دشن الكورد في 16 آب 1946 عهداً جديداً ، تجسد بانطلاقة الفكر الثوري التحرري الى آفاق رحبة فسيحة ، قلبت الموازين والمعادلات التي ناء بثقلها الكورد دهراً طويلاً في تاريخهم الحديث .
فعلاقة المجتمع الكوردي بالواقع السياسي المحيط به، كان مراً غير متوازن وغير عادل ، وكان يحتاج معها الى حدث سياسي بحجم قضيته الكبرى ومعاناته الدائمة .
انبثقت الضرورة التاريخية في الحدث التاريخي في 16 آب ، لتملأ مسار الاحداث التي شهدت على ضوئه ، تحولاً جذرياً في تفكر وتعامل شعب كوردستان مع أوضاع الواقع السياسي والاجتماعي ، إذ إجتمع عدد من المثقفين والسياسيين في منزل شخصية إجتماعية معروفة في بغداد ، ليعقدوا سراً مؤتمراً سياسياً وحزبياً ، تمخض عن ولادة حزب كوردستاني عراقي جديد ، تحوّل بعد حين الى ظاهرة سياسية متميزة ومهمة ، تركت أعمق الاثر في تاريخ العراق الحديث .
الاطار الاسمي للوليد الكوردستاني الجديد ، كان ( الحزب الديمقراطي الكوردي ) الذي أقر تغييره الى ( الحزب الديمقراطي الكوردستاني ) في مؤتمر حزبي لاحق ، تعبيراً على مضمون ديمقراطي أوسع وأشمل ، يمتد على مساحة الوطن وخارج أطر
القومية ، ليضم اليه اقواماً وطوائف اخرى عرباً وتركماناً ومسيحيين وآخرين غيرهم ، فضلاً عن الكورد وقدموا هؤلاء صفحات نضالية تجلت بتضحيات غالية .
من نتائج المؤتمر ، انتخاب الاب الروحي للأمة الكوردية الملا مصطفى البارزاني رئيساً للحزب بالاجماع في ظرف تاريخي كان فيه البارزاني بصحبة الآلاف من أنصاره يقف مدافعاً عن جمهورية كوردستان الديمقراطية ذات الحكم الذاتي في ايران عام 1946 المعروفة ايضاً بجمهورية مهاباد كناية عن عاصمتها مهاباد .
وقد التجأ البارزاني الى الاقليم الشرقي من كوردستان ، إثر انتكاسة ثورة بارزان (1943-1945) تحت ضغط القوات العراقية والبريطانية ، التي أمطرت سماء كوردستان بوابل من الاسلحة الفتاكة بعضها محرم دولياً .
يوافق يوم 16 آب الذكرى السبعين لميلاد هذا الحزب ، الذي يتصدر الأحداث ويفرض حضوره التاريخي ، كلما أراد مؤرخ أو باحث سياسي الكتابة عن تاريخ العراق ، وعن كوردستان وواقع حركتها التحررية الكوردستانية فيما يقارب هذه الفاصلة الزمنية الممتدة لسبعين عاماً .
فقد ترك الحزب بصماته القوية على امتداد ساحة الفعل السياسي محلياً واقليمياً ودولياً .
اعتمد الحزب برنامجاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً جديداً ، استوعب المتغيرات وتناغم مع المد والمناخ الديمقراطي والتحرري ، الذي شاع وتنامى دولياً خاصة بعد انتهاء الحرب الكونية الثانية ، التي شهدت الاندحار السياسي والأيديولوجي للنازية والفاشية ومستنقعهما الشمولي .
تكونت فكرة تشكيل الحزب ، باتحاد مختلف الاحزاب والكيانات السياسية الكوردية الموجودة على الساحة آنذاك ، فضلا عن شخصيات إجتماعية بارزة ، وبعد مشاورات واسعة شملت مدن بغداد والسليمانية وأربيل ، حيث الهيأة المؤسسة في الداخل من جهة ، والبارزاني والضباط الاحرار والمناضلون الآخرون المتواجدون في مهاباد من جهة اخرى ، فضلاً عن النخب الواعية من كبار المثقفين آنذاك ، الذين كانوا ينتمون الى مختلف المدن الكوردستانية ، وكذلك الشريحة الفيلية والى مختلف المذاهب والافكار.
