22 نوفمبر، 2024 7:50 م
Search
Close this search box.

المقدس/ الجزء الرابع

المقدس/ الجزء الرابع

كل ما يحصل في العراق ومنطقة الشرق الاوسط، هو في الحقيقة ليست خياراتنا كعراقيين وعرب ومسلمين، فليس من المنطقي والطبيعي ان يقود الفرد او المجتمع ككل نفسه الى مسارات التراجع عن الحضارة والتقدم ومن ثم نقل الصراع من شكله الطبيعي القائم على التنافس بين المجتمعات البشرية المتنوعة نحو التقدم الى صراعات داخلية تؤدي الى تدمير للذات من خلال تمزيق المجتمع نفسه وتهميش بعض مكوناته، وهذا التدمير ينسحب تلقيائيا من المجتمع ككل الى الفرد كذات، ولتوضيح هذه الفكرة فليس احتلال العراق عام 2003 هو من اختيار العراقيين مع ان هناك الكثير ممن رحبوا به واعتبروه فرصة لتغيير احوالهم ولم يكن املهم التغيير نحو الاسوأ، وايضا لم يكن ماجرى في ليبيا وفي سوريا وفي اليمن وفي مصر وفي فلسطين وافغانستان وايران هو من اختيار تلك الشعوب، ولا اريد ان أدخل في التفاصيل حيث بامكان كل شخص الرجوع الى التاريخ ومراجعة الاحداث ليتاكد من ذلك، ولكن ما اريد البحث فيه، هو كيف يمكن ان تحصل مثل هذه الاحداث الخطيرة في تاثيراتها دون ان يكون لنا حق اختيارها والفعل والتاثير فيها بما يخدم مصلحتنا كشعب، العراقيون مثلا، قدموا التضحيات الجسيمة على مايزيد عن ثلاثة عقود كي يتحرروا من الاحتلال البريطاني، ومثلهم فعل الجزائريون والليبيون والمصريون وغيرهم ، فكيف يمكن للعراقيين والليبيين على وجه الخصوص القبول بسهولة بعودة الاحتلال الغربي البريطاني الاميركي مرة اخرى، بل والوقوف الى جانبه والتعاون معه؟..
والعرب عموما ناضلوا في القرن العشرين بكل ما يلتحق بهم من اثنيات ومكونات ذات اصول غير عربية او غير مسلمة باسم القومية والعروبة، القوى الاستعمارية حتى تمكنوا بعد صراع طويل ودامي من تحقيق الاستقلال، ولم يكن هناك حديث للتشكيك بوطنية وعروبة تلك المكونات سواء كانت غير عربية او كانت غير مسلمة، والاحزاب اليسارية او القومية لم تكن تسأل الفرد في العراق او في غيره، ما اذا كان عربيا او كرديا او ارمنيا او تركمانيا، مسلما او غير مسلم، انما كان المهم لها ايمان الفرد بقضية مجتمع ومصير شعب وامة، فكيف اذن يحصل بعد عقود طويلة من الوعي المتنامي والمعرفة السياسية هذا التراجع وهذا الصراع الذاتي والمد الطائفي داخل مجتمع عرف التعايش والتسامح على مدى قرون طويلة؟..
يحلو للبعض من الذين يؤمنون بنظرية المؤامرة القاء اللوم على القوى الكبرى وعلى اطماعها في المنطقة باعتبارها غنية بمصادر الطاقة الحيوية للنهضة والحضارة، وهذا ليس بخطأ انما هو جزء من المشكلة اما اما الجزء الاخر فيتعلق اولا بنا كشعب وكامة وثانيا بالتطورات والاضطرابات الدولية المؤثرة فينا بشكل وبآخر، فالدول الصناعية الكبرى الطامعة بالثروات كانت تشتري النفط من العراق بعد تأميمه ومن الجزائر ومن ليبيا ناهيك عن دول الخليج وكانت تدفع قيمته، ولم يكن ليتغير الحال لولا ان هذه القوى الطامعة وجدت فسحة لها نتيجة الضعف الذي حصل في مجتمعاتنا واستفحال صراعاتها الداخلية لتعود من جديد وتسيطر على مصادر الطاقة التي فقدتها لعقود خلت، وهذه الفسحة وهذا الضعف هو ليس من صنع هذه القوى لوحدها انما هي مشاركة فيه معنا، وقد استغلته فيما بعد بما يحقق مصالحها التي تعتبرها شرعية
