في سهرة في منزل مسلمٍ باكستاني في لندن ظهر، فجأة، فيلم جنسي فاضح على شاشة التلفزيون، فأسرعت ربة المنزل إلى تغيير القناة. ولكن زوجها سأل ضيفه العربي: متى يعرض فيلمٌ من هذا النوع في السعودية؟ فأجابه على الفور: عندما تصبح أنت ملكا على بريطانيا العظمى.
ووزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف، هو الآخر، تعرض لسؤال من هذا النوع: متى تخرجون من العراق؟، فرد على الفور: ” عندما تطلب الحكومة العراقية منا ذلك”.
وهو يعلم، ونحن نعلم، والعالم كله يعلم، بأن الحكومة العراقية إيرانيةُ القابلة التي ولـَّدتها، والمرضعةِ التي أرضعتها، وقماطِها، ومهدِها الذي قـُدَّ من خشب قم وطهران. فكيف لها أن تنطق وهي في المهد صبية، ومُربَّطة بذلك القماط المتين؟.
ورغم أن هذا هو حال حكومتنا (الوطنية)، حيث إن رئيسها وكل إخوته في حسينية (التحالف الوطني) الحاكم موظفون مطيعون، ولا أمل في عتق رقابهم وقلوبهم وألسنتهم المربوطة بحبال الولي الفقيه، فإن قاسم سليماني أثبت أنه لا يأتمن (عربيا)، حتى لو كان حيدر العبادي وغيره من شيعة السفارة الإيرانية ومن عبيدها المخلصين. فقد سلط على حكومته العراقية هذه، وعلى التي قبلها، والتي قبل قبلها، مليشاتٍ أقوى من كل جيوش الدولة، وأشد بأسا من كل قوى أمنها، وأعلى منها سلطةً وسطوة، لتكون عليها رقيبا وحسيبا، علنا، وعلى رؤوس الأشهاد.
وقد قالها هادي العامري صراحة، في تصريح صحفي، مؤخرا، ردا على السفير السعودي الذي قال إن إيران تهيمن على شؤون العراق. قال العامري: “لا السفير السعودي ولا الأمريكي ولا حتى الوزراء الأمنيون في العراق قادرون على التأثير في القرارات التي تخص شن العمليات العسكرية على الفلوجة “.
وهو صادق فيما يقول. إذن والحالة هذه فإن احتمال طلب الحكومة العراقية من جواد ظريف أن يسحب جيوش وليـِه الفقيه من العراق، وقاسم سليماني من معارك الفلوجة، بوجه خاص، أبعدُ من احتمال أن ُيتوج باكستانيٌ مسلم ملكا على بريطانيا العظمى، بكثير.
والآن تعالوا نتأمل هذه الصورة المفزعة. تجمعت حول الفلوجة جيوش حيدر العبادي، كلها، وجيوش نوري المالكي وعمار الحكيم، بقضها وقضيضها، ومليشيا بدر، وعشراتٌ من أخواتها (المجاهدات)، ومونتغمري زمانه، قاسم سليماني، ومستشاروه العسكريون والمدنيون، يرافقهم مجندون من عشائرَ أنباريةٍ نزلوا لحصار أهل مدينتهم، بزعم كرههم لداعش، تارة، وتارة أخرى لمنع المليشيات الطائفية من دخولها، بعد تحريرها، والتنكيل برجالها ونسائها وشيوخها، كما فعلت في صلاح الدين وديالي وفي أطراف الفلوجة ذاتها.
ومع كل تلك الحشود التاريخية المهيبة تكدست حول المدينة أكوامٌ من أحدث القنابل والصواريخ، ومن أخطر المدافع والدبابات والمصفحات والمجنزرات، وعشراتُ الطائرات الأمريكية والعراقية، وربما الإيرانية، أيضا، مع هتافات (الله أكبر)، و(لبيك يا حسين) التي تهز أرجاء السماء، وتبشر بقرب الفتح المبين، مع حملة تجويع وتعطيش وتمريض وتمويت مُحكمة ومبرمجة ومقسمة على مراحل، في حصارٍ مطبق تفرضه هذه (الخلطة) العجيبة الغريبة من الناس من مختلف الأجناس والألوان والأعراق والأديان والطوئف، وكانهم داخلون في معركة العلمين، أو موقعة واترلوا ليغيروا وجه التاريخ.