قرر المؤتمرون أن يكون لرئيس الحزب الذي كان له مكانة خاصة وإحترام بالغ من لدن الجميع ، لتاريخه الكفاحي وشجاعته وإلتزامه المبدئي الثابت بحقوق شعبه ، نائبان وهما شخصيتان اجتماعيتان بارزتان أحدهما الشيخ لطيف الحفيد نجل الملك الكوردستاني الخالد الذكر الشيخ محمود الحفيد ، والآخر كاكه زياد الشخصية الاجتماعية الذائعة الصيت في مدينة كويسنجق . وبحجم القاعدة الاجتماعية الواسعة
والفكر الديمقراطي المنفتح ، تشكلت هيئات الحزب من ممثلي مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية .
شهدت ولادة الحزب ظروفاً دولية عاصفة ، بامتدادات تحررية كبيرة في أرجاء العالم ، بعد تشكيل أحزاب تحررية كثيرة مشابهة للحزب في بلدان عديدة ومختلفة في فيتنام وكوريا وكمبوديا وعموم جنوب شرقي آسيا والعالم.
كان لسمات مؤسسه التاريخي وبرنامجه الأثر البالغ في صناعة أسس نجاحاته المتلاحقة المستمرة ، حتى اليوم فشخصية مؤسسه التاريخية والاستثنائية ، لعبت دوراً كبيراً ومشهوداً في جميع المعارك والمخاضات ، التي خاضها الكورد في تاريخهم الحديث والمعاصر ، وبرنامجه الديمقراطي المرن ونظامه الداخلي الذي شابه أنظمة الاحزاب اليسارية آنذاك . وقد تحلى الحزب برؤية واقعية وتحليلات صائبة لمجمل الاوضاع ، ضمنّها برنامجه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي منذ عام 1946، الذي كان برنامجاً وطنياً وديمقراطياً عاما ، فضلا عن إهتمامه الخاص بالقضية الكوردية وشؤون مجتمع كوردستان . فلو القينا نظرة على قراراته الاولى واللاحقة حتى اليوم ، لوجدنا إن ما جرى ويجري من السعي الى تحقيق حياة برلمانية حرة وديمقراطية وتعددية ، هو نفسه ما جاء به برنامجه منذ ميلاده . ويعدّ اكبر حزب عراقي إحتفظ بمكانته السياسية والشعبية منذ تأسيسه، فقد إنبثقت قبله وجاءت بعده أحزاب عراقية لم تستطع الاحتفاظ بمواقعها الجماهيرية ، ولأسباب وعلل عديدة.
ثم هو أكبر حزب كوردستاني تواصل في الكفاح داخل صفوف شعبه ، سواء أكان هذا الكفاح سراً ام علانية ، في اوقات السلم ام الكفاح المسلح ، لم تخلُ منه الساحة النضالية ، وكان حضوره دائماً في أحلك الظروف وأصعبها ، حتى بعد النكسة الخطيرة إثر اتفاقية الجزائر الخيانية في آذار عام 1975، أكد حضوره الملموس عن طريق كفاحه في مناطق محررة معينة ، التي منها إنطلقت نيران ثورته مجدداً لتعم أرجاء كوردستان .
تحّول الحزب وتراثه الى مدرسة ، تخرجت فيها أجيال من المناضلين المتمرسين على أشكال وأساليب الكفاح الثوري ، السري والعلني السلمي والعسكري والدبلوماسي والاعلامي . وليس سراً القول إن معظم كوادر الاحزاب الكوردستانية المشّكلة بعده ، تغّذت من هذا التراث بل إنبثقت منه اصلاً ، وليس في هذا القول أي تقليل من شأن هؤلاء المناضلين ، بل هي طبيعة الحياة ونسقها الوجودي ومنطق العمل السياسي .
إستطاع الحزب برغم ما واجهه من صعوبات وتحديات وظروف معّقدة في مختلف مراحل كفاحه ونضاله ، تعزيز صلابته وتماسكه وتجديد حيوته وديناميكية عمله ، وهي ما عززت مواقعه الجماهيرية على الدوام ، وتخطى بها العقبات بثبات ورؤية أكثر وضوحاً للواقع واتجاهاته عززتها ثمار التجارب الناضجة على اكثر من صعيد ومدى .
