15 نوفمبر، 2024 10:37 ص
Search
Close this search box.

المؤرّخ ماريو ليفِراني يعيد تشييد بابل في كتابه

المؤرّخ ماريو ليفِراني يعيد تشييد بابل في كتابه

“تخيّل بابل”
لم أنتبه سوى في مرحلة تالية، حين التحقت بالجامعة الزيتونية طالبا، أن استعمال “يبَلْبِلْ تْبَلْبيلْ”، أي يتكلم بسرعة فائقة، و”مْبَلبْلْ” أي مضطرب وعلى قلق، في الدارجة التونسية، مأتاهما من مفردة “بابل” ومن تلك الدلالة التوراتية العميقة الثاوية في اللاوعي، حين بلبل الله ألسنة الخلق. فاللغة مثلما يقول ذلك النص الجميل للودفيغ فتغنشتاين “يمكن اعتبارها بمثابة المدينة العتيقة، متاهة من الأزقة والساحات، منازل قديمة وأخرى حديثة. أين تحيط بالكل شبكة من البلدات الجديدة طرقاتها مستقيمة ومنتظمة وبِدُور متماثلة”. فقد كانت الفرنسية التي نُلقَّن إياها في عمر غضّ في المدرسة، مع سن السابعة، تزاحم وتطرد اللغة الأمّ بقوة وعنف، فتحفر شروخا غائرة في ذهن الصبي.
لكن شظايا بابل اللغوية التي وردت إلينا مع الدارجة قبل أن تأتي من الفصحى، كانت جزءا من إناء كبير مهشّم. لن يتيسر ترميمه مجددا سوى بواسطة الخيال أو التخيل، كما يذهب المؤرخ الإيطالي ماريو ليفراني في كتابه “تخيّل بابل” المنشور في ترجمة عربية من إعداد عزالدين عناية. حيث يسير الكاتب في مؤلفه وفق إطار زمني متطور، يستوعب ويغطي موضوع بحثه. محاولا بناء إطار جامع لنتائج الأبحاث بعد قرنين من الدراسات والحفريات حول المدينة الدنيوية، التي طالما وُضِعت قبالة المدينة السماوية أورشليم، في الأدبيات التوراتية. فالكتاب تاريخي أثري لعالم آثار
خبير بحقله، يسلط فيه الضوء على مدينة قديمة تقع في حيز زمني متقدم، قيل الكثير فيها حتى اختلط الأسطوري بالواقعي والتاريخي باللاتاريخي.
بابل منبع الطغيان والديمقراطية
يأتي بناءُ بابل مجدَّداً عبارة عن تخيل لمدينة متوارية، غير موجودة، ومن هنا كان عنوان الكتاب “تخيل بابل”. وخطورة عمل ليفراني أن مادة بحثه التوثيقية تكاد تكون لاشيء عن ذلك الشرق القديم، مع أنه يُعَدّ مهد حضارتنا. حيث لم تبق من ذلك الماضي البعيد -بعبارة جوهان غوتفريد هردر- سوى “مرويات لمرويات، شظايا روايات، حلم عن ما بعد العالم”. ينطلق ليفِراني من معالجة مسألة تشييد المدينة، اكتشاف آجر البناء والتقنيات المرافقة، والتطورات الحضارية التي حصلت حتى دفعت باتجاه بناء بابل، وأي دور حضاري استوجب تشييد المدينة، كل ذلك يدخل في عملية البحث عن المدينة المتوارية. وكأن ليفراني يُعيد بشكل آخر أسئلة جاكوب بورخاردت في بازيليا -سنة 1870- حين تساءل كيف لشعب أن يصير شعبا؟ وكيف يتحول إلى دولة؟ وما هي أزمات النشأة والمولد؟ وأين يمكث ذلك الحد من التطور السياسي، الذي بالانطلاق منه يمكن الحديث عن المدينة-الدولة؟
وحديث النشأة يستدعي بالضرورة حديثا عن أنظمة الحكم التي شهدتها المدينة. فليس “الطغيان الشرقي” وليد بابل فحسب، كما يروج عادة، بل صنوه “الديمقراطية البدائية” أيضا كما يبين ثوركيلد جاكوبسون (1943) المختص بالسومريات. لماذا تتعثر الديمقراطية اليوم تلك قصة أخرى؟ يُعيد ليفراني النظر في تلك الأطروحة متحدثا عن ديمقراطية نسبية، ليست ديمقراطية صلبة، قائمة على مؤسسات، “لأن وظائف الحكم لم تتفرّع بعدُ، وبنية السلطة ليست جلية، وآلية التنسيق الاجتماعي لا تزال في حال تشكل”. يقول جاكوبسون “إن وثائقنا تثبت أن بلاد
ما بين النهرين، فترة ما قبل التاريخ، كانت منتظمة سياسيا وفق “نظام” ديمقراطي وليس أوتوقراطي، كما سيسود لاحقا في بلاد ما بين النهرين التاريخية”.
