ظلت الأهوار، ومنذ آلاف السنين، تمثل مكاناً مثاليًا للكائناتٍ الحية المتآخية؛ الإنسان، والحيوان، والنبات، فهي مصيف لمن لا يحب الشتاء، ومشتى لمن لا يحب الصيف، وكانت ملاذا آمنا لمن لا يحب السلطة الحاكمة، فمنذ غزو الإسكندر بلاد الرافدين واستقراره في بابل، وحصول منيّته فيها، اشتكى قادته من صعوبة مطاردة الثوار الذين لم يرغبوا في حكم المقدوني لبلادهم التي امتهنت صناعة الإمبراطوريات والممالك؛ منذ سلالة أور الأولى وحتى أحفاد سنحاريب ونبوخذ نصر. حين كانوا يصفون تلك المناطق المغطاة بالمياه والقصب بأنها مناطق يصعب على الخيالة الدخول إليها، وكان المحاربون العراقيون يصطادون جنود المقدوني بالنبال من خلف أشنات القصب والزوارق، كمن يصطاد الطير، ففضل أن يقف عند حدود بابل، وأن لا يذهب جنوبًا حيث كانت أمنيته أن يجتاح مملكة فارس من خلال أراضي ميسان وبطائح سومر. منذ الغزو المقدوني، مرورًا بثورة الزنج على خلافة بني العباس، ومقاومة الاحتلال الإنكليزي، ومواجهة الحكم الشمولي الذي أفرى كبد العراق باجتثاثه كلمة الأهوار من معجم الجغرافيا العراقية، بل العالمية، منذ تلك الموجات، بقيت الأهوار، وذهب الغزاة. لكنها الآن ترنو بحزن إلى من وعدها بالعودة إلى سيرتها الأولى: بحيرة للمصطافين والمشتين، ومتحفـًا للآثار، وسلـة للغذاء، فلم يفعلوا إلا القليل القليل!
عاشت الأهوار التي تعاني اليوم حزن عولمة القرن الحادي والعشرين، وخناجر السدود الكثيرة التي وضعتها إرادات الدول التي يمر فيها نهرا دجلة والفرات وهما قناتا تغذية هذه المسطحات، التي عاشت منذ تكلمت الأساطير؛ وكتبت الحضارة؛ منذ أحلام أونوبشتم الذي يرادف أسطورياً نوحًا (ع) في صناعة الفـُلـْك، كي يخلص المؤمنين من عذاب الرب وحكمه على أولئك الذين لم يذعنوا إلى هداية السماء، وكانت القصة وردت بذات المعنى، في أسطورة الطوفان، وهي تتحدث عن أماكن مغطاة بالماء، ويعيش أهلها في بيوت عائمة مصنوعة من القصب، ويتنقلون بالزوارق الخفيفة (الشخاتير) التي طليت قيعانها بالقير الأسود الذي كان يجلب من مدينة أور، مادة القير ذاتها كان يستخدمها السومريون في بناء المعابد والبيوت، كما نشاهدها اليوم في بيوت مدينة أور وزقورتها الأثرية، وسقوف الأقبية في مقبرة أور المقدسة التي اكتشفها العالم الأثري ليوناردو وولي في عشرينات القرن الماضي. وكانت أغلب مدن الحضارة الأولى هي التي تقع قرب ضفاف تلك المياه المحصورة بين مجري النهرين، وربما كانت تلك المناطق، قبل أن ينحسر عنها مدّ الطوفان، وتأخذ شكلها الطبوغرافي الحالي، امتدادًا للخليج العربي الحالي، وهذا ما اعتقده وولي عند تنقيباته في أور، ودراسة طبقات التربة، كما أرتنا الألواح الأثرية والمسلات وما نقش على جدران المعابد والأختام، أن مدينة أور قبل آلاف السنين كانت تقع على ضفاف الخليج العربي