالكي يمهّد لفرض نفسه ولأمد غير منظور حاكماً مطلقاً على العراق باستثناء المناطق الكردية بطبيعة الحال؛  ولقد كان ممكناً لمخطط حزب الدعوة أن يلقى النجاح لولا أن حكمه قد فشل في التقدم خطوة واحدة على طريق حل أي من المشاكل التي يعاني منها البلد وأهله , و قد حاول أن يغطي فشله المدوي تارة عبر إلقاء المسؤولية على حزب البعث والإرهاب المتأسلم , وتارة على أطراف عربية واقليمية , دون أن يجد واحد من قادته الشجاعة الأخلاقية ليعترف أن حزبه غير مؤهل لحكم زقاق من أزقة العراق لأنه ببساطة لا يمتلك دليلا نظرياً لبناء دولة ومجتمع , فتراثه الفكري يقتصر على كتابين لا علاقة لهما بروح العصر ألفهما السيد محمد باقر الصدر – رحمه الله – في حين أن إرثه العملي محفوظ في ذاكرة العراقيين على شكل عمليات تفجير و إرهاب وتخريب واغتيالات نالت من الأبرياء بأكثر مما نالت من النظام العراقي السابق .
ليس بوسع حزب الدعوة بالمواصفات الأخلاقية والوطنية لقادته ولشركائه الصغار , أن يقدم شيئاً إيجابياً للعراق وشعبه , فالجزء الأكبر من الثروة الوطنية يتسرب الى جيوب النخبة الحاكمة عبر الرشاوى والعمولات والسرقة البواح , والكفاءات الوطنية القادرة على العمل والبناء يجري استبعادها بسبب انتمائها الطائفي أو السياسي أو لأن المواقع الحساسة محجوزة لحصة هذا الطرف الطائفي أو ذاك , وانحصر القرار السياسي العراقي في محيط العاصمة بغداد وتحديداً بالمنطقة الخضراء وحصراً بمكتب رئيس الوزراء , وكذلك وجدت المحافظات العراقية نفسها تتحمل لوم وتقريع واتهامات جماهيرها لعجزها عن تقديم الخدمات الأساسية لها , وتحملت محافظات العراق وزر استهتار المركز وعجزه وطغيان الفلتان والفوضى اللذين يسودان هيكل الدولة وترديها الفاضح , فكان الحلّ الوحيد أمامها هو أخذ زمام أمرها بيدها و اللجوء الى مواد الدستور التي كان من سوء حظ المالكي أن الإسلام السياسي قد أصرّ مع الأكراد على تثبيتها برغم  اعتراض كل القوى الوطنية العراقية وقتها , وهي تلك المواد المتعلقة بالفيدرالية وبحق المحافظات في تشكيل أقاليم تتمتع بالحكم الذاتي كعنوان كبير لما أسموه بالعراق الجديد . والمدهش أن حزب الدعوة وحلفائه في الائتلاف الوطني أطلقوا حملة مسعورة ضد مشروع اقليمي صلاح الدين والأنبار وكالوا لهما ما يحتمله الموقف ومالا يحتمله من اتهامات حول امكانية تحوله الى بؤرة ثورية لحزب البعث , في حين لم يجرؤ واحد منهم على توجيه كلمة عتب للاقليم الكردي الذي أضحى وكراً للجاسوسية الاسرائيلية ولغسيل الأموال وتهريب المخدرات , ويوشك أن يستكمل مقوماته كدولة مستقلة ,  كذلك كان ردّ المالكي وحزبه منكسراً وذليلا على مطالب محافظات الجنوب بإقامة اقليمها , مما يفضح الغلّ الطائفي والاستخذاء القومي اللذين تطفح بهما صدور الدعوجية وحلفائهم ؛  إن أي خبير قانوني سيخبر السيد المالكي أن مواد الدستور صريحة وغير قابلة للتأويل وهي تفسح الطريق رحباً ليس فقط لقيام أقاليم في العراق وإنما لقيام دول منفصلة عنه  أيضا , وكذلك سيجد السيد المالكي نفسه بين خيارين كلاهما مرّ , فهو لا يملك  أن يحول دون قيام الأقاليم إلا بخرق الدستور واللجوء الى القوات المسلحة لقمع المحافظات مجازفاً بإشعال حرب أهلية لن تكون مضمونة النتائج , أو الرضوخ للمطالب الدستورية لمحافظات صلاح الدين والأنبار والبصرة وميسان وذي قار والنجف , و في هذه الحال عليه أن يقنع بلقب نوري أفندي والي بغداد , باعتباره اللقب الملائم لمعلم المدارس الابتدائية .    
…………………………
…………………………
بدأت البذور التي نثرها الاحتلال الأميركي والتآمر الكردي – الصهيوني على أرض العراق , وبتواطؤ مع الاسلام السياسي , تؤتي أكلها اليوم على شكل ثمار سامة أوشكت أن تنضج لتتفجر فتناً طائفية وحروباً أهلية ستنتهي بتقسيم العراق وتشظيه وضياع دمه بين أميركا و تركيا وايران , والعراق ليس أول بلد يضيّعه جهل وتآمر الاسلام السياسي  فقد سبقته أفغانستان وايران والصومال وليبيا , وقد تلحق به دول أخرى يعلمها الله والراسخون بالتآمر مع الولايات المتحدة وحلفائها.