وضمن ذلك السياق يتابع المؤرخ ليفراني الأبحاث الأثرية المباشرة، التي تناولت الفضاءات الحضارية التي غلب الظن أنها موضع بابل، حتى ثبت الأمر بالحجة والطلّ واليقين، أكان ذلك في الأركيولوجيا التاريخية أو الماقبل تاريخية، ليستخلص منها ما باحت به الأطلال عن هذه المدينة وعما بلغنا عن هذه المدينة. ومن جانب آخر يتابع ليفراني النظريات والرؤى التي قيلت سواء في فلسفة الحضارة، أو في تاريخ العمران والفن والرسم، إلى الإناسة الاجتماعية، أو ما اتصل بفقه اللغات مستفتيا إياها طريق بابل الوعر. فبناء صورة متكاملة عن بابل هو تشييد تتضافر فيه جهود العديد من الباحثين في حقول شتى.
الملك الآشوري آسرحدون يصف تقدم جيشه، الزاحف والمدمر: “أمامه مدينة وخلفه خراب”. لكن ليفراني في بحثه عن بابل كان أمامه خراب وخلفه مدينة، تلك المدينة التي اندرست منذ أن قال الناس “هلمّ نبن لأنفسنا مدينة وبرجا رأسه بالسماء. ونصنع لأنفسنا اسما لئلاَّ نتبدد على وجه كل الأرض. فنزل الرب لينظر المدينة والبرج اللذين كان بنو آدم يبنونهما. وقال الرب: هلم ننزل ونبلبل هناك لسانهم حتى لا يسمع بعضهم لسان بعض. فبددهم الرب من هناك على وجه كل الأرض، فكفوا عن بنيان المدينة، لذلك دُعِي اسمها بابل لأن الرب هناك بلبل لسان كل الأرض” (سفر التكوين11: 1-9).
بابل المدينة النائمة
ومن الصواب -كما يورد ليفراني- أن من يتطلع لتأليف كتاب في هذا الموضوع، بما يستوجبه من معرفة ومقدرة، يتوجب عليه ألاّ يكتفي بعلم الآثار، العائد للحقبة التاريخية أو لفجر التاريخ، أو بفقه اللغات الشرقية (الآشورية والسومرية والحثية والمصرية والسامية والإيرانية وغيرها)، بل يتوجب عليه أيضا توظيف علم تخطيط المدن، وتاريخ الهندسة المعمارية، والإناسة الاجتماعية، والنظريات الاقتصادية، والتطورية والتطورية الجديدة، والإحاطة بالتجمعات القروية وبالمشهد الفلاحي، وبالطغيان والأنظمة الثيوقراطية، وبالأحداث السياسية بين أوروبا والدولة العثمانية، وبالاستعمار وبالتخلص من الاستعمار، وبالكونية وبالمحلية، وبالمقاربات الجغرافية الجديدة، وبالتصميم الحاسوبي والاستشعار عن بعد، وبغيرها من المجالات. كأن الرجل على يقين أن التاريخ وحده أو علم الآثار وحده، يعجز كل منهما عن إيقاظ هذه المدينة النائمة.
يسّرت عمليةُ تخيل بابل، أو تشييد بابل، قضاءَ الرجل السنوات الطوال منكبّا على الفضاء الحضاري، سواء على عين المكان أو في المكتب –كما يقول- ،مما يسّر له التجوال المعرفي فيه. فقد كتب ليفراني الكثير حول بلاد الشرق باللغتين الإيطالية والإنجليزية: “أصل المدينة” (1986)، “أكد: أولى الإمبراطوريات العالمية” (1993)، “الشرق القديم. التاريخ الاجتماعي والاقتصادي” (1988)، “أصل المدينة. التجمعات الحضارية الأولى في المشرق” (1986). “الحرب والدبلوماسية في الشرق القديم” (1994)، “العلاقات الدولية في الشرق القديم” (2001)، “ما وراء التوراة: تاريخ إسرائيل القديم” (2003)، “الأسطورة والسياسة في بلاد المشرق” (2004)، “أوروك: أولى المدن على وجه البسيطة” (ترجمة مشروع كلمة 2012). فالرجل من كبار المختصين العالميين في التاريخ الشرقي القديم وهو عضو في العديد من المجامع العلمية. يدرك فرز الغث من السمين بشأن ما كُتب وما قيل في بابل، شأنه كشأن غريق
بو الذي قال: “طيلة حياتي انشغلتُ بدراسة العالم القديم، إلى حدّ أشعر أني مسكون بظلال الأعمدة التي تهاوت من بعلبك وبلميرا وتخت جمشيد، وإلى حدّ أن روحي ذاتها غدت طلاّ من تلك العاديات”.