وكانت ميناءً كبيرًا، ليبقى من هذا المسطح المائي تلك الأماكن التي ميزتها غابات القصب والطبيعة الفريدة لحياة أهلها، وهم يعتمدون في حياتهم ومعيشتهم على صيد السمك والطير والمنتجات التي يدخل القصب في صناعتها. وقد تميزت مناطق الأهوار بأنها كانت أمكنة للوعي الإنساني الأول عندما اكتشف الإنسان أفكار صناعة الرؤية القدرية للخلق، من خلال محكيات الأساطير والقداسات، وأنها، أيضا، كانت مكانا أزلياً لبعض الديانات النازحة إليها مثل الديانة المندائية التي يعتقد أنها تنحدر من أصول مناطق تقع في إيران، محاذية تمامًا لحدود الأهوار العراقية؛ تلك التي تسمّى، اليوم، مناطق الطيب في العمارة، وإقليم الأحواز في إيران. والبعض يعتقد أن المندائية ديانة سورية نشأت في أعالي الفرات ومدينة حران. وربما كان مسرح الأهوار قد قامت فيه ديانة سماوية أخرى، هي الديانة اليهودية. ومقام «العُزَيْر» الذي يقع على ضفاف دجلة في ناحية العزير، قرب قضاء قلعة صالح في العمارة، وهو مرقد لكاهن يهودي يُعتقد أنه أتى إلى بابل مع الآتين من سبي نبوخذ نصر ليهود أورشليم، وجلبهم إلى عاصمته بابل، وأنه توفي في هذا المكان في رحلة تفقدية وتبشيرية إلى أبناء طائفته في تلك المناطق. ومثله كان ذي الكفل في منطقة الكفل في الحلة، وكلا المقامين؛ مقام العزير، وذي الكفل، يتبرك بهما أهالي المنطقة من شتى الديانات ويزاران في مواسم معلومة.
لم يشأ أحد من الطغاة أو الولاة الجائرين طوال أزمنة العيش في هذه البطائح، أن يُخضع أهلها لمشيئته ومُلكه، ولهذا كانت القبائل العربية المتمردة على جبروت المستعمر، منذ فارس وحتى الإنكليز، وما تلاهم من أنظمة حكمت بعد الاستقلال، تجعل من الأهوار ملاذا آمنا لتتجنب قسوة المحتل وظلمه، ومن الأهوار تقود مقاومتها لذلك المستعمر. ففي مذكرات القائد البريطاني لمنطقة المنتفك قوله عن الشيخ بدر الرميض شيخ آل بو صالح قوله: «كان يهاجمنا في البر والحقول وينسحب إلى عمق الهور أي إن القصب والماء كان قاعدته الأمينة بعد أن أحرقت مدافعنا دياره كلها ومضائفه».
ميزت صفة المقاومة هذا المكان. أصبح في نظر الآخرين مكانا للعزلة والابتعاد عن المدنية، وبسبب هذه النظرة الخاطئة أهملت الحكومات والأنظمة هذا المكان، وجعلته يؤسس لحياته نمطاً من الحياة الصعبة والخشنة، وتكيف الإنسان في الأهوار في حياته وخضع للطبيعة القاسية وقدرها فكان معرضاً للأمراض الفتاكة والعزلة الحضارية عن المحيط، ليموت في صمت تلازمهُ قناعة عجيبة وعزة نفس. ولهذا كتب ويلفرد ثيسكر صاحب كتاب «المعدان» وهو يصف تجربة العيش مع عرب الأهوار الذين يمتلكون التسمية المثيرة للجدل والتفاسير والصفات المتعددة «المعدان» بأنهم كانوا يشعرون مع تأثير حبة الأسبرين التي يتناولونها لأول مرة وتزيل عنهم الصداع، بأنها كمن يعمل لهم سحرًا من الجان ليشفيهم.