هل يعقل أن كل هذه الجيوش الجرارة فقط لإلقاء القبض على حفنة متمردين داعشيين لم يتخرجوا في جامعات وأكاديميات عسكرية، وإنما تعلموا فنون القتل والتفخيخ والاغتصاب في البارات والمقاهي والشوارع التي جاؤوا منها، دون علمٍ ولا فهم ولا خلق ولا دين؟.
وبرغم كل هذه (الهلـُمَّة) في هذه الملحمة الإعجازية يقف حيدر العبادي خائفا مترددا، بعد أن وجد نفسه في مأزق، ليعلن، بموافقة سليماني وهادي العامري طبعا، تأجيلَ اقتحام هذه المدينة الصغيرة المسطحة التي لا تحيط بها جبال ولا وديان ولا غابات تساعدها على الصمود.
بعده يتطوع هوشيار زيباري، وزير مالية الحكومة، ليعترف بصعوبة اقتحامها. ثم يعلن مصدر طبي عراقي عن “استقبال 1119 جريحاً أصيبوا خلال الاشتباكات الدائرة حول مدينة الفلوجة، بينهم مقاتلون من جهاز مكافحة الإرهاب والجيش والشرطة والحشد الشعبي، تم نقلهم الى مستشفيات الكاظمية وأبي غريب والكرامة والكرخ واليرموك”. ولكنه لم يكشف عن عدد القتلى العسكريين بسبب نقلهم مباشرة الى مستشفيات عسكرية خاصة بقوات الأمن لتتولى عائلاتُهم بعد ذلك استلام جثامينهم. والله اعلم بمن قُتل أو جرح أو ضاع من المدنيين المحاصرين، أو الذين حاولوا أن يَنفُذوا من أسوار الجحيم.
وهنا يطرح هذا السؤال الصعبُ نفسه: أين أذنك؟ قال هذه.
ألم يكن الأسهل، والأكثر أمْنا، والأقلَّ بعثرة للمال والرجال والأحوال، والأحفظ لأرواح القتلى، والأضمن لعدم تعميق وتعميم آلام الجرحى والمحاصرين والمجوَّعين والمهجرين والمفقودين، والأسرع في تهدأة للخواطر، والأنفع في دفن أحقاد الماضي الطائفية السخيفة، أن تتجرأ الحكومة فتنزع من عقلها وقلبها الطائفية وأوهامَ القوة الفارغة، وتتخذ سياسة أخرى عاقلة وحكيمة تقتلع هذه العصابة المتمردة بأقل الخسائر، وذلك بإنجاز المصالحة الوطنية الحقيقية، وتحقيق العدالة للجميع، وخاصة لأهل الأنبار وصلاح الدين ونينوى وديالى، وحشد جميع العراقيين مع الحكومة وجيوشها، دون وصاية، وبالضد من أطماع القوى الخارجية، وأغراضها المدمرة؟
ألم يكن ذلك كفيلا بفك الارتباط القسري بين الداعشيين وبين أهالي الفلوجة والمدن السنية الأخرى الذين إن لم يقاتلوا مع داعش فهم لا يساعدون على هزيمتها، خوفا مما حدث لهم ولغيرهم أيام نوري المالكي، وكرها لما سيحدث لهم بعد طردها؟
إن مما لاشك فيه أن ذلك كان ممكنا، بل منتظرا من حيدر العبادي الذي ألبسته إيران وأمريكا والمرجعية وعمار الحكيم ومقتدى الصدر وباقي اللـَّمة الحاكمة الفاسدة ذاتها قميصَ العريس الهُمام الذي يأتي على حصانه الأبيض فيقطع رأس الفساد بضربة سيف واحدة، ويملأ الرض عدلا بعد أن مُلئت جورا وعفونة. لقد ظلموا (الرجل) حين جعلوا منه ويلسن مانديلا وشارل ديغول العراق، وهو أصغر من ذلك بكثير.
نعم. لو كان هذا الحيدر العبادي شجاعا، فعلا، ووطنيا، حقا، لكذَّبَ سفارة الولي الفقيه التي زعمت أن قاسم سليماني في الفلوجة بطلب من الحكومة، ولقال لجواد ظريف، بقوة الرجال، وعزيمة الأبطال، أخرجوا من بلادنا أيها المحتلون، وكُفوا عن إشعال الحرائق بين أهل الوطن الواحد، وتوقفوا عن سَوْق شبابنا إلى محارق حروبكم التي لا تُرضي الله، ولا رسوله، ولا آل بيته الكرام. ولكن الجرادة لا تحمل حمل جمل. هكذا علمنا الزمن الرديء.