كان لمنطق قراءة العوامل الموضوعية بدقة ، وتحديد حركة العمل بميزان الرؤية الواقعية، أثرهما في مسيرة النجاح السياسي الذي حققه البارزاني ، ففي مجال النظرة الواقعية ، تجلت بأستجابته الفورية لأية بادرة سلام تلوح في الافق مع الحكومات العراقية المتعاقبة ، حتى ولو كانت المقترحات المقدمة متواضعة ، فشعار الحل السلمي كان خياره المفضل دائماً ، ويعد أن عاماً من المفاوضات خير من ساعة حرب ، وغالباً ما كانت قيادة الحزب تتعرض لانتقادات ، بسبب تواضع المطالب في بعض المفاوضات (كانت للبارزاني رؤية ثاقبة وبُعد نظر يعبر عنها بكلمات موجزة فاذا بتفسيراته تزكيها الحياة لاحقاً).
وقع الحزب في مسيرته الطويلة في أخطاء كبيرة على صعيد التكتيك والممارسة ، وليس في الاستراتيجية والنهج ، وهي أحد مصادر قوة الحزب الذي كان ينهض في كل مرة مع اي خطأ يقع في هذا المجال بقوة وثقة يجدد بها فكره ويعيد تنظيم قواه ويصحح مساره ، ولم يتوان عن توجيه نقد ذاتي صارم لاخطائه وجوانب القصور في إدائه ، علنا ومن دون مجاملة ، فالعلنية برغم سرية العمل وبرغم الكفاح المسلح سمة أخرى من سمات الحياة الثقافية لهذه المؤسسة السياسية ، فكان لا يخفى شيء عن القاعدة وعن الجماهير، باستثناء ما يمس الامن الداخلي في العمل السري ، وقد مارس النقد الذاتي وتصحيح المسار في الأعوام 1959 ، 1965 ، 1975 وطرح
الرئيس مسعود بارزاني أفكاراً مهمة ، للاصلاح والتغيير في الحزب والادارة عام 1998 ، شكلت اساساً لبرنامج المؤتمر الثاني عشر.
هذه الافكار الاصلاحية ، جاءت لتحقيق الاداء الحكومي والحزبي ، بعد تراكم تجربة الادارة الذاتية الحرة منذ عام 1991 ، وبرغم أن كثيراً من الأفكار ماتزال تنتظر التحقيق ، فأنها مهمة وحية جداً ، وثبت أن تنفيذها كان يحتاج الى فضاء أوسع من شيوع الحرية في العراق أجمع ، ولو اعيد العمل بهذه الأفكار الإصلاحية ، لتبين أن المجتمع العراقي بأسره ، بحاجة اليها على انها برامج للاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، وهي ذاتها التي نادى بها الرئيس بارزاني قبل ست عشرة سنة وطرح على نطاق الشرق الاوسط مع النطاق الدولي.
فالحزب توصل ذاتيا وبحكم ديناميكيته الداخلية الى أرقى ما وصل اليه الفكر الاصلاحي في العالم والشرق الاوسط.
إكتسب الحزب ملامح سياسية متميزة وخصائص فكرية وثقافية ، عززت نهجه وخطه السياسي ، ومنحته قدرة على التجديد وأستيعاب المتغيرات ، يأتي في مقدمتها ، الأستقلال الفكري ونهج الأعتدال ، والقدرة على التجديد الفكري ومواكبة نهج الاصلاح والتغيير ، ومواصلة النهج الديمقراطي الداخلي السليم للتنظيم.
فنهج الاستقلالية الفكرية والأعتدال وتعزيزهما ، يعود الفضل فيهما الى شخصية البارزاني الصلبة ، التي اتخذت موقفا مبدئيا ثابتاً عند محور التحرر ، ونيل الحرية والتعريف بالقضية الكوردية ، وعدم المساومة عليها ، مثلما تجلى في الاصرار على مشكلة كركوك عام 1974 ، ورفض المساومة عليها ، برغم معرفته الأكيدة بتحشيد النظام السابق جهوداً عسكرية واعلامية واستخباراتية هائلة محلياً ودولياً ، لضرب الحركة التحررية الكوردية.
وفي ميدان الاعتدال ، ثمة موقف يثير الغرابة ، مثلما يثير الاعجاب ، فبرغم إن برنامج الحزب إتسم منذ إنبثاقه بطابع يساري واضح ، فأن شخصية البارزاني المعتدلة والمرنة في آن ، لم تكن لتسمح للحزب بالانزلاق نحو التطرف اليساري ، مثلما منعته أيضاً من التطرف اليميني ، فهذا القائد التحرري العالمي ، تجنب الوقوع في شباك الايديولوجية اليسارية ، وهو في معقلها (الاتحاد السوفيتي) السابق ، برغم مكوثه فيها مدة إثني عشر عاماً لاجئا سياسيا ، ثم كيف نجا من شراك الايديولوجية اليمينية المتطرفة عند التعاون مع امريكا والغرب ؟!.
