هي قصة طفلة لم تتعد عامها الخامس طفلة تدعى شهرزاد فهي ايضا لها قصة من قصص شهرزاد .
تقرأ في عينيها الواسعتين قصة رهيبة كأنها مكتوبة في الحدقتين ..وتبتسم وهي تتكلم عن بشاعة ما تتحدث به ذلك لأنها لم تزل صغيرة تجهل معاني هذه الأحداث .
قلت لها :- نعم شهرزاد تحدثي … قولي ما حدث…؟
مدت يدها الى خصلة صغيرة من شعرها راحت تتدلى فوق جبينها الناصع البياض وهي ترفع لي رأسها الصغير.
اي شيء تريد الحديث عن هنا ام عن هناك…؟
هذه الطفلة موزعة بين هنا وهناك يا اعداء الطفولة ماذا صنعتم بالطفولة…؟
احسست بألم وحزن يهز كياني .ترى كيف تستطيع ان تستجوب هذه الطفلة الصغيرة وعن اية بشاعة يمكن ان هذه التي لم تتعد عامها الخامس والتي شاهدت بأم عينيها مقتل والدها في فراشه وعلى سريره الذي كانت تشاركه اياه في ذلك اليوم المشؤوم …؟
وسألت نفسي ماذا سأقول لها ..أي سؤال …؟كيف قتل والدك…؟
آهٍ انها عبارة قاسية لا أستطيع ان اتفوه بهذا لهذه الصغيرة التي توشحت بالسواد منذ اربعة ايام فقط ,وكانت تضيق نظراتها ثم اسندت يدها الصغيرة الى مسند الكرسي
ا لذي تجلس عليه .
وبعد تحسر قصير قالت بصوتها: هنا …يعني هذه المدينة ..التي بالعراق ..وهذه الغرفة وهذا بيت عمي وفيه جدتي وفي الغرفة العليا حيث كنت انام وابي قبل ثلاثة ايام اذ قتل ابي على فراشه ولكني كنت نائمة اذ دفعني احدهم بقوة بعيدا عن ابي الذي كنت قد عانقته قبل النوم ولهذا فقد ذهب ابي الى بغداد ..ثم انبسطت اساريرها وابتسمت ابتسامة حزينة كأنها تهدهد نفسها وتمتمت.. سيعود ويأتي لي باللعب والهدايا ..قربت شفتيها من اذني وهي تسرني بسر كبير (هل تدري ..اجبت بنعم ..ماذا يفعل في بغداد؟ قالت. يقولون انه سيتصل بأمي فتاتي هي وشقيقتي الى هنا وبعد صمت قصير اضافت وهي تنظر الى اصابع يدها محركة اصابعها بشيء من الغضب او اذهب انا وهو الى هناك الى…
لقد ولدت انا هناك وعشت سنوات عمري التي مرت هناك وتهدج صوتها وكنت ارقب دمعة ساخنة تتجمع في وسط عينيها قائلة. آنا اليوم لا أراه وأنا مشتاقة اليه
اخشى ان لا أراه كما لا أرى امي التي تركتها هناك في مدينتي التي ولدت بها .
سالتها ولماذا تركت امك هناك ..قالت لي ..ليست وحدها بل تركت ايضا شقيقتي الصغيرة وكم لها من العمر شقيقتك..؟ اشارت لي بأصابع يدها معلمة بأصبعين فقط .وبعد ان ضمت ثلاثة اصابع كما يفعل البعض بإشارة…هكذا اثنان …اثنان …
ولماذا لم تبقي هناك مع امك واختك …؟قالت كمن يفشي سرا ويرجو ممن يتلقاه ان لا يفشيه …
انني احب ابي كثيرا ولهذا تركت امي لأعود معه الى هنا فقد كان يقول ان العراق وطنه وان له اما واخوة واخوات .
وهل تعرفت اليهم وهل انت تحبينهم …؟
نعم…نعم…انني احبهم ثم انني تعلمت اللغة العربية وعندما اتيت الى هنا قبل عدة اشهر لم اكن اعرف منها شيئا.
ثم استطردت متسائلة ولكن لماذا لا يذهبون الى امي وشقيقتي …ثم هتفت 0(بكلمتين)فحاولت ان اعرفهما لأنها نطقتهما بغير اللغة العربية وحين لاحظت عدم فهمي للكلمتين هتفت …آه انك لا تعرف اللغة( ) انني اسألك هل بغداد بعيدة جدا وكم من الايام نستطيع ان نصل اليها ثم بدت كمن لاحت له فكرة واستحسنها
فأردفت متوسلة؟
يا عم خذني الى بغداد …خذني الى ابي …اريد ان اراه واريد ان اطلب اليه ان يعود بي الى( ) حتى ارى امي واختي واخوالي وخالاتي لقد تركت امي باكية قبل شهور.
……………….انتهت………………………..
كتبت قصة شهرزاد ونشرت في جريدة كربلاء اليوم العدد ( 160) الاسبوع الاول من شهر كانون الثاني 2009 وعلى الصفحة الخامسة(ثقافة) .
………………………….