لا أعرف اسم المسؤول (المُبطر) الذي أطلق على أهل الأهوار لقب شعب «الدشاديش» المعمرة، وهو لم يكن يبغي مديحًا لأولئك الناس البسطاء، بل تقليل من قيمتهم. وعليه أن يعرف أنّ هؤلاء هم من صنعوا قيمة المكان وخصوصيته، ومثلت حياتهم، في فطرتها البدائية، جزءًا مهمًّا من الحياة البِكر الخصبة النقية التي أسست لذاكرة المكان؛ تميزه بين كل بيئات الأرض لتجد أوراق الدهشة تملأ دفاتر وكتب الرحالة والمكتشفين، وهم يصفون حياة لا تصبغها ألغاز وجودها القديم، فلقد كان القصب والماء والسمك والطير والزوارق وحقول الرز تحكي حكاية واحدة منذ حلم الملك كوديا وحتى اليوم.
كلهم كانوا يكتبون عن براءة ترتدي الثوب المُعمر كما استهزأ بهم المسؤول القديم، ولقد وجدوا في بطانة هذا الشعب قيمًا أصيلة وثباتـًا وحكمة، والتصاقـًا بقدسية الموروث وأزليته، فعندما درست المستشرقة البريطانية الليدي دراور حياة المندائين، فهي لم تذهب إلى حواضر المدن حيث يسكن الأقرب إلى الحضارة، كما في مدن البصرة والناصرية والعمارة، بل ذهبت لتعيش معهم حيث كان يسكن الغالبية منهم في مدن الأهوار، في مدن مثل قلعة صالح والكحلاء، وهناك عرفت منهم طبيعة المكان وخصوصيته الاجتماعية والروحية، لتكتشف أنها قد وجدت شعبًا يمتلئ بسمو الروح، وعشق لذاكرة المكان وخصوصيته، لهذا فهي لم تستغرب من تعلق المندائين بالمكان، كما يتعلق أهله الأصليون من العرب الذين عانوا في فترة من الفترات، التشكيك في أصولهم، وراجت، منذ البعيد، فكرة داخل المدن القريبة من الأهوار بالخوف والحذر من هؤلاء الناس، لا سيّما أولئك الذين يطلق عليهم لقب المعدان. والمفارقة أنّ الأجانب، من الرحالة وموظفي الإدارة الاستعمارية البريطانية، وحدهم من كتب وكشف عن المعدن الأصيل لهؤلاء الناس، وربما هم، قبل غيرهم، من وثق بالصورة والكتاب حياة أولئك الناس لترينا المجموعة الفوتوغرافية لكالفن يونغ، وماكسويل، صورًا رائعة بالأبيض والأسود لحياة هؤلاء الناس، وقد أضفتُ جميع هذه الصور ملحقا في الطبعة الأولى لكتابي عن الأهوار. وفيه يمكن أن يستشعر الرائي والناظر طبيعة الحياة ونقاء سريرة الذات التي يمتلكها أهل الأهوار، وكان شيوخهم وعلية القوم عندهم من الحكمة والبصيرة وإدارة الأمور بين أفراد العشيرة أو التجمع السكاني بالعدل والمساواة، وربما رؤية الجوع والعوز تكاد تكون مفقودة بين أفراد ذلك الشعب الذي لم يكن يطلب من الحياة الكثير سوى سلامة حيوانه، وبقاء جبيشة القصب التي يهجع عندها سالمة من غضب الريح والمياه، ولكن بعدما جففت الأهوار وانحسرت المياه، في حروب العبث، بدأ شبح الجوع والعوز والحزن يظهر على محيا الوجوه السمر لأولئك الناس الطيبين الذين استبشروا، مع أحلام العودة لديارهم، بأن حياتهم ستعاود نشاطها مرة أخرى وأن عليهم أن يمارسوا العاطفة المدهشة مع أنغام القصب ورقصات السمك وتلك المواويل التي ينث منها مطر الحزن السومري منذ أن تحرك نوح (ع) بسفينته صوب بر الأمان وحتى الساعة.