ومن الانجازات التاريخية الأخرى للبارزاني ، التي مكنّت الحزب من التمتع بألتفاف جماهيري واسع النطاق الى الآن ، صيانته للحزب من التحّول الى أداة للعنف والارهاب ، برغم قساوة الحروب التي خاضها ، وبرغم أهوال المجابهة ، خاصة في أعقاب نكسة عام 1975. أن كثيرا من الاحزاب المماثلة التي تحولت في مجرى
نضالها الى الكفاح المسلح ، سرعان ماجنحت للعنف العشوائي والارهاب الذي كلفها شعبيتها وصدقيتها.
يستغرق التجديد الفكري في الحزب مواصلة دائمة ، فالحزب غير منغلق على أية إيديولوجية شمولية ، بل أن آفاقه مفتوحة على خطى الزمن ، يتطور مع خطى التطور الاجتماعي للمجتمع الكوردي. فلم يسبق مجتمعه بقفزات من التطرف أو الارتجال ، مثلما لم يختلف عنه بالتفريط بما حصل . كما أن مؤتمراته التي دأب على عقدها بانتظام ، كانت ثرية بالبحوث والنقاش ، وهو ما يتميز به من جميع الاحزاب العراقية والكوردستانية ، خاصة أن مؤتمراته علنية .
أن مؤتمراته المعبرة بوضوح عن نهجه الديمقراطي في حياته وتعاملاته الداخلية ، أتاحت على الدوام للمئات من أعضائه حرية النقاش والدراسة ، جريا مع آخر التحولات والتطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية ، لصياغة البرامج المقبلة على أسس علمية واضحة . بهذه الاستقلالية الفكرية والواقعية حافظ الحزب ، برغم التحديات والمشكلات على موقعه السياسي والشعبي على صعيد العراق ، وعلى صعيد مختلف أقاليم كوردستان بدرجات متباينة ، برغم عدم تدخله بشؤون البلدان الاخرى وعلى مستوى الشرق الاوسط والعالم .
قاد الحزب ثورة عقلانية ، أضحت مدرسة لها سماتها وخصائصها ، وقد جعل البارزاني من ثلاثية الثورة والحرية والديمقراطية ، أصلاً ومادة لتنظيم الحياة السياسية
على صعيد كوردستان، وتجديد العلاقات والتعايش مع السلطة المركزية والمحيط ، وقد طرح في ذات الوقت الخلل الذي يشوب تلك العلاقات .
أن هذه المدرسة جملت مفاهيم الوطن القومي ، الاستقلال ، المساواة ، والعدالة ، والصدق، حب الانسان ، نكران الذات مع الاجراءات والممارسات السياسية، الغذاء الفكري والمادي للانسان الكوردي.
تأتي مناسبة الميلاد التاريخية وسط ظروف يخوض فيها الشعب الكوردستاني متمثلاً بطلائع البيشمركة الأبطال حرباً ضروسا ضد الارهاب الداعشي ، وفي أطول مجابهة عسكرية على الارض على مستوى الشرق الاوسط والعالم . ومن المؤسف أنه في الوقت الذي تحظى هذه المجابهة بتقدير وأعجاب العالم ، الذي قدم بعضهم مساعدات قيمة لشعب كوردستان وبيشمركته الأبطال ، تتنصل الحكومة الاتحادية عن مسؤوليتها إتجاه هذه المنظومة العسكرية العراقية وبذرائع شتى ، متناسين دورها النضالي والبطولي في مقارعة السلطات المستبدة المتعاقبة ، ودورها في توفير الأمن والامان لأصدقاء نضال الأمس ، وتقديم القرابين دفاعاً عن الحرية والكرامة .
كما تأتي هذه المناسبة العزيزة على شعب كوردستان ، في ظل قطع حصة الاقليم من الموازنة العامة ، للتأثير في وضعه الاقتصادي في هذا الظرف الدقيق والحساس ،الذي يتطلب تضافر الجهود من إجل إلحاق الهزيمة النهائية بالارهاب وإبعاد مخاطره عن البلاد.