في هذا الكتاب المنقول إلى العربية، يحوصل ليفراني ما توصلت إليه نتائج الأبحاث حول بابل على مدى قرنين، يفرز التاريخي عن اللاتاريخي، والعلمي عن اللاعلمي، في حقل تعددت فيه المقاربات وتضاربت. ذلك أن بابل من أكثر مدن العالم إغراءً للباحثين في التاريخ والآثار، وكان لا بد من حوصلة وغربلة لما قيل في هذه المدينة منذ القديم حتى تاريخنا الراهن. ومع أن جل ما كُتب عن بابل كان كتابة تاريخية، أو تقارير أثرية، فإنه لم ينشر بهذا الحجم والعمق والشمول، الذي تناول به ليفراني، عملٌ حول المدينة (الكتاب: 619 ص).
فأن يتناول الكتاب بالتحليل والنقد والمتابعة مجمل الأعمال والنظريات والنتائج المتعلقة بمدينة بابل، هو عملٌ قلّ نظيره في الأبحاث الغربية، وأما في الجانب العربي فلم يسبق أن صدر كتاب بهذا العمق المعرفي، والمنهجية العلمية، تناول تاريخ المدينة بهذا الشمول. لقد جرى تتبّع حضارة بابل من جوانب عدة في كثير من اللغات، لكن مجمل ما دُوِّن خالطه الأسطوري والخيالي إلى درجة أن باتت المدينة خيالية في الأذهان. مع ليفراني تغادر بابل ذلك الموضع لتغدو حقيقة، تتأسس على حوادث وبقايا ووقائع، لذلك تجد الرجل حريصا على نقد سابقيه، ولم يثبت من أقوالهم وكشوفاتهم في مؤلفه سوى ما تمت البرهنة على صحته.
تاريخنا سجين الرؤى التوراتية
يأتي المؤلَّف الحالي ضمن مشروع شامل اشتغل عليه ماريو ليفراني، يتناول إعادة قراءة التاريخ القديم للمشرق العربي. في مؤلفه “ما وراء التوراة” المشار إليه، نحا باللائمة على المؤرخين المهتمين بتاريخ بلاد المشرق، كيف أن المنطقة التي صنعت التوراة باتت ضحية رؤى التوراة؟ ولن يتيسر
ذلك التصحيح لتاريخ المنطقة، وفق ليفراني، سوى باكتشاف التاريخ السابق للتوراة، وبابل على حد تعبيره إحدى أعمدته القوية. من هذا الباب توجب عليه تخصيص مؤلف لهذه المدينة التي تتوارى وراءها حضارة محورية في بلاد المشرق.
لكن الجلي، مع أن الكتاب يتناول موضوعا تاريخيا أثريا، فإن لغته الإيطالية تبدو أنيقة وسلسة، لا تنشد محادثة المختص فحسب. فالكتاب وفق تقديري يقرأه المختص في التاريخ وغير المختص، كما ثمة مسحة أدبية في لغة المؤلف مع تميز بالدقة في العبارة. حيث يعالج الكاتب مفاهيم تاريخية دون التجني في القول، بل يدعم مقوله بمستندات ثابتة وقوية. كما انه ينتقد الرؤى المركزية والمجحفة التي تعرضت إلى بعض الجوانب من موضوع بحثه. لكن عموما، ثمة نقد خفي وجلي في سائر مؤلفات ليفراني للمدرسة الغربية في قراءتها للتراث الشرقي. بدا هذا النقد لاذعا خصوصا في مؤلفه “ما وراء التوراة”، وأما في كتابه المعروض “تخيل بابل” فإن نقده يتوجه، بالأساس، إلى البناء المعرفي للعديد من الأبحاث.
كانت لبرج بابل قوة تخيلية متميزة، مرتبطة سواء بمسألة “تبلبل الألسن” التي أثرت عميقا على التقسيمات اللغوية، أو بالثقل الأخلاقي واللاهوتي للأسطورة. كما أن هناك إدانة أخلاقية للمدن الآشورية البابلية تخترق تاريخ الثقافة الغربية، فنينوى وبابل مدينتا الشر، ملعونتان، على نقيض أورشليم المدينة المقدسة. يحاول ليفراني الغوص عميقا في أركيولوجيا تلك الأساطير بقصد ترميم ما تهشّم من حقائق التاريخ.
الكتاب: تخيّل بابل.. مدينة الشرق القديمة وحصيلة مئتي عام من الأبحاث.
المؤلف: ماريو ليفِراني.
المترجم: عزالدين عناية.
الناشر: كلمة –أبوظبي 2016.
عدد الصفحات: 619ص.

أحدث المقالات

أحدث المقالات