مضت سنوات طويلة وطفلة الامس شهرزاد صارت اليوم شابة صغيرة في مقتبل العمر واقتضت الظروف ان اراها لأعاود تحقيق قصتي وتشكيل الصورة الجديدة واجلاء الغموض الذي شاب الاحداث فشابة اليوم شهرزاد تستطيع ان تتحدث إذ عرفت ان ابيها لم يذهب الى بغداد بل ذهب الى ربه مضرجا بدمه ويحمل شكواه الى حاكم عادل لا تخفى عليه خافية وبغداد هي العاصمة الحبيبة لبلدها الحبيب العراق الذي كانت تسميه (هنا) وان ما كانت تسميه(هناك ) هو بلد حبيب آخر اوى والدها الذي لجأ اليه شابا هاربا من سطوة الجبروت فوجد فيه العيش الآمن والحياة الكريمة وتم زواجه من والدتها التي هي احدى بنات ذلك البلد وولدت هي واختها على تلك الارض المباركة.
قالت عن ابيها.. اتذكر نه كان شابا في مقتبل العمر جميلا رشيقا .وتذكر ان امها كانت تبذل جهدا مميزا لتجعل الامور تسير على ما يرام خاصة في الفترة التي قرر فيها العودة الى العراق اذ كانت فكرة العودة سببا مهما وحقيقا للمشاكل والازمات التي عصفت بحياتهم الزوجية القصيرة وتركت اثرا نفسيا بليغا في نفس طفلة الامس وكانت اذ ذاك سببا في تعلق الفتاة بوالدها والبعد عن امها لشعور باطني بانها ستفقد والدها اذا سافر الى بلده ولهذا بكت كثيرا ليؤذن لها بمرافقته بتلك السفرة المشؤومة.
تتذكر ان امها كانت غاضبة وحزينة ولم تأذن لها بمعانقتها وتقبيلها كما تفعل دائما وفي اخر اللحظات وقبل ان تبادر الصعود الى الحافلة اندفعت نحوها راكضة واحتضنتها وقبلتها وبكت كثيرا واوصت والدها جملة من الوصايا
انتبه لصحتها …انتبه لملابسها…انتبه لطعامها …لا تجعلها تشعر بالحرمان…كن لها ابا وام…
واخيرا شدت على يده قائلة عدني انك ستعود واياها قريبا ..واستطردت متودده لا استطيع احتمال فراقكما ..وتوسلت …لا تحملني ما لا اطيق واذكر ان ابي بادر الى حملي بين ذراعيه وراح يتلفت الى حيث امي وهو يرتقي الحافلة ويختار مكانا قرب النافذة ليواصل النظر اليها واحسب ان دمعة ساخنة تحدرت الى خديه وهو يتمتم مع السلامة ويلوح بيده وكذلك فعلت انا اذ رحت الوح بيدي على زجاج النافذة واطالع الخطوط التي تركتها عليها واخر صرخة لي كانت آه …ماما…وتستمر شهرزاد في سرد احداث الفاجعة الهائلة وتذكر مشاعرها البريئة وهي تفتح عينيها صباح احد الايام لتجد ان والدها بين اهله وذويه لأنها كانت قد استسلمت للنوم خلال ساعات سفرهما الاخيرة و تذكر اول ما تكر وجه جدتها لأبيها وحفاوتها البالغة بالمسافرين العائدين بعد سنوات وكذلك قبلات عمها الاكبر ومداعبته لها وهو يتحدث باللغة التي ما كانت اذ ذاك تنطق غيرها وكما همست في طفولتها الاولى بأسرارها همست ثانية لتقول انها لم تحظ بحفاوة او محبة من زوجة عمها بل ومن اول لحظه لعودتها فرضت عليها جملة من اللا ممكن (واوضحت (الحدود التي يجب ان لا أتعداها
سواء في اللعب او الحديث او الطعام ) ما سبب لي الكثير من الازعاج والالم ..عجبت لذلك السر الذي افضت به الي هامسة به لأني كنت اعرف زوجة عمها انسانة تقية وطيبة فقاطعتها قائلا …يا شهرزاد ما تقولين ان زوجة عمك انسانة فاضلة عرفت بكرم الاخلاق والنجابة واضفت بعد برهة احسب ذلك انعكاس لشعورك بفقدانك لامك واستحالة ان تري في زوجة عمك اما رؤوم ..على كل حال انت حتى هذه الساعة ما زلت طفلة ..لم تقتنع بكلماتي بل انني شعرت بأنها تكاد تحرقني بنظراتها التي لم اجد فيها سوى الغضب الصريح غير المشوب بحزن او اسى وليس ثمة تراجع عن شعور غارت بذرته في اعماق اعماق عقلها الباطن فاصبح حقيقة لامجال للاقتناع بخلافها لهذا السبب آثرت الصمت بل والحق اقول ابديت لها شيئا من التراجع عن افكاري لتستمر في سرد حكايتها الفاجعة لكنها اعرضت عني وخرجت ولم تلقي الي بكلمة وداعا او الى اللقاء .
لهذا سأتوقف عن الكتابة ريثما استطيع ان اقنعها بمواصلة الحديث والتعرف الى الاحداث اللاحقة.