وطبيعية، وضعفنا في حقيقته يكمن في ان القوى السياسية القومية فشلت بعد تحقيق الاستقلال والسيطرة على السلطة في بناء مجتمع مستقر يسير وفق قواعد ونظم تضمن له الحقوق الانسانية والحرية اولا والتفاعل الحضاري مع المجتمعات المحيطة به والبعيدة عنه ثانيا، وايضا فشلنا كمجتمع حصل على استقلاله في بناء هويته وتحصين نفسه من الخضوع مرة اخرى لدكتاتورية الفرد او قيادة الحزب الواحد او الجماعة، رغم ان هذا الموضوع ليس من السهل فهمه على هذه الشاكلة، والحديث عن الماضي بهذه البساطة يعني الغاء الظروف والتحديات التي كنا نعيشها، كقوى سياسية وكافراد وكمجتمع يعيش تجاربه الاولى نحو المدنية والتحضر، والدليل على ذلك هو التكرار الحاصل الان لنفس الاخطاء التي نرتكبها خلال عقود متواصلة، ولكن مع التغيرات المتسارعة في الظروف الدولية والتقدم الهائل في العلوم والتكنولوجيا والاتصالات، هل سيؤدي هذا التكرار للاخطاء الى نفس النتائج؟..بمعنى اخر، ظهور الفكر القومي العربي كان هو النافذة الوحيدة المتاحة امام الشباب العربي والمثقفبن لمقارعة الاضطهاد التركي وبرنامج التتريك الذي فرضته حكومة الاتحاد والترقي المعروفة بـ ( تركيا الفتاة) عام 1908 والتي دفعت الناشطين العرب الى تاسيس جمعية العربية الفتاة، ومن ثم تطورت بعد عقود الى مشروع قومي قاده رجال حالمون بالمستقبل ووحدة الامة، فهل ستؤدي سطوة الاحزاب الاسلامية، ونشاط الحركات المتشددة منها مثل القاعدة وداعش والحركات السلفية الى سطوع الفكر القومي مجددا؟.. ولنفهم السؤال جيدا علينا ان نعرف ان بروز التيارات الاسلامية ولجوء الشباب المسلم الى التنظيمات الدينية باختلاف مذاهبها، كان اساسا بسبب اخفاق الفكر القومي في بناء مجتمع مستقر ومنسجم ومتحرر يحظى المواطن فيه بحقوقه الكاملة ويمارس دون عقد وضجيج عقائده وتقاليده وفي نفس الوقت يتماهى مع التقدم والتطور الحاصل في المجتمعات الاخرى، وكذلك انكماش الفكر اليساري وانسحابه خاصة بعد تفككل الاتحاد السوفيتي والاعلان الرسمي عن فشل الماركسية وهزيمتها في المعركة ضد النظام الغربي الرأسمالي، ولكن هل سيتسبب اخفاق الاسلام السياسي والمشاريع الطائفية المرتبطة به سواء في مصر او العراق او تونس وغيرها، والنشاط الارهابي لقوى السلفية والتشدد الاسلامي، بعودة الفكر والاحزاب القومية التي كانت هي السبب في ما يعانيه العرب الان؟.. علينا ايضا قبل الاجابة هنا ان نفرق بين مسألتين مهمتين، هما الفرق بين الفكر القومي وبين رجال القومية الذين فشلوا في قيادتهم للامة والمجتمع وفي تنفيذ برنامجهم الذي كان يعد الشباب بالامال والاحلام، مثلما علينا ايضا ان نفرق بين الدين كفكر وعقيدة وهوية انسانية راسخة، وبين رجال الدين الذين فشلوا ايضا في ابراز وجه الدين الحقيقي ووصايا الاله التي تعد الانسان بالسعادة والحرية والعدل والمساواة، والذين اضافة الى كل ما يعانيه المجتمع العربي من مشاكل تتعلق بالتخلف الواضح في مجال العلوم والصحة والتعليم والحقوق والحريات اشاعوا فيه مشاكل الاختلاف الطائفي والمذهبي التي ادت الى الايغال في تمزيق المجتمع وتدمير نسيجه الاجتماعي وهويته التي كانت تاخذ قوتها من عنوانين متجانسين متراصين هما العروبة والاسلام، اذن مالذي يمكن ان يكون البديل المتاح والمنفذ الممكن للمازق السياسي والفكري والاجتماعي الذي يعيشه الفرد العربي بعد خيبة القومية وبهوت سطوتها وانكفاء الشعور بها وانتهاء عصرها كما يرجح بعض المفكرين الغربيين استنادا الى ما تعيشه اوروبا والغرب الان من ذوبان الهوية القومية ضمن فكرة الانتماء العالمي المتوقع بروزه لاحقا، وبين الاسلام السياسي والتشدد والارهاب الذي لن تكون نتيجته باحسن الاحوال اكثر من تعميق الخلافات الاجتماعية وتمزيق الهوية الوطنية واثارة الحروب والمشاكل بين ابناء المجتمع الواحد؟..
 [email protected]

أحدث المقالات