17 نوفمبر، 2024 7:50 م
Search
Close this search box.

ثمار الكارما

لأسباب يصعب تحليلها أو قبولها كليا أشعر بأننا نختبر أو نعايش تجربة أو طاقة شبيهة بالفعل الذي قمنا به، كما لو أن صدى أفعالنا يعود إلينا والدافع الكامن خلف الفعل هو المُعَوَّل عليه أو هو المعيار. فإن سببنا النجاح والسعادة والراحة والبهجة والنماء للآخرين وساعدناهم في آمالهم وتطلعاتهم وحافظنا على سمعتهم فإننا سنلاقي مثل هذه الأمور مستقبلا والعكس صحيح، أي إذا كنا سببا في إخفاق وأذية أو تعاسة الآخرين أو عوائلهم وساهمنا في إعاقة أو منع تطورهم وتدمير رغباتهم أو شوهنا سمعتهم بطريقة مباشرة أم غير مباشرة فإن تلك الطاقة ستعود إلينا يوما ما ونعايش وضعا شبيها بالذي خلقناه بأفكارنا أو صنعناه بأيدينا.
تندرج الأفكار أعلاه تحت مفهوم الكارما karma، والذي يعني في اللغة السنسكريتية – أي لغة الهند القديمة- “الفعل وثماره”. الكارما أن تجد نفسك تتصرف ضد إرادتك ورغبتك والإحساس كما لو أن حاجة قوية تدفعك للقيام بأمر ما، أو كأنك مكره أو مرغم داخليا على أن تسلك بهذا الشكل أو أن ترتكب ذلك التصرف دون تفسير أو تبرير مقنع. الكارما أن تعيش أحداثا لا تحبها أو أن تعمل في بيئة غير مشجعة وتتعامل مع أناس لا يربطك معهم انسجام حقيقي ولا توجد ألفة بينك وبينهم. الكارما تعني أيضا السبب والنتيجة، أي أن لكل إنسان سجلا معينا من التجارب المفرحة أو المحزنة كان قد غرس بذورها في وقت مبكر من هذه الحياة أو في حيوات سابقة، وعلينا إدراك أن كل لحظة في حياتنا، كل بهجة أو حزن ممكن تتبع مصدره في دواخلنا.
السبب الذي نريد من أجله أن نفهم الكارما هو منع آلام ومعاناة المستقبل وتأسيس درب يفضي بنا إلى التحرر والانعتاق من ربقة القيود الكارمية karmic bonds، لأنه بفهمنا ووعينا وإيماننا بأن ما نصنعه ستعود عواقبه علينا فإننا نراعي اليقظة ونتجنب الفعل أو السلوك الهدام أو المخرب، ونركز على ما هو بناء وبهذا نزيد من فرصة إحساسنا بالسكينة والسعادة والازدهار والسلام مستقبلا.
من ناحية التسلسل التاريخي أكدت التعاليم البوذية على أننا ما نفكر ونفعل ونقول، وأننا مسؤولون بشكل كامل عن خلق واقعنا الشخصي ولا توجد قوة خارج أنفسنا ترسم لنا أقدارنا حسب ما تشتهي.
ويرى حكماء الهنود أن الأفعال الجيدة أو الرديئة تخلق انطباعات أو ميولاً في العقل والتي بمرور الزمن تأتي بالإثمار أو التحقق لتكون سببا لنتائج مقبلة وهكذا نبقى ندور في حلقة مفرغة من الظروف والأوضاع التي أوجدناها أو بنيناها بأنفسنا.
الغرض أو الهدف من الحياة وفقا للمنظور الهندوسي هو أن نقلل أو نخفض إلى الحد الأدنى “العواقب الكارمية” السيئة من أجل أن نستمتع أو ننعم بحظ أفضل في هذه الحياة ونحرز ولادة جديدة أحسن حالا من التي نحن فيها.
وفي اليهودية يرد على لسان أيوب:” كما رأيتَ أنَّ الحارثين إثما والزارعين شقاوة يحصدونها”.
وتناشد المسيحية الإنسان مذكرة إياه بأفعاله وأفكاره كما لو انه صاحب حقل وعليه الانتباه لنوع البذور التي يغرسها “: كما تزرع ستجني، أو عامل الآخرين كما تحب أن يعاملوك، أو افعل للآخرين كما تحب أن يفعلوا لك” أو:” فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضا.لأنّ هذا هو الناموس..”.
ونجد شيئا قريبا من ذلك في الإسلام، إذ يُذكر ستجزى كل نفسٍ بما كسبت أو لسوف يحاسب كل إنسان بعدل مطلق على عمله:” فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”. أو:” ولا تزر وازرة وزر أخرى”. أو :” إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس..” إلى آخره. وفي الفيزياء الشيء نفسه لكل فعل رد فعل يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتجاه.
بالطبع من خلال مراقبتنا للمجتمع فإن الظواهر الحياتية ليست هكذا على الدوام، حيث نرى بعض الأحيان إنسانا طيّبا ومحبّا لفعل الخير لكنه يلاقي الشر والإساءة والاستغلال وآخر بطبعه يحيد عن جادة الصواب ويظلم ويسيء للآخرين ويعتدي على حقوقهم لكن حياته تبدو مزدهرة وعلى ما يرام فما السر أو أين العدالة في ذلك؟! الإجابة ان الأفعال عموما تحتاج إلى وقت لكي تثمر، مثلها مثل البذور تختلف من ناحية حاجتها للوقت وظروف الاحتضان الملائمة لكي تنمو وتزهر، أي في المحصلة أو النهاية سيجزى أو يواجه الإنسان نتيجة أفعاله في هذه الحياة أو غيرها خيراً كانت أم شراً. خلاصة القول إن الأفعال والأفكار والكلمات الإيجابية تثمر السعادة وتجلب لنا أشياء جميلة وممتعة، والأفعال والأفكار والكلمات السلبية تأتي لنا بالتعاسة والمعاناة والأحزان آجلا أم عاجلا.
إذن ما الحل إذا كانت ظروف حياتنا ليست تحت سيطرتنا أو أن البيئة التي عشنا فيها سلبية أو أننا كنا جهلاء بالقانون وأخطأنا بحق أنفسنا والآخرين؟ الحل: إن الحياة الإنسانية، أيّ حياة هي شبكة متداخلة من الأفعال والرغبات والآمال والأهداف والنجاحات والاخفاقات، وانها مملوءة
بالصعوبات والتحديات والامتحانات في كل يوم تقريبا، والاختيارات ليست سهلة أبدا كما توحي به الكلمات السابقة.. لكن ثمة مبادئ أو مفاتيح تخلصنا أو تقلل من تشوشنا واضطرابنا وتبعث الراحة في حياتنا والأمل في مداواة أرواحنا ومعالجة جراحنا حتى يضمحل عذابنا ويتلاشى ونشفى من آلامنا تماما: مثل الوعي أو اليقظة، الندم، التوبة، قطع العهد على عدم تكرار الذنوب أو الأخطاء، تجنب الصدام أو الاشتباك مع الآخرين لأنّ كل تصادم وإن كان صغيرا سيؤخر أو يعيق انعتاقنا ويترك أثراً سلبياً في العقل والروح لا يمحى بسهولة ويستلزم وقتا للشفاء منه، تدارك الأخطاء أو الأحداث المؤلمة قبل وقوعها بتجنب القيل والقال والتطرق إلى سيّر الناس- كل الناس- على نحو غير إيجابي، كما عدم البحث عن إيجاد عيوب في شخصياتهم ومحاولة التركيز على إيجابياتهم والجانب المشرق في نفوسهم، والابتعاد عن استخدام الكلمات النابية أو الجارحة لأنها تؤذي الذي يتلفظ بها والمخاطب أو الموجهة إليه أيضا.
وإذا ما داهمتنا الخطوب أو الأرزاء رغم احترازنا يتوجب علينا أن نحتفظ بهدوئنا ونحشد قوانا النفسية ونناضل ونكافح من أجل التغلب على المحنة كي نعيش حياة أفضل وان لا ندع تلك المرارة أو ذلك البلاء يسرق سعادتنا ويجعلنا نرتمي في أحضان الهوان. قبول ما حدث أو وقع لأننا لسنا في سيطرة على ما يفعله أو يتلفظ به الغير أو حتى على أنفسنا بعض الأحيان، المَغْفرة أو الصفْح عن النفس والآخرين، تجاوز الوقائع المريرة بعد تعلم الدروس منها والتطلع نحو المستقبل حيث الحرية والابتعاد عن نفايات الماضي الجافة أو اليابسة.
[email protected]

أحدث المقالات